محمد شو

العالم بين يديك

authentication required

عبد الله خليفة لا بد من فهمِ أعمق للأفكارِ الاشتراكية في مرحلتيها السابقة الشمولية والراهنة الديمقراطية الجنينية المتصاعدة، فنشوء الرأسمالية له مراحل، وقد حددَ لينين في كتابه "الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية" بعضَ هذه السمات الجوهرية وعبرها حدّد تطورَ البشرية، مثل تبدل الرأسمالية الغربية من مرحلةِ المنافسة إلى مرحلة الاحتكار، ومن مرحلة الديمقراطية إلى مرحلة الدكتاتورية العالمية، واقتسام العالم بين الدول الاستعمارية الغربية، واقتسام العالم بين اتحادات الرأسماليين المختلفة المتصارعة، وأن الاستعمار هو طفيلية الرأسمالية وتعفنها، والاستعمار هو تتويجٌ للتطور الغربي بين القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين وحتى القرن الراهن. ولينين يعيد ذلك إلى دور وأهمية الجوانب التقنية أيضاً، كتبدل وسائل المواصلات وتصاعد أهمية القطارات وبالتالي علينا أن ندخل كل شبكة المواصلات والاتصالات الشبكية الواسعة التي حدثت حتى وقتنا الراهن. ولينين يستنتج من الجوانب الاقتصادية والتقنية المعزولة عن اللوحة العامة استنتاجات كبيرةً: "وهذا الحاصل يُظهرُ أن الحروبَ الإمبريالية هي أمرٌ محتوم إطلاقاً على هذا الأساس الاقتصادي طالما بقيت وسائل الإنتاج ملكاً خاصاً طالما بقيت علاقات الإنتاج الرأسمالية، علاقات المُلكية الخاصة الرأسمالية مسيطرة". كما أنه يوسعُ هذه الاستنتاجات على نحوٍ أخطر: "لقد غدت البورجوازية في العصر الإمبريالي رجعية على طول الخط في ظل جميع النظم ملكيةً كانت أم جمهورية، "ديمقراطية"كانتْ أم فاشية". يضعُ لينين العالمَ بين خندقين، الأول هو العالمُ الرأسمالي المهيمن عبر الدول الغربية الذي هو معاد للديمقراطية، والعالم الجديد الوليد، العالم الاشتراكي، أساس الديمقراطية الحقيقية في تصوره. ولهذا فهو يرى أن المجتمعات الغربية بين فترتين فترة رأسمالية تنافسية ظهرت فيها أشكالٌ تنويرية ديمقراطية، ثم جاءت الفترةُ الاستعماريةُ فسُحقت الديمقراطية، ولهذا لا تميّزَ بين التيارات، ولا يمكن قيام تحالفات بين القوى اليسارية والبرجوازية اليمينية، ومن هنا تغدو أهمية الأحزاب الشيوعية، التي هي حصيلة هذا الفهم حسب تصوره، والتي يقومُ دورها على هزيمة الرأسمالية في الغرب فيما الشرقُ يتجه للاشتراكية. تقيم هذه الرؤيةُ استقطابيةً كبرى بين الرأسمالية والشيوعية، بين الشر والخير، بين الماضي والمستقبل، فهي تعسكرُ البشريةَ عسكرةً ثنائيةً استقطابية. نلاحظُ هذا التعميمَ وهو يَخرقُ الموضوعيةَ في فهم العالم الرأسمالي، فمن خلال سمات تنامي الاحتكارات وهيمنة رأس المال المالي على بعض القمم الاقتصادية السياسية، وتصدير رأس المال بدلاً من تصدير البضائع، يصل إلى استنتاجاته السياسية النظرية الجازمة الكلية. إن هذه السمات موجودةٌ حقاً، ولكن هناك قطاعاتٌ كبيرةٌ لا تهيمن عليها الاحتكارات، وجزرُ السيطرة في قلب المدن الكبرى موجودة وممتدة في شبكات البناء الفوقي، لكن توجد كذلك معارضة متعددة من أقسام برجوازيات أصغر وبرجوازيات دنيا، ناهيك بطبيعة الحال عن العمال، الذين هم أيضاً يناضلون ضد الرأسمالية ويتحول بعضُهم إليها كذلك! كذلك فإنه لا يمكن الحديث عن كون العالم الشرقي المستغلّ من قبل الاستعمار هو احتياطي جاهز للاشتراكية، حيث حددَ لينين المصيرَ الكامنَ المجهول في وصفةٍ طبية مُسبّقة، من دون أن ينتهي مصيرَ العالم الغربي الرأسمالي في تطور استعماري وحيد لا غير فيه ولا احتمالات متعددة