د. إبراهيم أبراش
تستحضر التحركات الشعبية العربية وتداعياتها السياسية، وخصوصا في مصر، جدلا سبق وأن أثارته الديمقراطية منذ ظهورها الأول في القرن الخامس قبل الميلاد في أثينا القديمة، جدلا مستمرا حتى اليوم حول مفهوم الشعب ودوره في الحياة السياسية، وهو جدل وإن حدثت تفاهمات حول بعض عناصره إلا أنه لم يتم الحسم الكامل في مفهوم الشعب وحدود دوره في الحياة السياسية؛ وما زال مفهوم الشعب مفهوما غامضا وملتبسا ومن الصعب تحديده وضبطه.
فإذا كان نقاد الديمقراطية شككوا بإمكانية أن يحكم الشعب نفسه بنفسه حتى في الأنظمة الديمقراطية، فإن السؤال والشك يثار اليوم حول صحة القول بأن "الشعب" هو الذي قام بالثورة وحول قدرته على قيادتها وتوجيه مسارها؟.
وقبل معالجة موضوع التحركات الشعبية العربية ودور الشعب فيها لا بأس من العودة لموضوع الديمقراطية ومعنى حكم الشعب الذي تتضمنه.
يقول نقاد الديمقراطية إنه لم يحدث في تاريخ البشرية أن الشعب حكم نفسه بنفسه كما يوحي منطوق كلمة الديمقراطية، لأن ذلك أمر يجافي الطبيعة والعقل، حتى في أثينا القديمة التي أنتجت مصطلح الديمقراطية " Demoacratia" لم يكن مفهوم الشعب يتطابق مع مفهوم الشعب اليوم، بل كان الشعب آنذاك يمثل أقلية بالنسبة للعدد الكلي لسكان أثينا.
إن حكم الشعب الذي يوحي به مصطلح الديمقراطية مفهوم مُغَرِر، وفي ذلك يقول جان جاك روسو مؤكدا على استحالة تطبيق الديمقراطية: "الديمقراطية الحقيقية إذا ما استعملت هذه الكلمة في أضيق معانيها، لم توجد قط ولن توجد أبدا، لأنه مما يضاد النظام الطبيعي أن يلي الحكم العدد الأكبر وأن يخضع للحكم العدد الأصغر".
وبالتالي فإن التمايز بين الأنظمة لم يكن على أساس أنظمة ديمقراطية يحكم فيها الشعب أو أغلبيه من جهة، وأنظمة غير ديمقراطية لا يحكم فيها الشعب من جهة أخرى، بل بين أنظمة تحترم حقوق ومصالح الشعب وأنظمة لا تعير اهتماما ولا احتراما للشعب؛ وفي جميع الحالات فإن الشعب لا يريد أن يحكم بل يريد الحياة الكريمة وأن تؤخذ مطالبه بعين الاعتبار. وبالتالي فإن الشعب الذي تتضمنه مفردة الديمقراطية هو حالة افتراضية.
هذه الإشكالية عالجها رواد نظرية النخبة Eliete الذين يقولون بأنه في أكثر الأنظمة زعما بالديمقراطية اليوم فإن مَن يحكم ليس الشعب بل نخبة أو قلة أو جماعات مصالح ولكنها تراعي مصالح الشعب. فمثلا نجد جوزيف شومبيتر "Schumpeter Joseph" في كتابه "الرأسمالية والديمقراطية" ينتقد بشدة التفسير الذي يقول بأن الديمقراطية تفترض حكم الشعب، واعتبرها مجرد خرافات، فالشعب في نظره أعجز من أن يتمكن من حكم نفسه بنفسه، والمواطن العادي في نظره يتسم بالقصور وعدم المبالاة أمام الأمور السياسية.
وعليه، يطالب شومبيتر بتحويل مفهوم الديمقراطية من "حكم الشعب" إلى "حكم مُعتَمد من الشعب" أو "حكم لصالح الشعب"، لأن أقصى ما يطمح إليه المواطن العادي هو ممارسة حقه "في قبول أو رفض من سيحكمه من خلال العملية الانتخابية".
