فتحي العكرمي:
1 - كيف أصبح الجسد العربي ثوريّا؟
لكل ثقافة تصوّرها للجسد ولكل وضعية اجتماعية واقتصادية وسياسية يعيشها الإنسان تأثيرها المباشر على معنى الإنسان كوعي وكجسد، أمّا علاقتنا بأجسادنا وبتصوّرنا لها فهي تتردد بين اعتباره أداة للإنتاج غايتها توفير أدنى المتطلّبات "الدّرجة الصّفر من الحياة" ليس لها الحقّ في أن تحيا وجودها نظرا لما يحيط بها من قوانين المنع والتسلّط وبين اعتباره بُؤرة محرّمات أو سجنا للرّوح، فهذا التصور السلبي فتح أفقا سياسيّا لاستعباده إذ تحوّل إلى وسيلة تُنتج للآخرين وتظلّ محرومة وتُسعِد الحاكمين وتبقى حزينة وتُسجن ليظلّ سجّانها طليقا، وفي أفضل الحالات هو رقم في سجلّ الولادات والمجهول في موته، وهذا الوضع اللاانساني هو ما أيقظ المواطن فبحث عن سُبُل جديدة يستردّ بها كرامته الجسدية والنفسية المسلوبة وليحطّم كل أصنام القداسة التي تلحّف بها الحاكم والتي صنعها بدعاية وإعلام وثقافة وكذب ينفق عليه بسخاء ويترك المواطن جائعا وتابعا.
2 - الجسد كوقود للهيجان "الثّورة"
في معنى لغوي، الثورة هي ضرب من الهيجان- استعمل هذا المعنى لما نلاحظه من تردّد وارباك وحسابات وتداخل في الأدوار وابتعاد عن الرّهانات الحقيقية قد يقتل الثورات- في لحظة جمَّعت كلّ سنوات القهر والاستبداد حوّل البوعزيزي جسده إلى أداة تعبير مادّي صريح ومباشر لا يمرّ عبر الخطاب والتّأويل والانتقاد للحاكم، بل كان الجسد ذاته بلحميّته طريقة لرفض أفق مسدود، تلته الأجساد التي تلقّفت هذا التعبير الجديد وتلقّت الرّصاص والتّعذيب والإعاقة والسّجن والإهانة، فالحاكم إذ يُنكّل بالمواطن فهو يستعيد قداسة كان يمتلكها تحطّمت على صخرة الأجساد التي تمرّدت عليه، والسُّلطة إذ هي تُحاصر الأفراد والجماعات- لكي لا توغل في هيجانها- فهي تمارس قتلا عمليّا للأجساد وإن استحال ذلك تتركها مُعاقة أو يتيمة أو فاقدة لأحبّتها. فهذا التسلّط السياسي على جسد المواطن يُمثّل تجربة جديدة في تاريخ البشريّة حيث أضحت المعتقلات والقتل على الهويّة والتّشريد صناعة عربيّة محليّة لا تستورد عدوّها من الخارج، بل تجده جاهزا في مواطن تحكمه وتتحكّم فيه وتحيك من جسده بلاطا تسير عليه لتواصل سيطرتها ولتفتكّ الاستمراريّة في المصالح وفي التسلّط، فالاستعمار لم يعد افتكاكا لأرض أخرى أو التحكّم في حضارة عدوّة، بل أضحى داخليّا يهديه الحاكم لمواطنيه عوضا عن العدل والحرّية.
فموت الجسد الذاتي هو بداية نَعْي لوجود سلطة حكمت طويلا واستباحت الأجساد بطريقة سرياليّة لا تفرّق بين طفل وشاب وامرأة وعجوز ومعاق، فكلّ مواطن حيّ ومُتمرّد هو موضوع إدانة ومشروع ميّت أو معاق أو مسجون؛ فلم يعد جسد المواطن كريما ولا حرّا بل أصبح فاقدا لكل معنى، مُطاردا بالرّصاص وبالخوف ومُدانا.
3 - الجسد العربي بعد الثّورة حطب للسّاسة
ما يزال المواطن العربي منتظرا للأحلام التي خامرته وهو يمارس ثورته فيجد أنّها تحوّلت إلى كوابيس، فالفقر في صعود وحسابات الداخل والخارج تداخلت واقتسام الغنائم على أشُدّه، والماسكون بخيوط تحريك المواطن "كدمى المسرح" يجذبونه في اتجاهات مختلفة ويُعيدون جسده إلى الوضعيّة التي عوّدوه عليها، وهي أن يكون دوما قُربانا مادّيّا يُطاح به عندما يحين وقت قِطافه ووسيلة للدّعاية الحزبيّة، إذ كشف الواقع ما بعد الثورة على أنّ الوضعيّة المفرطة في السّلبية التي كان المواطن غارقا فيها لم تتغيّر إلاّ في الاسم، فجسد المواطن يُستعمل في راهنيته كحطب لإشعال جحيم الحسابات الحزبيّة.
