حقيقة الموقف الأمريكي من الثورة المصرية
محمد عبد السلام
ليس مستغربًا من الولايات المتحدة القوة العظمى الأكبر والمهيمنة أن يكون موقفها أكثر المواقف السياسية تفاعلاً مع الثورة المصرية, لا سيما إذا نظرنا إلى مصالحها الضخمة التي أصبحت في خطر حقيقي محتم فيما لو نجحت الثورة المصرية وحققت أهدافًا حقيقية كبرى تنبع من إرادة الشعب المصري ودينه وتاريخه, وهذا ما يمثل خطرًا كبيرًا ليس على مصالح الولايات المتحدة فحسب, وإنما على العالم الغربي بشكل عام, فكيف كان موقف الولايات المتحدة من هذا الحدث؟
استراتيجية الولايات المتحدة في صياغة سياساتها الخارجية:
تتبنى الولايات المتحدة في سياستها الداخلية منظومةً ليبرالية من القيم والمبادئ والأفكار والرؤى والتصورات تتركز في مجملها حول الحرية المطلقة والمساواة وحق المشاركة السياسية لكل أبناء الشعب بشكل ديمقراطي حر, وبات من المستقر في ذهن الشعب الأمريكي أن هذه القيم هي أسمى قيم الخير والصلاح في العالم, وما عدا هذه المنظومة القيمية من المنظومات فهي شر ينبغي على الدولة كما صوِّر للشعب الأمريكي أن تسعى لمحاربتها, وأن تسعى لإحلال قيم الليبرالية محلها في أرجاء العالم, حتى ولو استدعى ذلك التدخل العسكري المباشر وذلك كي يسود السلام والاستقرار ويمحى الشر والظلام..
غير أن صناع السياسة الأمريكية الخارجية لا ينظرون إلى الأمور كما يراها المواطن العادي, فهم لا ينظرون إلى الأمور بمثل هذه النظرة المثالية والطوباوية, وإنما يتصرفون بالطريقة التي تحقق مصالحهم وتحفظها, وتمنع الخصوم والأعداء من منافستهم ومزاحمتهم على الموارد والفرص المصلحية, حتى ولو اقتضى الأمر الكفر العملي بتلك القيم الليبرالية جملةً وتفصيلاً, ولكنهم يرون أنه من الضروري أن تكون ممارساتهم تلك مقنّعة بقناع قيمي وأخلاقي, يصور لشعبهم وشعوب العالم أفعالهم على أنها سعي لنشر الخير ومحاربة الشر ودعم للسلام والاستقرار وحقوق الإنسان وقيم الديمقراطية..
إذاً فالخطاب الأمريكي الإعلامي ملمع ومصاغ للشعوب العاطفية أما ممارسات الولايات المتحدة العملية في الواقع فهي مُشكَّلة بما يخدم مصالحها فقط, وقد أشار إلى هذا الباحث الأمريكي الأبرز في حقل العلاقات الدولية جون ميرشايمر وذلك في نظريته التي سماها (الواقعية الهجومية) والتي أوضحها بشكل مفصل في كتابه المأساة في سياسات القوى العظمى.
مصالح الولايات المتحدة مع نظام مبارك:
حافظ النظام السابق بقيادة حسني مبارك على مصالح أمريكية كبرى بإخلاص من أهمها:
- حفاظ نظام مبارك على معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي وفرت الأمن والاستقرار لإسرائيل, والتي جعلت من مصر بثقلها وموقعها وأهميتها حليفًا استراتيجيًّا مميزًا لإسرائيل, مما وفر على الولايات المتحدة وعلى إسرائيل الأعباء الاقتصادية والعسكرية الهائلة فيما لو غابت الحراسة المصرية للجانب الغربي من إسرائيل والتي وفرتها إسرائيل واستثمرتها في التنمية الاقتصادية والصناعية.
- حول مبارك ونظامه الدور القيادي المصري للأمة العربية والإسلامية من دور بارز في مواجهة الاحتلال الأجنبي إلى دور قيادي بامتياز للأمتين العربية والإسلامية لمساندة ذلك الاحتلال ودعمه كما حدث في إسرائيل وغزو العراق وأفغانستان.
- سيطرة مبارك ونظامه القمعي على الطاقات والتيارات الشعبية المصرية الهائلة, والتي تغذيها روح الدين الإسلامي والتاريخ المجيد والثقافة العربية الأصيلة تلك الطاقات والتيارات الرافضة للخنوع والاستسلام المهين, والتي تطمح إلى سياسة خارجية مشرفة تليق بها وليست كتلك المهينة التي ينتهجها النظام المصري السابق, والذي كبت الشعب وأفقره وسرق ثروته وأمواله؛ لينشغل الشعب المصري بالجري وراء مقومات المعيشة الصعبة وأمور الحياة اليومية المرهقة تحت نظام بوليسي أمني قمعي وحشي لا يرحم.
إلى غير ذلك من المصالح التي لا تحصى من بقاء مصر تحت نظام فاسد كدولة مهمشة محيّدة عن الصراع العربي الإسلامي - الغربي وستكون كل تلك المصالح في مهب الريح فيما لو نجحت الثورة المصرية في تحقيق أهداف كبرى حقيقية تؤدي إلى استقلال مصر السياسي التام, وتحقيق المصالح القومية العليا النابعة من عمق الإرادة الشعبية كالتوجه نحو تعزيز الأمن القومي العسكري والاقتصادي, والسعي نحو زعامة عربية حقيقية تكون لها الريادة في تكوين تحالفات سياسية استراتيجية مع دول إسلامية كتركيا وإيران ودول عربية بعد مساعدتها على التحرر من السيطرة الأجنبية لتكوّن تحالفات ذات وزن استراتيجي مؤثر في توازن القوى العالمية يشكل خطرًا محتملاً على حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وهذا ما يقلق الولايات المتحدة بالفعل وهذا ما يسعون إلى تجنبه.
