تسابق العرب في الفخر بمكارم الأخلاق، وضربوا المثل في حسن الأخلاق، وعلى رأسها الكرم، الذي فاق كل متوقع وكل مألوف، وكان الكرم أول ما تفاخر به شعراؤهم.
تراهن ثلاثة من العرب من قبيلة كلب على أن يختاروا من تميم وبكر نفراً ليسائلوهم، فأيهم أعطى، ولم يسألهم عن نسبهم من هم فهو أفضلهم، فاختار كل رجل منهم رجلاً، والذين اختيروا عمير بن السليك، بن قيس بن مسعود الشيباني، وطلبة بن قيس بن عاصم المنقري، وغالب بن صعصعة المجاشعي أبو الفرزدق، فأتوا ابن السليك فسألوه مائة ناقة، فقال: من أنتم؟ فانصرفوا عنه. ثم أتوا طلبة بن قيس، فقال لهم مثل قول الشيباني، فأتوا غالباً، فسألوه، فأعطاهم مائة ناقة وراعيها، ولم يسألهم من هم فساروا بها ليلة، ثم ردوها، وأخذ صاحب غالب الرهن، وفي ذلك يقول الفرزدق:
وإذا ناحبَت كلبٌ على النـاس أيهـم
أحــــــق بتـــاج الماجـــد المتكــرمِ
علـى نفرهـم مــن نــزار ذوي العـــلا
وأهــل الجراثيـــم التــي لم تهــــدمِ
فلم يجــزِ عـن أحسـابهم غيـر غالـب
جــرى بعنـــان كل أبيــض خضــرمِ
أجدبت بلاد تميم، وأصابت بني حنظلة سنة في خلافة عثمان، فبلغهم خصب عن بلاد كلب بن وبرة، فانتجعتها بنو حنظلة، فنزلوا أقصى الوادي، وتسرع غالب بن صعصعة فيهم وحده دون بني مالك بن حنظلة، ولم يكن مع بني يربوع من بني مالك غير غالب، فنحر ناقته فأطعمهم إياها، فلما وردت إبل سحيم بن وثيل الرياحي حبس منها ناقة، فنحرها من غد، فقيل لغالب: إنما نحر سحيم مواءمة لك - أي مساواة لك - فضحك غالب، وقال: كلا، ولكنه امرؤ كريم، وسوف أنظر في ذلك، فلما وردت إبل غالب حبس منها ناقتين، فنحرهما، فأطعمهما بني يربوع، فعقر سحيم ناقتين، فقال غالب: الآن علمت أنه يوائمني، فعقر غالب عشراً، فأطعمها بني يربوع فعقر سحيم عشراً، فلما بلغ غالباً فعله ضحك، وكانت إبله ترد لخمس، فلما وردت عقرها كلها عن آخرها، فالمكثر يقول: كانت أربعمائة، والمقل يقول: كانت مائة،فأمسك سحيم حينئذ؛ وكان الفرزدق يومئذ مع أبيه وهو غلام، فجعل غالب يقول: يا بني، اردد علي، والفرزدق يردها عليه، ويقول له: يا أبت اعقر، قال جهم: فلم يغن عن سحيم فعله، ولم يجعل كغالب إذ لم يطق فعله. الفرزدق:
مَضَـتْ ســَنَةٌ لَـمْ تُبْـقِ مــالاً، وَإنّنَــا
لَنَنْهَضُ فـي عامٍ مـن المَحـِل رَادِفِ
فَقُلـتُ: أبـانُ بـنُ الوليـدِ هــُوَ الّذِي
يُجِـيرُ مِـنَ الأحْـداثِ نِضْـوَ المَتالِـفِ
فَتـىً لمْ تَـزَلْ كَفّـاهُ في طَلَـبِ العُلـى
تَفِيضَـــانِ سَـحّاً مـِنْ تَليـد وَطـارِفِ
لَعَمْرـُكَ ما أصْبَحْـتُ أنْثُــو عَزِيمَتـــي
وَلا مُخْـدِرٌ بَيـنَ الأمــــورِ الضّعــائِفِ
ساحة النقاش