كلنا نذكر اسحق نيوتن الذي سقطت عليه التفاحة. لو أنه لم يفكّر تفكيراً إبداعياً، لما كان السباق في اكتشاف قانون الجاذبية. ذلك التفكير الإبداعي، ابتعد به عن التفكير العادي الذي قد يستخدمه أي شخص آخر، سقط عليه شيء ما من أعلى، واكتفى بالقراءة السطحية له دون أن يستنتج أفكاراً مبدعة تكون قد تولدت منه . أما نيوتن فقد تعمق في التفكير الناقد لما حصل، فراح يتساءل، ويحلل، ويُخمّن، ويتحقق… الخ. إلى أن وصل إلى اكتشافه الكبير الذي تعلمه جميع الطلبة في كل أنحاء العالم. واستخدمه الملايين حتى وقتنا الحالي، في مجالات الصناعة والبحث والتجارب العلمية المختلفة.
إذاً ، هو لم يكتفِ بـ "ماذا حدث"؟ ، وإنما راح يفكر بـ "لماذا حدث" ؟ "وكيف حدث"؟
في الحقيقة ، من الصعب تعريف " التفكير الإبداعي" بكلمات محدّدة. فكما لا نستطيع تعريف الشعر أو الجمال أو العبقرية إلى غير ذلك من المفاهيم العظيمة، يصعب كذلك تعريف الإبداع، أو التفكير الإبداعي.
ولكن ، ربما استطعنا من خلال النماذج والأمثلة أن نقترب من المعنى ولو قليلاً.
يُعرّف التفكير الإبداعي بأنه الاستعداد والقدرة على إنتاج شيء جديد. أو أنه عمليّة يتحقق النتاج من خلالها . أو أنه حلّ جديد لمشكلة ما، أو أنه تحقيق إنتاج جديد وذي قيمة من أجل المجتمع. ( روشكا، 1989، ص19)
ويعّرف كذلك بأنه التفكير الذي يؤدي إلى التغيير نحو الأفضل ، وينفي الأفكار الوضعيّة المقبولة مسبقاً. وبأنه يتضمنّ الدافعية والمثابرة والاستمرارية في العمل، والقدرة العالية على تحقيق أمر ما. وهو الذي يعمل على تكوين مشكلة ما تكويناً جديداً ( سعادة وزميله ، 1996).
أما Gilford ( 1967) ، فهو يعرف التفكير الإبداعي بأنه تفكير في نسق مفتوح، يتميز الانتاج فيه بخاصية فريدة تتمثل في تنوّع الاجابات المنتجة، التي لا تحدّدها المعلومات المعطاة. في الوقت الذي رأى فيه Livin (1976) التفكير الإبداعي، بأنه القدرة على حلّ المشكلات في أي موقف يتعرّض له الفرد، بحيث يكون سلوكه دون تصنّع، وإنما متوقع منه ( قطامي 2005). بينما يُعرّف بأنه نشاط عقلي مركب وهادف، توجهه رغبة قويّة في البحث عن حلول، أو التوصل إلى نواتج أصيلة لم تكن معروفة أو مطروحة من قبل ( جروان،1999).
أما سعاده وزميله (1996)، فقد اقترحا تعريفاً للتفكير الإبداعي بأنه " عملية ذهنية يتفاعل فيها المتعلم مع الخبرات العديدة التي يواجهها، بهدف استيعاب عناصر الموقف من أجل الوصول إلى فهم جديد أو انتاج جديد، يحقّق حلاً أصيلاً لمشكلته ، أواكتشاف شيء جديد ذي قيمة بالنسبة له أو للمجتمع الذي يعيش فيه".
وهناك من يعتقد أنه لا بدّ من وجود عوامل أساسيّة مستقلة للقدرة الإبداعية، والتي بدونها لا نستطيع التحدث عن وجود إبداع، وأهمها:
1- الطلاقة، أي القدرة على إنتاج أكبر عدد من الأفكار الإبداعية في وقت قصير نسبياً. فالشخص المبدع لديه درجة عالية من القدرة على سيولة الأفكار، وسهولة توليدها، وانسيابها بحرية تامة في ضوء عدد من الأفكار ذات العلاقة.
2- المرونة: ويُقصد بها القدرة على تغيير الحالة الذهنية بتغيير الموقف. وهذه تتجلى لدى العباقرة، الذين يُبدعون في أكثر من مجال أو شكل، خاصة لدى الفنانين والأدباء الذين ينجحون في مجالات إبداعية متنوعة، ولا تقتصر على إطار واحد. كالشاعر الذي يُبدع في كتابة الرواية والمسرحية أو الفن التشكيلي. وهي تلك المهارة التي يتم استخدامها لتوليد أنماط أو أصناف متنوعة من التفكير، وتنمية القدرة على نقل هذه الأنماط، وتغيير اتجاه التفكير ، والانتقال من عمليات التفكير العادي إلى الاستجابة ورد الفعل وإدراك الأمور بطرق متفاوته أو متنوعة ( سعادة 2003)..
