عمرو أبو الفضل
كان الإمام ابن العربي من أفقه علماء القرن الخامس الهجري، وحقق مكانة فريدة بين الناس والعلماء بالورع والشدة في سبيل الحق والبذل لتحقيق المصلحة العامة، تسببت في إثارة حقد المنافسين والفاسدين والبغاة والمتفقهة بلا علم ولا ورع، فحرضوا عليه العامة فنهبوا داره واخرجوه من بلده. وقال الدكتور مصطفى الدميري الأستاذ بجامعة الأزهر: ولد أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن العربي المعافري، بمدينة إشبيلية في سنة 468 هـ، وتوفي رحمه الله 7 ربيع الأول سنة 543 هـ، بمدينة فاس. ونشأ في بيت علم وحسب ونسب، فقد كان أبوه عبد الله بن محمد بن العربي من كبار علماء الدولة ووجهاء أعيانها، وبدأ تلقى العلم بحفظ القرآن الكريم، وهو في التاسعة من عمره، وعكف على ضبطه لمدة ثلاث سنوات، وأخذ علوم اللغة العربية وعلومها والحساب والقراءات وبلغت نحو من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه.
وأضاف: لما سقطت دولة آل عباد في سنة 485 هـ، ارتحل به أبوه من إشبيلية إلى ثغر بجاية على ساحل الجزائر، ثم انتقل إلى ثغر المهدية وما لبث والده أن شد الرحال إلى العديد من البلاد الإسلامية طلبا للعلم والتوسع فيه، فارتحل مع إبنه إلى مصر والقدس ودمشق وبغداد والحجاز، وسمعا ببغداد من طراد بن محمد الزينبي، وأبي عبد الله النعالي، وأبي الخطاب ابن البطر، وجعفر السراج، وابن الطيوري، وبدمشق من الفقيه نصر بن إبراهيم المقدسي، وأبي الفضل بن الفرات، وأبي البركات ابن طاوس، والشريف النسيب، وببيت المقدس من مكي بن عبد السلام الزميلي، وبالحرم الشريف من الحسين بن علي الفقيه الطبري، وبمصر من القاضي أبي الحسن الخلعي، ومحمد بن عبد الله بن داود الفارسي. كما تفقه على الإمام أبي حامد الغزالي، والفقيه أبي بكر الشاشي، والعلامة الأديب أبي زكريا التبريزي وغيرهما.
وعاد إلى الأندلس في سنة 491 هـ، بعد أن دفن أباه في رحلته، وجلس للتدريس بمساجدها، ووصف بالذكاء وسعة العلوم والزهد والورع وقوة المنطق والكرم، وبلغت شهرته الآفاق وولي قضاء إشبيلية وأولى عنايته بمحاربة الفساد والوساطة والمحسوبية والبدع، فحمدت سياسته، وكان موضع تقدير الناس وإجلالهم له، ذا شدة وسطوة وهمة فصيحاً بليغاً خطيباً، وأشاد به العلماء وأثنوا على علمه وورعه ووصفوه بأنه بلغ رتبة الاجتهاد. وقال عنه ابن النجار: “حدث ببغداد بيسير وصنف في الحديث والفقه والأصول علوم القرآن والأدب والنحو والتواريخ واتسع حاله وكثر إفضاله ومدحته الشعراء وعلى بلده سور أنشأه من ماله”، وذكر ابن بشكوال أنه: “الإمام الحافظ ختام علماء الأندلس”، وقال صاحب “شذرات الذهب” إنه: “قدم إلى إشبيلية بعلم كثير لم يدخل به أحد قبله ممن كانت له رحلة إلى المشرق وكان من أهل التفنن في العلوم والتبحر فيها والجمع لها ومقدماً في المعارف كلها ومتكلماً في أنواعها ناقداً في جميعها حريصاً على أدائها”.
وأخذ عن الإمام أبي بكر طائفة كبيرة من كبار علماء الإسلام منهم قاضي المغرب وحافظه القاضي عياض بن موسى اليحصبي، وابنه القاضي محمد بن عياض، والحافظ المؤرخ أبو القاسم خلف بن عبدالملك بن بشكوال، والإمام أبو عبدالله محمد الإشبيلي، وأبو جعفر بن الباذش، وأبو عبدالله محمد الخزرجي، وأبو عبدالله محمد الله القيسي، وأبو الحسن بن النعمة، وأبو بكر محمد بن خير الأموي الإشبيلي، وأبو القاسم عبدالرحمن بن محمد بن حبيش، والإمام عبدالرحمن بن عبدالله السهيلي، وأبو العباس أحمد بن عبدالرحمن الصقر الأنصاري، وأبو الحسن علي بن عتيق القرطبي، وأبو القاسم أحمد بن محمد بن خلف الحوفي، وأبو محمد عبد الحق بن عبدالرحمن الأزدي الخراط، وغيرهم الكثير.
وخلف القاضي أبو بكر مصنفات فريدة في علوم الشريعة والفقه والأصول والتفسير منها أنوار الفجر في تفسير القرآن، وقانون التأويل في تفسير القرآن، وأحكام القرآن، و”الأحكام الصغرى، والناسخ والمنسوخ في القرآن، والمشكلين، والنيرين، والقبس، عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي، والعواصم من القواصم، المحصول في علم الأصول، والإنصاف، وفي مسائل الخلاف، وشرح غريب الرسالة لابن أبي زيد القيرواني، والكافي في أن لا دليل على النافي. وبلغ القاضي أبو بكر مكانة كبيرة وفاق أهل زمانه علماً وخلقاً، وكان صاحب ثروة، ولكن هذه المكانة والثراء جرت عليه الأحقاد والمكائد، فقد حسده بعض منافسيه من العلماء والأمراء وتحينوا الفرص للقضاء على مكانته وإزاحته من طريقهم.
كما دعا الأمة إلى البذل فيه، ولورعه وسمعته المحمودة أقبلت عليه المساهمات من كل أفرادها، وكان ابن العربي أول من خطر على باله الاستفادة من جلود الأضاحي في المصالح العامة فحض الناس على أن يتبرعوا بجلود أضاحيهم لبناء هذا السور، فكان في ذلك موفقاً، وزادت مكانته بين الناس وتعاظم تقديرهم له، وأخذ حساده من الفقهاء لا سيما فقهاء الظاهرية الذين كان يحمل عليهم وينتقد بشدة مذهبهم، ويذم ابن حزم ويشد عليه، يرمونه بكل قبيح ويشيعونه، واتهموه بالافتراء في رواية الحديث، ونهوا الناس عن الأخذ عنه، واستطاع أعداؤه إثارة العامة عليه بأساليبهم الخبيثة حتى تجرأ البغاة عليه، وهاجموه في داره ونهبت كتبه كلها، فعزل وأجبر على ترك بلده، ورجحت المصادر انه انصرف عن القضاء، وانتقل مؤقتا إلى قرطبة لنشر العلم وتدوينه.
ساحة النقاش