له. فالعالمُ الغربي مليءٌ بالاحتمالات مثله مثل العالم الشرقي التابع. لكن الوصول إلى هذا التعميمات الكُليةِ بين غربٍ فاسد استعماري وشرقٍ ناهضٍ نحو الاشتراكية، يكونُ رؤيةً غيرَ جدلية، ورؤيةً غيرَ ماديةٍ تاريخية، فهي رؤية أحادية ميكانيكية، تقوم على نقائض مُعمَّمة مجردةٍ في جهتين متقابلتين. وهي ثنائيةُ الإلهِ والشيطان الدينية الغائرة. وفي العمل السياسي ينتجُ عن ذلك جملةً من المعالم والمشكلات الهائلة، فالتدرجات والألوانُ الديمقراطية الممكنةُ لدى الأقسام البرجوازية الكبيرة والأقل منها، تُزالُ من أجل لونٍ واحد. فتغدو الشيوعيةُ هي اللونُ الأبيضُ الذي يجب أن يسود اللوحة في الغرب والشرق، فتظهر الأحزاب المطلقة القادرة على محو الرأسمالية في عقر دارها أو في العالم المتخلف الناهض اشتراكيا حتمياً. تغدو في الغرب نضالاً فكرياً سياسياً يلغي مشروعية الرأسمالية ووجودها المتنوع، ويصير في الشرق دولةً اشتراكية أو معسكراً اشتراكيا، أو أحزاباً تحملُ المشروع وتحققه. صارت البشرية بكل تضاريسها المعقدة المركبة ومراحل نموها المختلفة، وتباينها بين رأسمالية وخاصة سائدة ومشروع رأسمالية حكومية شرقية طالعة، في خطين أسود أو أبيض، رأسمالي أو شيوعي وليس ثمة طريق آخر. يقدم لنا عنوانُ كتابِ "الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية" نهايةً تامةً راهنة للرأسمالية، فالاستعمارُ يمثلُ تفسخ الرأسمالية على المستويين الغربي والشرقي، في الأول تنهار من الداخل، وفي المستوى الثاني تتفجرُ كفاحاتُ الشعوب باتجاه الاشتراكية، فيكتملُ التطورُ البشري والإطباق على العدو الغربي، لهذا يتخذ لينين إجراءات سريعة راهنة لتنفيذ هذه الرؤية. إن رؤية لينين صحيحة على المستوى الإطلاقي، على مستوى القرون، لكن حتى على هذا المستوى البعيد فإن الرأسمالية لا تنهار من خلال انقلابات، بل عبر التطور التدريجي لقوى الانتاج البشرية والمادية، عبر نموها الطويل وتشكل نقائضها داخل هذا التطور. إن الوعي الانقلابي للاشتراكية، يتم بتحقيق الاشتراكية بمعزل عن العوامل الموضوعية الحاسمة في تصور المادية التاريخية، والوعيُ الخاصُ بالنخب لا يمكن أن يصنع ثورة، فالثورة ذات عوامل موضوعية، لكن في رؤيته خلط لينين بين الثورة الديمقراطية والانقلاب لتشكيلِ رأسماليةِ دولةٍ شرقية. إن سمات الرأسمالية الغربية المتطورة عن بقية البشرية في لحظة سابقة، التي تطورت من المنافسة إلى الاحتكارات وكل تلك السمات التي لاحظها لينين واستقاها من مصادر علميةٍ غربية في وقته، هي صحيحة، لكنه ركب هذه السمات الموضوعية فوق رؤية مسطحة ذاتية، وهذه المميزاتُ لم تنتقل للعالم المتخلف حينذاك، ولم تتحول بُنى الدول الشرقية إلى بنى رأسمالية، فهي لا تزال في العصر الإقطاعي ومخلفات العصور السابقة في نهاية القرن التاسع عشر، وهذا ينطبق على روسيا كذلك. ورغم هذه المميزات المعبرة عن تطور اقتصادي اجتماعي غربي، وكذلك عن سمات استغلالية غدت كونيةً، ونهبتْ العالمَ الثالث، لكن هذا الاستعمار من جهة أخرى جرّ هذا العالمَ لحركته التاريخية وبعض أشكال تطوراته، وعبر هذا نشأت حركاتُ التحرر الوطني، ذات الأهداف والميول الديمقراطية بحكم التداخل والصراع مع الغرب. وكل تجربةٍ تنامت عبر الليبرالية والديمقراطية والصراع والتعاون بين المالكين والمنتجين غدت تجاربَ مهمة، فيما الأخرى تكدست فيها تناقضاتٌ هائلةٌ فانفجرت أو في سبيلها للانفجار. وحين قدمت روسيا مشروعَ التسريع الشمولي المعادي للغرب عبرت عن ازدواجية الانتماء للغرب ورفضه معاً. توجهت