إبراهيم أبو عواد*
إن السؤال الذي يبرز على الساحة الأردنية في هذا الوقت: ما هي التغيرات الإيجابية التي حدثت في الأردن منذ اندلاع شرارة الربيع العربي؟. وقد يبدو الجواب متشائماً ومغرقاً في السوداوية، لكن التغيرات هزيلة للغاية لا تتعدى زيادة رواتب بعض الفئات، وإنشاء نقابة هنا أو هناك. وهذه الإجراءات لا تسمن ولا تغني من جوع، لأن ماهية الإصلاح أكبر من الرواتب والنقابات. إنها متعلقة بإيجاد صيغة منطقية للتعايش بين الشعب والنظام وفق أسس واضحة بعيدة عن المجاملات وتبويس اللحى. فلا بد من إيجاد عَقد سياسي بين الشعب الأردني والملك يقوم على الاحترام المتبادل، ومعرفة واجبات وحقوق كل طرف. أمَّا مهرجانات الولاء والانتماء وقصائد المديح والتطبيل والتزمير فهي موضة عابرة لتحقيق مكاسب شخصية، وهي لا تصنع وطناً، ولا تقيم حضارةً.
والمشكلةُ الحقيقية في النظام السياسي العربي أن الحاكم العربي يعتبر الشعبَ والوطنَ مُلكاً شخصياً له، وأن من حقه إطعام من يشاء، وتجويع من يشاء. كما أنه يعتبر أي معارض لسياسته خائناً وعميلاً، وضمن قائمة المندسِّين. وهذه النزعة المتطرفة تزيدها حدةً الحاشية الملتفة حول الحاكم التي تُضلِّله من أجل تحقيق منافع ذاتية، وتوسيع دائرة نفوذها على حساب البلاد والعباد.
وإذا أردنا بناء دولة القانون والمؤسسات في العالم العربي فلا بد من إنهاء هذه الهلوسة السياسية، والشروع فوراً في تجذير قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والتداول السلمي للسُّلطة. وهذا لا يتحقق إلا بإجراء إصلاح حقيقي في رأس الهرم السياسي لأن "شطف الدرج يبدأ من أعلى"، فلا بد من اعتبار الحاكم موظفاً عند الشعب يأخذ راتبه نظير رعاية مصالح الشعب لا الاستيلاء على ثرواته.
وللإنصاف فإن الحالة السياسية الأردنية متقدمة جداً على باقي الدول العربية، ويمكن اعتبار الأردن سويسرا العرب، لكن هذه المقارنة خطرة، فمن غير اللائق مقارنة الأعور بالأعمى، لأنه عندئذ ستختل الموازين، وتدخل القضايا المصيرية في النسبية واللايقين.
والإشكالية الصادمة في الحياة السياسية الأردنية هي سيطرة فئة معدودة على مقاليد السُّلطة طيلة عقود، فالوجوهُ لا تتغير، لكن الأقنعة تتغير. وهؤلاء الحرسُ القديم ينبغي محاسبتهم على السنوات الخالية، وتقديم المقصِّرين إلى المحاكمة، وإعادة الباقين إلى بيوتهم، وبدء رحلة البحث عن كفاءات خارقة وقيادات موهوبة قادرة على إدارة البلاد بصورة مبدعة.
وهذا الأمر لا يتأتى إلا باعتماد الملكية الدستورية، ووضع قانون انتخابات عصري يتيح للبرلمان أن يمارس دوره التشريعي والرقابي بكفاءة عالية. ووفقاً لهذه المعادلة الجديدة يتم اختيار رئيس الوزراء من قبل البرلمان لا الملك. وهذه القضية لا ينبغي المساومة عليها إطلاقاً. فعلى الملك أن يتحول إلى رمز سياسي جامع لمكوِّنات الشعب دون أن يمارس السياسة.
وقد يعتقد كثيرون أن هذا الأمر يُشكِّل خطراً على النظام الملكي. لكن الأمر عكس ذلك تماماً. إذ إن تسليم السُّلطة للشعب بحيث يختارون مُمثِّليهم في البرلمان الذين يختارون- بدورهم- رئيس الوزراء، يُبعد الملكَ عن التجاذبات السياسية والسخط الشعبي. ففي بريطانيا- مثلاً- عندما تسوء ظروف الشعب لا أحد يصف الملكة إليزابيث بأنها فاشلة، بل يعتبرون رئيس الوزراء هو سبب الكوارث، ويَطمحون إلى تغييره لا تغيير النظام الملكي. وهذا الأمر ليس مختصاً بالغرب، ففي الحالة العربية الراهنة نجد أن النظام السياسي في المغرب قد منح البرلمان حق اختيار رئيس الحكومة، وعليه فإن أي سخط شعبي سَيُوَجَّه ضد رئيس الوزراء لا الملك.
