قال ثابت بن قرة: ما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفس، فقيل له: أحصِ لنا هؤلاء الثلاثة، قال: أولهم عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته وحذره، وتحفظه ودينه وتقيته، وجزالته وبذالته وصرامته وشهامته، وقيامته في صغير أمره وكبيره بنفسه، مع قريحة صافية، وعقل زافر، ولسان عضب وقلب شديد، وطوية مأمونة، وعزيمة مأمومة، وصدر منشرح، وبال منفسح، وبديهة نضوح وروية لقوح، وسر طاهر، وتوفيق حاضر، ورأي مصيب، وأمر عجيب، وشأن غريب، دعم الدين وشيد بنيانه، وأحكم أساسه ورفع أركانه، وأوضح حجته وأنار برهانه، ملك في زي مسكين، ما جنح في أمر إلى ونى، ولا غض طرفه على خناً، ظهارته كالبطانة، وبطانته كالظهارة.
قال: والثاني الحسن بن أبي الحسن البصري، فلقد كان من دراري النجوم علماً وتقوى وزهداً وورعاً وعفةً ورقةً وتألهاً وتنزهاً وفقهاً ومعرفةً وفصاحةً ونصاحةً، مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلتبس بالعقول، وما أعرف له ثانياً، ولا قريباً ولا مدانياً، كان منظره وفق مخبره، وعلانيته في وزن سريرته، عاش سبعين سنة لم يقرف بمقالة شنعاء، ولم يزن بريبة ولا فحشاء، سليم الدين، نقي الأديم، محروس الحريم، يجمع مجلسه ضروب الناس وأصناف اللباس لما يوسعهم من بيانه، ويفيض عليهم بافتنانه، وهذا يتبع في كلامه العربية، وهذا يجرد له المقالة، وهذا يحكي الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الموعظة، وهو جميع هذا، كالبحر العجاج تدفقاً، وكالسراج الوهاج تألقاً، ولا تنس مواقفه ومشاهده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الأمراء وأشباه الأمراء بالكلام الفصل، واللفظ الجزل، والصدر الرحب، والوجه الصلب، واللسان العضب، كالحجاج. والثالث أبو عثمان الجاحظ، خطيب المسلمين، وشيخ المتكلمين، إن تكلم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النظام في الجدال، وإن جد خرج في مسك عامر بن عبد قيس، وإن هزل زاد على مزيد حبيب القلوب ومزاج الأرواح، وشيخ الأدب ولسان العرب. كتبه رياض زاهرة، ورسائله أفنان مثمرة، ما نازعه منازع إلا رشاه آنفاً، ولا تعرض له منقوص إلا قدم له التواضع استبقاءً. الخلفاء تعرفه، والأمراء تصافيه وتنادمه، والعلماء تأخذ عنه، والخاصة تسلم له، والعامة تحبه، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم.
إبراهيم المنذر:
خذوا عن لساني ما يفيضُ به قلبي
وما فاضَ قلبي مرّةً بســوى الحـبِ
خذوا منــه آيــات المــروءة والوفــا
فليـس الوفـا إلاّ لكـلّ امـرئٍ نـدبِ
وما الحـبّ حـبّ الغيـد قرّح مقلتـي
ولا نبلات الدّعـج رانـت علـى لبّـي
عشقتُ بلادي وهي فخري وسؤددي
وبالروح أفديها لدى الموقف الصّعبِ
ساحة النقاش