في نفس الاتجاه ذهب جيوفاني سارتوري "Giovanni Sartori" في مؤلفه "نظرية ديمقراطية Democratic theory" فقد انتقد المفاهيم الكلاسيكية للديمقراطية التي تضخم من أهمية ودور الشعب في الممارسة السياسية، فالمهم بالنسبة له ليس هو حكم الشعب بل ضمان الاستقرار السياسي في المجتمع حتى تتمكن الدولة من مواجهة التحديات الداخلية والخارجية خصوصا.
أما بالنسبة لأوسترو غورسكي فيقول في كتابه: "الديمقراطية والأحزاب السياسية": "إن الوظيفة السياسية التي تظطلع بها الجماهير في ديمقراطية ما، لا تقوم على حكمها لهذه الديمقراطية، بل الأرجح أنها لن تكون قادرة على ذلك على الإطلاق... فوظيفة الجماهير في ديمقراطية ما لا تقوم على تولي الحكم بل على تخويف الحكومات".
ويعتبر روبرت دال "Dahl Robert" من المفكرين المعاصرين الذين تناولوا الموضوع، حيث يرى في كتابه "الديمقراطية ونقادها" أن الحكم الأفضل هو حكم الأوصياء أو حكومة المؤهلين لأنهم أكثر قدرة على فهم مصالح المجتمع وتحسس احتياجاته وحل مشاكله، بينما الغالبية من الناس يجب أن تستثنى من حق ممارسة السلطة، لأنها إما جاهلة بالمصلحة العامة وبالأمور الاستراتيجية "كالطاقة النووية مثلا" أي أنها غير مؤهلة أو كَفُوءة لممارسة الحكم، أو أنها منشغلة بهموم الحياة العادية وغير مكترثة بالأمور العامة والسياسية.
هذا الجدل حول مفهوم الشعب ودوره يتجدد اليوم مع التحركات الشعبية العربية. لا نقلل من قيمة الشعب أو نهينه إن قلنا إن الشعوب وخصوصا العربية، سواء في زمن الثورات أو قبلها، وسواء في ظل أنظمة "ديمقراطية" أو "ثورية " أو "استبدادية" هي مجرد جموع أو أداة يتم توظيفها والتلاعب بها لتحقيق مصالح قلة أو نخبة كما يجري مع توظيف الدين، وإن كل ما يقال عن إرادة الشعب أو ادعاء جهة ما أنها تمثل الشعب، هو مجرد نفاق وكذب على الشعب، سواء كان القائلون بذلك من صفوف المعارضة أو كانوا على سدة الحكم، وسواء رفعوا شعارات دينية أو ثورية أو ديمقراطية، مع عدم تجاهل صدق نوايا القوى الوطنية والثورية في العمل لمصلحة الشعب، ولكن الشعب كحالة افتراضية.
الشعب الحقيقي الذي نلمسه ونراه في مختلف مسارب الحياة: في الحقل والمصنع وفي ورش العمل وفي الحواري الشعبية وتحت الجسور والكباري، حيث يفترش الأرض ويلتحف بالسماء، الشعب الذي يعاني من الفقر والجوع والجهل وسوء الخدمات الطبية.. الخ، ليس الشعب الذي يتحدث عنه السياسيون والقادة. الأول هو الشعب الحقيقي، أما الثاني فهو حالة افتراضية أو صيغة سياسية يتم توظيفها لخدمة نخب وأصحاب مصالح قد تلتقي أو لا تلتقي مصالحهم مع مصالح الشعب.
الشعب في الحالة الأولى هو عامة الناس أو "العامة" حسب التقسيم الاجتماعي الطبقي الروماني القديم، أما الشعب الثاني الذي تتحدث عنه النخبة وتعتبر نفسها جزءا منه وتنصب نفسها ناطقة باسمه فهو حالة افتراضية لا وجود لها في الواقع السياسي العربي.
