ذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني أن رجلاً قال لجرير: من أشعر الناس؟ قال له: قم حتى أعرفك الجواب، فأخذ بيده وجاء به إلى أبيه عطية وقد أخذ عنزاً له فاعتقلها وجعل يمص ضرعها فصاح به: اخرج يا أبت، فخرج شيخ دميم رث الهيئة وقد سال لبن العنز على لحيته، فقال: أترى هذا؟ قال: نعم، قال: أو تعرفه؟ قال: لا قال: هذا أبي، أفتدري لم كان يشرب من ضرع العنز؟ قلت: لا، قال: مخافة أن يسمع صوت الحلب فيطلب منه لبن، ثم قال: أشعر الناس من فاخر بمثل هذا الأب ثمانين شاعراً وقارعهم به فغلبهم جميعاً.
قيل لجرير له: ما كان أبوك صانعاً حيث يقول:
لو كنــتُ أَعْلَــمُ أن آخِــرَ عَهْدِكُــمْ
يوْم الرَّحيــلِ فعلـــتُ ما لَـمْ أفْعَـلِ
قَالَ: يَقْلَعُ عينه وَلا يرى مَظْعَنَ أحبابه.
وقال في الأغاني أيضاً: قال مسعود بن بشر لابن مناذر بمكة: من أشعر الناس؟ قال: من إذا شئت لعب، ومن إذا شئت جد، فإذا لعب أطمعك لعبه فيه، وإذا رمته بعد عليك، وإذا جد فيما قصد له آيسك من نفسه، قال: مثل من؟ قال: مثل جرير حيث يقول إذا لعب:
إنّ الذِيــنَ غَـــدَوْا بِلُبّــكَ غَــادَرُوا
وشْـــــلاً بعينــكَ ما يــزالُ معينــا
غَيّضْـنَ مــنْ عَبَرَاتهِــنّ وَقُلْــنَ لي:
ماذا لقيــتَ مـنَ الهــوى ولقينــا
وَلَقَدْ تَسـَقّطَني الوْشَـاة ُ فَصَادَفـُوا
حصــراً بســركِ يا أمـــيمَ ضنينـــا
ثم قال حين جد:
إنَّ الــذي حـــــرمَ المكـارمِ تغلبــاً
جعـــلَ النبــوة َ والخلافـــة َ فينــا
هلْ تَملِكُونَ مِــنَ المَشـاعِرِ مَشـعَراً
أوْ تَشْــهَدُونَ مَــــعَ الأذَانِ أذِينَــا
مضـرٌ أبـي وأبـوُ الملـوكِ فهـلْ لكمْ
يا خــزرَ تغلــــبَ مــنْ أبٍ كأبينــا
هذا ابن عَمّــي في دِمَشْــقَ خَلِيفَـةً
لو شـــئتُ ســـــاقكمُ إليَّ قطينـــا
قال: فلما بلغ عبد الملك بن مروان قوله قال: ما زاد ابن المراغة على أن جعلني شرطياً له، أما إنه لو قال أو شاء ساقكم إلي قطينا لسقتهم إليه كما قال، قلت: وهذه الأبيات هجا بها جرير الأخطل التغلبي الشاعر المشهور.. جرير:
بَانَ الشـــــّبَابُ فُوَدِّعَــاهُ حَمِيــدَا
هلْ ما ترى خلقــاً يعــودُ جديـــدا
يا صَاحِبَيّ! دَعَا المَلاَمَـة وَاقصــِدا
طالَ الهــوى وأطلتمــا التفنيــدا
إنّ التّذَكّــــرَ، فاعْذِلانــي، أوْ دَعَــا
بلـــغَ العـــــزاءَ وأدركَ المجلـــودا
لا يستطيعُ أخو الصبابة ِأنْ يرى .............. حَجَراً أصَمّ، وَلا يكُونَ حَدِيدَا
ساحة النقاش