ففي المشهد الدعائي الانتخابي تتمّ إعادة توظيف والتحكم في جسد المواطن واستعماله كآلة للدّعاية، ولكن بمقابل هو الوهم بصيغة جديدة "الضّحك على كلّ الجسد وليس على الذّقون فحسب"، وفي ذات الواقع ينفتح هذا الجسد على واقع جديد غرائبي، فمن جهة ضحّى المواطن من أجل أن يتحرّر من أشكال القهر والسّجون التي كانت تحاصره، وفي المقابل وجد نفسه أداة لسجون جديدة تفرض عليه نمطا مُحدّدا من التّفكير لا بديل له وحزبا واحدا وحاكما أوحد، إذ عليه أن يرضى بما كُتِب له من استبداد قديم وآخر جديد "أمران أحلاهما مُرّ".
فالقتل الواقعي الذي مارسته سلطات ما قبل الثّورة على الأجساد تحوّل إلى قتل رمزي لها مع الحاكم "المابعد ثوري" الذي استبدل الخوف من الحاكم القديم بآخر يتمثّل في قبوله كحلّ أخير، فالجسد العربيّ مُحاصر من سُلطات متعددة تنظر إليه على أنّه لا يُمثّل سوى مادّة يمكن تطويعها بحسب الغايات السياسية والإيديولوجية ونمط الخلافة أو الدّولة أو الإمارة أو السّلطنة أو الجمهوريّة وهو ما يؤكّد أنّ "هيجان الأجساد" لم يُنتج سوى سجون جديدة واستبداد باسم مُغاير وقمع بأدوات لم تكن معهودة، فكأنّ قَدَر المواطن أن يظلّ في تاريخه الفردي والجماعي غريبا عن جسده ومغتربا في وطنه ومحروما من وجوده المادّي والعاطفي والسّياسي، فكأنّ الكراهيّة المفرطة للجسد وللفكر وللإنسان هي قَدَرنا بينما تراثنا يدلّ في جهة ما على أنّ الاعتداء على شخص أو قتله أو التسلّط عليه مرفوض دينا وأخلاقا وإنسانيا، لأنّ هذا الشّخص ذاته هو من صنع كل ما عرفته البشرية من أشكال الإبداع العلمي والمعرفي والسياسي، في حين أنّ الواقع يدلّ على كراهيّة مزدوجة للعقل وللجسد، وهو ما أتاح كلّ ألوان العنف والتعصب والاستبداد والأنانيّة، ساهمت في انحدار سريع للواقع العربي في مقابل امتلاك الحضارات الأخرى لأسباب القوّة وهي جعل المواطن الفرد جوهر الدّولة وأساسها في حين يُنظر إلينا في أوطاننا على أنّنا مجرّد قطيع يُساق إلى مصير يصنعه الآخرون عوضا عناّ.
4 - الأفق المسدود أو القَدَر المأساوي للجسد العربي
كشفت اللحظة المفصلية في الثورات عن مفارقات مُفجعة، فمن جهة سقطت آلاف الأجساد والأرواح والمشاعر قربانا رغبة في تغيير جذري، وفي المقابل وجد الباقون أنفسهم أمام وضع مُربك تتصارع فيه أحزاب غايتها الحُكم وبالطريقة التي تريدها هي وفق حساباتها الخاصة والضيّقة، متناسية أنّ وجودها هديّة من أولئك الذين قدّموا أجسادهم وأعضاءهم وأرواحهم، لذلك تمّ تجاهلهم حتّى قبل أن تباشر الحُكم! وهو ما يؤشّر للعودة إلى الحلقة المفرغة: تناسي واحتقار المواطن والنّظر إليه بنفس الطريقة التي استعملها السّابقون ممّا سيُعيد إنتاج نفس المسار المحكوم بالفردانيّة والأنانيّة والاستبداد.
ألم يحن الوقت لمراجعة نقدية عقليّة جذريّة لمعرفة الأخطاء والعوائق التي كانت سببا في تثوير واقع سلبي؟ أليس من حقّ كل مواطن أن يعيش كريما ومُصانا في جسده وروحه وهو حقّ إلهي وإنساني وقيمي؟ هل ما زلنا في حاجة إلى هزائم أكبر من التي عشناها لنستيقظ من سباتنا؟ أليس قبول النقد والاختلاف والتداول على السّلطة واحترام المواطن هو ميزة الإنسان الذي وضعه اللّه خليفة له على الأرض لا ليسفك الدّماء ولا ليُفسد فيها، بل ليُصلح ليس لذاته وأهله ولمواطنيه فحسب بل أيضا للبشريّة كلّها؟
ألم نبلغ بعدُ من الرُّشد العقلي والسياسي ما يجعلنا قادرين على البداية في تأسيس أوطان لها موقع وتأثير في عالم يقوم على ثنائيّة: الاستقلاليّة أو التّبعيّة؟
علينا البحث في الحلقات المفقودة في الثّورة لتكون مُنتجة ولتُضحي مسارا يحرّرنا من نقائصنا المتراكمة، وهي فرصة تاريخيّة قد لا تتكرر.
<!--EndFragment-->
نشرت فى 11 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
271,979
ساحة النقاش