3- الحساسية للمشكلات، فالشخص المبدع لديه القدرة على رؤية الكثير من المشكلات في الموقف الواحد. فهو يحسّ بالمشكلات إحساساً مرهفاً. وهو بالتالي أكثر حساسية لبيئتهِ من المعتاد، فهو يرى مالا يراه غيره، ويرقب الأشياء التي لا يُلاحظها غيره، كمنظر غروب الشمس أو شروقها، على سبيل المثال.
4- الأصالة، يمكن تعريف مهارة الأصالة كإحدى مهارات التفكير الإبداعي، بأنها تلك المهارة التي تستخدم من أجل التفكير بطرق واستجابات غير عادية، أو فريدة من نوعها ( سعادة 2003) ، أي أن المبدع لا يُكرّر أفكار الآخرين، فتكون أفكاره جديدة، وخارجه عما هو شائع أو تقليدي.
5_ الاحتفاظ بالاتجاه ومواصلته ، فالمبدع لديه القدرة على التركيز على هدف معيّن، وعلى تخطي أي معوقات ومُشتتات تُبعده عنه. وهو قادرٌ أيضاً على أن يعدّل ويبدّل في أفكاره لكي يُحقق أهدافه الإبداعية بأفضل صورة ممكنة (حبيب،2003).
وهذه السمات تكاد تكون عامة لدى معظم المبدعين في أيّ مجال من المجالات المختلفة، سواء في المجال الفني أو العلمي أو الاجتماعي أو السياسي أو غير ذلك.
أما Parks & Swart (1994) فهو يرى أن خارطة التفكير تشتمل على ثلاثة أنواع وهي: الفهم والتوضيح، والتفكير الإبداعي، والتفكير الناقد.
التفكير الإبداعي، هو الذي يفسح المجال للخيال، ويولد أفكاراً جديدة وخلاقة. بينما يقوم الفهم والتوضيح بتوظيف مهارات التحليل، ويُعمّق القدرة على استخدام المعلومات.
أما مهارات التفكير الناقد، فهي التي تُمكّن الفرد من التحقّق من معقولية المعلومات وصحّتها . وهي التي تقود إلى الحكم الجيّد.
وهذه المهارات جميعها، تعمل معاً من أجل اتخاذ القرارات أو حلّ المشكلات. الأمر الذي يجعل الفرد لا يستغني عن أيّ منها حين يحاول توليد حلول جديدة للمشاكل التي يواجهها.
أما Fisher (2005)، فهو يرى أن معرفتنا عن التفكير تنبع من المنحى الفلسفي والسيكولوجي، فمن خلال الفلسفة وعلم المنطق، تمّ تطوير أسس التفكير الناقد. أما علم النفس المعرفي، فقد اهتمّ بدراسة الدماغ وبكيفية تطوير أفكار إبداعية.
ويتفق Fisher & Swart (2005) مع Parks(1994)، بأن الأنشطة العقلية مثل حلّ المشكلات واتخاذ القرارات تحتاج إلى توظيف مهارات التفكير الناقد والإبداعي معاً.
والواقع أن مهارات ومهام التفكير مترابطة ومتداخلة. فالمبدع الذي يهدف إلى إنتاج شيء أصيل ومتميّز، كقصيدة أو مقطوعة موسيقية، يحتاج إلى التأمل، وإلى مهارات التفكير الناقد للحكم على جودة ما أنتجه.
لكي تنجز عملاً إبداعياً، لا بدّ من أن تكون ناقداً بدرجة أو بأخرى. ولا بدّ لنا كمربين، من التركيز على التفكير الإبداعي والتفكير الناقد في آن واحد. فالتفكير الإبداعي، كما أوضح جان بياجيه ، يهدف إلى تربية أفراد قادرين على القيام بأعمال جديدة ومبادرة، ولا يكتفون بإعادة ما توصل إليه من سبقهم أو بتقليدهم, أي أفراد مبدعين ومخترعين ومكتشفين. أما التفكير الناقد، فهو الذي يهدف إلى الارتقاء بالتفكير إلى التساؤل وتفحّص كل شيء قبل قبوله والتسليم به.
ومن الجدير ذكره، أننا بحاجة ماسة إلى جيلٍ يفكر بحساسية مرهفة في مجالات متعدّدة في حياتنا اليومية، مثل المحافظة على الممتلكات العامة وعلى النظافة العامة، وعلى احترام حقوق الآخرين، وعلى النهوض بالمجتمع لتتحقق له ولجميع أفراده الحياة الكريمة.
ساحة النقاش