لجذبِ بناه التقنية لا مشروعه الاجتماعي الثقافي الديمقراطي. إن الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي ليسا نقيضي الغرب الرأسمالي، ولكنهما مماثلان له ومتخلفان عنه. إنهما أخذا قواعده الاقتصادية التقنية وطرق شبكاته المالية وبعض علومه، ورفضا بنيته الديمقراطية الاجتماعية. ركبا الرأسمالية فوق بناء شرقي استبدادي عتيق. وهذا ما سوف تفعله حركات "شيوعية" ودينية وقومية وغيرها كلٌ حسبَ بناه الاجتماعية ومواقفه. وبتلك التعابير المطلقة عن هيمنة الاحتكارات والتفسخ الرأسمالي والطفيلية قفز لينين لاستنتاجاتٍ شمولية، وأقام بناءً رأسمالياً غير ديمقراطي. فيما عاركت حركاتُ التحرر الوطني الاستعمارَ من منطلقات متعددة، وتوجه بعضها للديمقراطية وتوجه بعضها للاستبداد. في القرن العشرين ظهر نموذجا رأسمالية الدولة الاحتكارية في الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. وكلٌ منهما على أساس مختلف، لقد ضربتْ السلطةُ الروسية أشكالَ الملكية الخاصة المتعددة، وغدت هي الرأسمال الأوحد، ولهذا فإن الديمقراطية اختفت، وغدا المجتمع تابعاً لهيمنة عليا ساحقة، ومن خلالها انبثقت الرأسمالية الخاصة ثانية ملوثةً بكل ذلك التاريخ السابق. وهذا انعكس على المنظومة دولاً وأحزاباً حيث غدت مجموعات بذات التنميط الشمولي الفقير معرفة. إن عسكرة الريف والتجميعات في روسيا تُعطي في النهاية هذا المجتمع الشمولي حيث الدولة المتغطرسة والثقافة المغيَّبة عن الأنسنة، فحين تغيبُ التعدديةُ الاجتماعية تصيرُ الدولةُ إمبراطوريةً ساحقة. هذا ما قامت به حكوماتُ الولايات المتحدة فنشوء رأسمالية الدولة الاحتكارية أدت إلى الهيمنة الشمولية الساحقة للمجتمع الأمريكي وجفاف التعددية والتنوع، عبر سيطرة رأس المال العملاق والقوة العسكرية، وتحول هذا لنموذجٍ عالمي يهيمن على دول العالم الثالث، ويفرزُ جنرالات الشمولية ويؤيد رأسماليات الدول التابعة. ثم وصل النموذجان للانهيار الظاهر والخفي، الأول عبر السقوط المباشر ثم الجثوم في القوقعة الروسية كآخر حصن قومي له، وتساقطت رأسمالياتُ الدول الشمولية في مختلف أنحاء العالم الثالث بأشكالٍ متعددة منفكةٍ من السيطرة الأمريكية والسيطرة الروسية أو في طريقها لذلك. وفيما تواصل روسيا تأييد الأنظمة الشمولية العسكرية تؤيد أمريكا الخروج منها من أجل ظهور الأسواق الحرة والتغلغل فيها دون أن تعطي الشعوبَ ومنها الشعب الأمريكي حرياته الديمقراطية الحقيقية. إن النموذجين الاستقطابيين حسب رؤية لينين لم يتحققا، بل تحقق نموذجا استقطاب رأسمالية الدولة الاحتكارية في كل من الدولتين الكبريين، وقد أدى النموذج الأولُ الروسي إلى عدم استغلال التنوع والقوى الرأسمالية والديمقراطية المختلفة في الغرب والشرق، وتعزيز حضورها، مثلما أدى ذلك في الدول والأحزاب التابعة للنموذج الروسي الشمولي إلى تغييب إمكانيات التطور الليبرالي والديمقراطي في بلدان العالم الثالث، ولهذا كانت الهتلرية تتويجاً لهذا التغييب في الغرب، فيما كانت الدولُ والحركاتُ الدينية والقومية الشوفينية والليبراليةُ الفوضوية هي الوريثة للسياسة "الشيوعية" في العالم النامي، ولم يؤدِ الانتصارُ على الهتلرية لإزالة طابع رأسمالية الدولة الاحتكارية، وتعميم النموذج الديمقراطي، فاستمر الصراع بين النموذجين من الحرب الباردة إلى الحروب الأهلية.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 45 مشاهدة
نشرت فى 12 يونيو 2012 بواسطة mhmadshoo

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

272,640