الموقف الأمريكي من الثورة المصرية :
إذن مما سبق يتبين أن الموقف العملي والفعلي الأمريكي على أرض الواقع هو الإبقاء على وضع مصر القائم قبل الثورة, واستمراره قدر الإمكان ولو كان بأشكال أخرى تتلبس وتتقنع بقناع ديمقراطي شكلي تستنفذ فيه الطاقات الشعبية وتستهلك مع تحييدها ومنع تأثيرها على السياسات الخارجية والداخلية؛ لذا فالموقف الأمريكي سيسعى بشكل جدي إلى التخفيف من آثار الثورة والحد من مكتسباتها, وسيحاول إجهاضها ومنع تحقيق أهدافها إلا في حدود الإطار الشكلي الصوري ما أمكن ذلك, أما ما يصرّح به مسئولو الولايات المتحدة من دعمهم للديمقراطية والتداول السلمي للسلطة في مصر وضغطهم على مبارك للتنحي, فإنه لا يعدو سوى أن يكون كلامًا باردًا يوجهونه للتشويش على الجمهور المتابع في وسائل الإعلام من الشعب الأمريكي والعربي.
الأجندة الأمريكية لتحقيق هذا الموقف :
تنوعت تفاعلات إدارة أوباما مع الحدث حسب مستجدات الشارع المصري وتنوعت اختياراتها بناءً على ذلك، فبعد ثورة تونس وقبل بداية احتجاجات الثورة المصرية هرعت واشنطن لدعم حلفائها في المنطقة ومن بينهم حسني مبارك ونظامه وقاموا بتزويد مصر وغيرها بآليات ووسائل مكافحة الشغب وأدوات قمع المتظاهرين وتفريقهم, وذلك حرصًا منهم على دعم نظام مبارك والسيطرة على الاحتجاجات المتوقعة.
وفي بداية الثورة وبعد أن كسر المحتجون الذراع الأمنية لنظام مبارك في جمعة الغضب, قررت واشنطن تنحية مبارك والتخلي عنه كورقة محروقة لم تعد لها قدرة جيدة على إدارة الأمور وقررت تولية رجلها الأول عمر سليمان الذي يقول عنه بعض المحللون أنه يمكث في تل أبيب أكثر من مكوثه في مصر, والذي تنسب إليه الجهود البارزة في صياغة السياسة الخارجية المصرية فهو يعد بديلاً ممتازًا وأكثر مناسبة من مبارك ذي السمعة الشعبية المنهارة..
ولكنّ خلافًا حصل بين القادة الأمريكيين حول هذا الخيار الخطير الذي من شأنه إحداث فجوة كبرى بين الولايات المتحدة وحلفائها من رؤساء العرب الذي يتابعون الأمر عن كثب ويناشدون واشنطن الإبقاء على مبارك وخصوصًا الخلاف الذي دب بين أوباما وبين مبعوثه الخاص فرانك ويزنر السفير السابق لمصر والصديق الحميم لمبارك والذي كان يرى توفير مخرج مناسب للأزمة يتمثل في بقاء مبارك إلى نهاية فترته الرئاسية مع مفاوضة تيارات المعارضة وإجراء إصلاحات سياسية هامة وملموسة ولكن ما زالت الاحتجاجات تشتد وتفرض على واشنطن الإعلان عن رفض هذا الخيار والتخلي عن فرانك ويزنر ورأيه الذي أعلن عنه وقالت: إنه يمثل رأيه الخاص ولا يمثل موقفها الرسمي.
ومع تزايد الرفض الشعبي العارم لمبارك ونائبه ونظامه، أوعزت الولايات المتحدة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية أن يتولى زمام الأمور برئاسة رئيس أركان الجيش المصري سامي عنان الذي كان عائدًا للتو من الولايات المتحدة في بداية أحداث الثورة ووزير الدفاع المصري المشير محمد حسين طنطاوي وهم وغيرهم من قيادات المجلس ذوي علاقات متميزة واتصالات مكثفة مع واشنطن بحكم التدريب العسكري الأمريكي والتسليح الأمريكي للجيش المصري والاتصالات الاستخباراتية والعسكرية الأمريكية المصرية، لذا فإن الإدارة الأمريكية ترى أن هذه المؤسسة العسكرية الحليفة لواشنطن هي أنسب المؤسسات المصرية التي من خلالها يمكن التنسيق لإدارة مرحلة انتقالية تعيد الأمور إلى نصابها وتعيد الشارع المصري إلى هدوئه والتخفيف من آثار الثورة وتحقق ما لا يتعارض من مطالب الثورة مع سياسة مصر السابقة -الخارجية كليًّا والداخلية جزئيًّا- ووضع مصر القائم قبل سقوط نظام مبارك.
لذا فإن مستقبل الثورة المصرية مرهون بمدى تعاون هذا المجلس مع واشنطن أو الانحياز إلى الشعب وخياراته؛ لأنه الجهة الوحيدة التي لها القدرة على الفعل والتحرك في أرض الواقع بجانب حركات الاحتجاجات الشعبية التي فرضت بإنجازاتها وأفعالها سقوط نظام مبارك المدعوم عالميًّا وإقليميًّا, فإذا تلاشت الاحتجاجات بقيت المؤسسة العسكرية هي المسيطر الوحيد على الواقع المصري.
والذي نرجوه ونأمله من المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يستشعر مسئوليته التاريخية وعظم الفرصة المتاحة أمامه لتحقيق منجزات مصرية عربية كبرى لن تتحقق في ظل أي انصياع أو خنوع للأجندة الأمريكية.
ساحة النقاش