وعليه عندما يُقال ثورات شعبية أو تحركات شعبية فعلينا التدقيق من هو "الشعب" الذي تحرك؟ وهل تحرك من تلقاء ذاته أم هناك قوى قامت بتحريكه؟
عندما خرج "الشعب" إلى الشوارع في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا، قيل إنها ثورات شعبية، وإن الشعب يريد إسقاط النظام- مع التباس مفهوم إسقاط النظام.. الخ، ولكن هل الشعب العربي الحقيقي هو الذي طلب التدخل الخارجي الأطلسي والأمريكي؟ وهل باتت ميول وتوجهات الشعوب العربية أمريكية وأطلسية الهوى؟ هل الشعب الليبي يريد الفتنة وتقسيم ليبيا وهما من إفرازات الثورة؟ هل الشعب السوري يريد الحرب الأهلية وتقسيم سوريا وتدمير مقدرات الدولة وهو ما يجري اليوم؟ وإذا كان الشعب المصري هو الذي خرج يوم 25 يناير، فهل يمكن وصف الخمسة مليون شخص الذين انتخبوا أحمد شفيق بأنهم الشعب أيضا أم "فلول" لا علاقة لهم بالشعب؟ وهل إذا انتخب الناس جماعة الإخوان المسلمين مثلا يكونون من الشعب وإن انتخبوا غيرهم يكونون أعداء الشعب؟ وإذا كان الشعب أسقط زين العابدين في تونس، فهل الذين يخرجون في شوارع تونس اليوم ويتم قمعهم يمكن وصفهم بالشعب أم إنهم من خارج الشعب؟
وبصفة عامة ما هو المقياس الذي يمكن أن نقيس به الشعب وما يريده الشعب؟ هل هي الملايين التي تذهب لصناديق الانتخابات؟ أم مئات الآلاف الذين يخرجون إلى الشوارع؟ أم الشعب كحالة افتراضية تتحدث عنها الأحزاب؟ وهل الذين حلوا بعد الثورة محل الحكام الساقطين، يمثلون الشعب بالفعل وبالتالي ما على الشعب إلا أن يعود للبيت ويسلم أمره للحكام الجدد الذين سيدتهم "الثورة الشعبية"عليه؟ وحتى بعد إجراء الانتخابات، فهل أعضاء المؤسسة التشريعية يمثلون الشعب ويعبرون عن إرادته بالفعل؟... الخ.
كما أشرنا، ليس مرامنا التقليل من أهمية الشعب ولا دوره ولا عدالة مطالبة، ولكن المرام تحرير العقول من خطاب مضلل ظهر خلال الثورة واستمر إلى اليوم يريد مروجوه، من نخب وقوى سياسية، تبرير كل تصرفاتهم من أجل الوصول للسلطة وتبرير علاقاتهم وتحالفاتهم الخارجية بأنها من أجل الشعب وبتفويض منه!! نعم خرجت جموع شعبية قهرها الفقر والبطالة وإهانة الكرامة إلى الشارع بداية الثورة، ورفعت شعارات ومطالب عادلة، ولكن بعد ذلك استلمت نخب وجماعات مصالح مقاليد الأمور وباتت توجه الشارع بما يخدم أهدافها، وتوقف دور الشارع أو الشعب على أن يكون مقررا في مجريات الثورة، حيث تحولت الجموع الشعبية لمجرد ورقة تهدد بها النخب الجديدة منافسيها.
الذين تحاوروا وتفاوضوا مع الأمريكيين وحلف الأطلسي والأمم المتحدة ليسوا الشعب، بل جماعة مصالح لها أجندة خاصة، والذين دخلوا بمساومات مع مؤسسة الجيش والنظام السابق في مصر وتونس واليمن ليسوا الشعب بل نخب وجماعات مصالح لها أجندة خاصة. ويبدو أن غالبية الشعب انسحبت من الميدان محبطة لترك الساحة للقوى والنخب المتصارعة على السلطة.
عندما يهدد مسؤولون في جماعة الإخوان المسلمين أو غيرهم بالعودة للثورة إن فاز شفيق، فهذا يسيء للشعب ويشكل خروجا عن مفهوم الثورة لأن الشعب ليس أداة أو مجرد جموع منصاعة يتم إخراجها للشارع بقرار حزبي، كما أن الثورة لا تندلع بقرار من حزب فشل في الانتخابات أو فقد مصداقيته عند الشعب بعدها، وإلا كنا أمام انقلاب وليس ثورة.
<!--EndFragment-->
نشرت فى 18 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
276,787
ساحة النقاش