ومن هذا المنطلق ينبغي الاستفادة من تجارب الآخرين لئلا ندخل في دوامة العنف والفوضى الموجودة في المحيط العربي. فينبغي الحفاظ على النظام الملكي باعتباره الضمانة لاستمرار الكيان السياسي الأردني، ووحدة التراب الوطني، وتماسك أبنائه من شتى المنابت والأصول. وفي نفس الوقت ينبغي أن يتقاعد الملك من السياسة، ويُسلِّم سُلطاته لرئيس وزراء منتخب من قِبَل الشعب، فتصبح علاقة المد والجزر بين الشعب ورئيس الوزراء، وعندئذ يصبح الشعب قادراً على محاسبة رئيس الوزراء وعزله إذا فشل في إدارة البلاد. وهذا الأمر يحفظ مكانةَ الملك ويُبعده عن النقد، ويُجنِّب الأردن الفوضى السياسية. فالملكُ إذا اتخذ قراراً سياسياً خاطئاً يجب أن يُحاسَب أمام الشعب، لأن السُّلطة الشعبية أعلى من السُّلطة الملكية. وهذا سَيُحدث بلبلةً في الأردن. لذا فالحل يكمن في تحويل العرش الأردني إلى مؤسسة معنوية لا تَحكم، ولا تتدخل في الحياة السياسية التي يصنعها الشعبُ الأردني وفق رؤيته واختياراته. فمن مصلحة الملك أن يُرجع السُّلطةَ إلى الشعب لكي يَحكم نفسَه بنفسه دون وصاية من أحد، وعندئذ يحتضن الشعبُ النظامَ الملكي، ويتمسك به، ولا يَنقم عليه.
وقد يقول أحدهم: إن هذا التحول سوف يُحضر الإسلاميين إلى السُّلطة. ونحن نقول له: وأين المشكلة في ذلك؟ إذا جاء الإسلاميون إلى السُّلطة بطريق سِلمي وفق صناديق الاقتراع، فسوف نتقبَّلهم ثم نحكم على أفعالهم، فإن نجحوا في الحُكم سوف نعيد انتخابهم، وإن فشلوا سوف نعزلهم ونبحث عن آخرين. أمَّا اتخاذ الإسلاميين فزاعةً وذريعةً لمواصلة الاستبداد، فهذه ورقة مكشوفة ومحروقة في آن معاً.
وعلى النظام الأردني أن يتحرر من الخوف من الإسلاميين وتخويف الآخرين منهم، ويكف عن اختراع الكوابيس. وعليه- كذلك- أن يتذكر أن الإسلاميين في الأردن لم يحاولوا قلبَ نظام الحُكم، أو الاستيلاء على السُّلطة، ولم يتورَّطوا في حمل السلاح ضد السُّلطات- رغم قدرتهم على ذلك-. وهذا التاريخُ يَشهد لهم، خصوصاً أن الأردن مَرَّ في ظروف صعبة للغاية، وحالات ضعف شديدة، واضطرابات عديدة، وكان يَسهل استغلالها وتوظيفها لإسقاط النظام الحاكم، والقفز على سُدَّة الحُكم.
إذن، يتوجب على النظام الأردني الكف عن المراوغة، وكسب الوقت، والمماطلة في الإصلاح، والشروع في صناعة برلمان حضاري قادر على إفراز طبقة حاكمة شريفة ذات كفاءة لا طبقة من المرتزقة والمنافقين وسماسرة الوحدة الوطنية.
والمؤسف أن النظام الأردني يراهن على انتهاء زخم الثورات العربية. لذلك نراه يقوم بخطوات تجميلية وترقيعية لامتصاص غضب الشعب، والهروب إلى الأمام. وبعد أن تهدأ الأجواء، تعود حليمة إلى عادتها القديمة. وهذه لعبة خطرة للغاية لأن تجاوز الإرادة الشعبية له عواقب كارثية. وهذا النفق المظلم الذي يسير فيه النظام الأردني لا ضوء في آخره.
لذا فإن الحل يتجلى في اختيار الطريق الصحيح، والاستثمار في الموارد البشرية الهائلة. أمَّا التعويل على الحلول الأمنية، والخطب الرنانة، وبرقيات الولاء، فلا يجدي نفعاً. وكما قيل: صديقك مَن صَدَقك لا مَن صَدَّقك، ومَن خَوَّفك حتى تلقى الأمن أفضل ممن أَمَّنك حتى تلقى الخوف.
____________
* كاتب من الأردن <!--EndFragment-->
نشرت فى 14 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
272,638
ساحة النقاش