عبدالله خليفة
عجزت النخبُ السياسيةُ والعسكرية والفكرية المصرية عن الانتقال لمرحلةٍ ديمقراطية حقيقية، وتواجه في خلال ذلك جناحي الطبقةِ الوسطى المتمثلين في المجلس العسكري المسيطر على النظام وجماعة الإخوان المسلمين المسيطرةِ على أغلبيةٍ شعبية سنية متدينة.
عمل المجلسُ العسكري على بقاءِ العلاقات السلطوية البيروقراطية المتوارثة التي تعطي العسكريين والسياسيين الحكوميين هيمنةً مطلقةً على الحكم بعد ثورةٍ شعبية رافضة لهذا الحكم العسكري المطلق.
وقد ناورَ منذ البداية باعتبارهِ وليد وتتويجَ هذه الثورة في حين أنه جاء فقط لتسلسلِ النظام وعدمِ وجود قيادة له، فظهرَ كأنه مصادفة محضة انتقالية لحين ظهور سلطة حقيقية تنبثقُ من الثورة، لكنه ما أن استقر قليلاً في الحكم حتى قام بتجذيرِ نفسه، في ضوءِ المعطيات المحلية والإقليمية والعالمية المتصاعدة بتأييده، فالانفلاتاتُ الأمنية والاضطراباتُ الاجتماعية الدامية عبرت عن عدم وجود قيادة حقيقية للثورة تفرضُ نفسها وسلطتها وتقدم التغييرَ المنشود شعبياً.
فقد جاءتْ الثورةُ بأشكالٍ مبرمجةٍ ذاتية من قبل القوى الشبابية الجديدة سياسياً التي تفتقدُ شبكات التنظيم السياسية المتغلغلة بين طبقات الشعب المختلفة.
وهي إذ استطاعتْ جذب الجماهير الواسعة لكنها لم يكن لديها فكر متجذر له قوى على الأرض، فهي لا تعرفُ عن من تعبر، وهي فئاتٌ وسطى مدنيةٌ مفتتةٌ متذبذبة، لم تشكلْ وتصممْ رؤيةً فكرية سياسية تحالفية من خلال تنظيمات جبهوية فافتقدتْ الشبكةَ القادرة على إحداث تغيير في البناء الاجتماعي.
إن من فجّر الثورةَ أُخرِجَ منها. وكانت المليونيات مظهراً للتحشيد وتوافقات القوى السياسية وهو الأمرُ الذي أدى إلى صعود القوى التي لديها أكبر شبكة سياسية جماهيرية؛ ثم بدأ المجلسُ العسكري يستعيدُ شبكته السياسية الجماهيرية التابعة للنظام السابق، التي تخلخلتْ بعد الثورة وانحاز الكثيرُ منها للغالب وللوعود الثورية الهائلة المنتشرة في السماء السياسية، لكن التي لم يتحققْ منها شيء.
فبدأت هذه الأقسام بالعودة للهيكل العسكري السياسي البيروقراطي المسيطر الذي أعاد لملمة صفوفه وبدأت قدراته تتصاعد على الامساك بالنظام.
وسواءً صحتْ "المؤامرات" التي قيلَ إن المجلس افتعلها أو كانت من صراعات واضطرابات القوى السياسية التي لم تكوّن رؤية سياسية صلبة منتشرة بين الجماهير، فإن تسارعَ الاضطرابات وفقدان الأمن وعدم الاهتمام بعيش الجماهير وتحسين مستواها الاقتصادي جعل المجلس العسكري سلطةً حقيقيةً مستعادة من سلطة متجذرة قديمة.
إن القوى السياسية التحديثية هشةٌ لم تعمل خلال العقود السابقة على إستعادة البرنامج الديمقراطي المحدد في رأسمالية حرة ديمقراطية علمانية وتعددية الحكم وتداول السلطة، بسبب قصور الرؤية وتناقضات المشروعات السياسية الإقطاعية المختلفة، فبعضها متطرف إلى اليسار ولهزيمة العسكر وإخراجهم من السلطة تماماً، كحركة 6 أبريل، وتجده كذلك متطرفا لليمين عبر تأييده للقوى المذهبية السياسية المحافظة المؤدلجةِ للإسلام.
ليس المجلس العسكري سوى قمة الهرم الطبقي للإقطاع السياسي الذي هيمن خلال عقود بل قرون على السلطة وعاشَ على امتيازاتها، وصار للقوى العسكرية والبيروقراطية العليا مصالح كبرى في مؤسسات عسكرية إنتاجية واقتصادية وسياسية وإعلامية منذ 23 يوليو 1952.
وقد قام هذا الإقطاعُ بتفتيتِ الفئات الوسطى وجرها لمصالحه وتنحية خصومه، وضربَ تكوّنَ أيديولوجيتها التحديثية الديمقراطية العلمانية، فأسّس نظاماً يقومُ على هذه الدعائم، في حين أن الفئات الوسطى المُفتّتة مشروع الطبقة البرجوازية الحرة، لم تكن قادرةً على فهم خصميها الإقطاعِ السياسي الحاكم، والإقطاعِ الديني المعارض. فحدث تفتيتٌ آخر على مستوى القاعدة والمعارضة، استثمرتهُ القوتان التقليديتان على مستوى الحكم والمعارضة.
وهكذا فإن المجلسَ العسكري في تصعيدهِ للنظام القديم بشكلٍ جديد اعتمدَ على عجزِ المعارضة البنيوي، أي على خللِ الرؤيةِ البديلة لديها، أي على عدم قدرتها على تأسيس مشروع برجوازية حرة، يصعدُ دورَها كنفي له.
الخصمُ القوي للنظام وهم الإخوان المسلمون كانوا من جانبهم عاجزين عن صنع هذا البديل للخلل البنيوي العميق فيهم، فتكونهم الريفي المحافظ، وغياب رؤية دولة المساواة والمواطنة والحداثة والديمقراطية والعلمانية في تكوين تنظيمهم، الذي تغلغلَ فوق شرايين المؤسسات الدينية العتيقة، والمالية الربحية السريعة، لم تجعلهم قادرين على تكوين تلك الرؤية ومن ثم توحيد الشعب وتنظيم الجماهير للحلول مكان المجلس العسكري وما يمثلهُ من تقليدية سياسية وشمولية حكومية.
إنهم تقليديون مذهبيون عجزوا عن تغيير سياسيين محافظين تقليديين. لكن الأخيرين ظلتْ لديهم آلة الدولة القديمة وساعدتهم أخطاء القوى "الثورية" في البقاء وإعادة إنتاج النظام السابق بشكل محسن كما يبدو حالياً!
وقوى برجوازية ريفية مثقلةٌ بكلِ تاريخ العصور الوسطى، تغلغلتْ في المدن الكبرى على مدى نحو قرن ونقلتْ شبكاتها العبادية وتصوراتها وكما هائلاً من فيضٍ سكاني مقتلعٍ من أرضه، وضائع في سماء المدن، فيغدو الدينُ هو ملاذه من كل هذا الاضطراب، لكنه لا يستطيع أن يبني مدينةً عصرية ديمقراطية.
أصبحت الضرورة الممكنة تلوحُ في أفق مصر السياسي: وجود أحزاب جماهيرية تحديثية تشكل ذلك البرنامج الفكري السياسي الاقتصادي وتخلق الديمقراطية التعددية، وليس أن يعلن الحزب تعيين قبطي كنائب أو يعلن عدم فرض الحجاب، فهذا معناه عدم وجود الرؤية الديمقراطية التحديثية والدعاية بشكل تجاري. <!--EndFragment-->
نشرت فى 18 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
272,662
ساحة النقاش