Global

الأثاث في العصور الوسطى

تبدأ العصور الوسطى في أوربة بسقوط رومة (476م) وتمتد حتى بدايات عصر النهضة في إيطالية (القرن الخامس عشر)، ويمكن القول إن ما بقي من أثاث تلك العصور قليل ونادر، ولكن المخطوطات المصورة والرسوم الجدارية والوثائق التجارية عن تلك الحقبة توضح بعض أنواع الأثاث وأنماطه التي كانت شائعة آنذاك. ويطلق عادة على فن العمارة والأثاث الذي أنتج في أوربة بعد تنحية آخر الأباطرة الرومان الغربيين رومولوس أوغسطس وحتى العام 1100م اسم الفن الرومانسكي Romanesque المتأثر بالفنون السورية. وقد شهدت أوربة إبان ذلك العصر تبدلات جوهرية نتيجة غزو شعوب همج (الهون والقوط والتيوتون وغيرهم) مما كبح تطورها الحضاري، وانعكس تأثير ذلك على صناعة الأثاث الذي اقتصر استعماله على تلبية أكثر الاحتياجات تواضعاً، وكانت البدائية سمته الغالبة مع استعمال المعدن في صنع بعض القطع كاملة وبحجوم صغيرة وقابلة للطي، وأهم قطع الأثاث الرومانسكي المقعد والخزانة المعدة لأكثر من غرض في آن واحد، فهي خزانة وصندوق وطاولة ومقعد، وتكاد تخلو من الزخرفة باستثناء بعض الأثاث الذي حوته القلاع والقصور ويتميز بألوانه البراقة وألقه، وفي هذا العصر استعملت القوس المستديرة المستوحاة من الشرق في العمارة. ولم يبق منها سوى قطع قليلة يعود أكثرها إلى زمن متأخر. ولعل سبب ذلك رداءة نوع الخشب وتلفه إضافة إلى أن قطع الأثاث كانت تصنع بأعداد قليلة نسبياً حتى بداية عصر النهضة.

مع إطلالة القرن الثاني عشر تبدأ حقبة جديدة في فن العمارة وصناعة الأثاث تعرف بالفن القوطي نسبة إلى قبائل القوط الشرقية والغربية التي غزت أوربة، وقد امتدت هذه الحقبة حتى القرن الخامس عشر في إيطالية والقرن السادس عشر في بقية أوربة، ويظهر أثر أسلوب العمارة القوطي في كل مناشط الحياة الأوربية التي تعود إلى ذلك العصر، ومن أهم سماته الأقواس المربعة العالية والزخرفة الشجرية على الحجر stone tracery والنوافذ المخرمة المستديرة والزخارف النباتية والحيوانية والإنسانية وشعارات النبالة وتمثيل طيات القماش والستائر المسدلة حفراً على الخشب والحجر والمعدن، وقد انعكس ذلك كله في صناعة الأثاث من تلك الحقبة وخاصة في المناطق الواقعة إلى الشمال من جبال الألب، في حين قاومت إيطالية المؤثرات القوطية، مع أنها خضعت للمؤثرات الإسلامية التي استوحت منها كثيراً من الأشكال النحتية وخاصة القوس المدببة والمستدقة والنصف دائرية.

ولم يكن عامة الناس في أوربة في ذلك العصر يمتلكون من الأثاث إلا ما ندر، ومع أن قلاع الحكام والنبلاء وكبار رجال الدين وقصورهم وأديرتهم تختلف كثيراً عن مساكن العامة، فإن قطع الأثاث فيها كانت قليلة أيضاً.

ولما كان أصحاب الإقطاعات يملكون أكثر من سكن ولا يملك الواحد فيهم سوى مجموعة أثاث واحدة فقد كانوا يصطحبون معهم كل ما يمكن حمله عند تنقلهم من منزل إلى آخر، وكانت قطع الأثاث القليلة لا تكاد تكفي أصحاب المنزل، فكان الزائر مضطراً إلى أن يصحب سريره وكل ما يلزمه من متاع حيثما حل، ولهذه الحقيقة تأثير مزدوج في أثاث ذلك العصر، فقد كانت ثمة ضرورة لمواءمة تصميم قطع الأثاث متطلبات التنقل إلى جانب صعوبة الحصول على أثاث يفيض عن الحاجة. وكانت الكراسي والمقاعد القابلة للطي والطاولات التي ترتكز إلى مناصب والسرر القابلة للفك والتركيب هي المفضلة إضافة إلى صناديق الملابس والمتاع. أما الأثاث الثقيل كموائد الطعام الضخمة والخزائن الكبيرة فكانت تترك في مكانها. وتستثنى من ذلك بيوت العبادة لأنها كانت تتمتع بضمانات كافية لم تكن تتوافر في أماكن أخرى. وكان أفضل أنواع الأثاث في تلك الحقبة يصمم خصيصاً للكنائس والأديرة التي كثر بناؤها آنذاك، ومن ذلك مقاعد المرتلين والمذبح وكرسي الأسقف ومقاعد المصلين وغيرها، وقد حفظ من ذلك العهد كرسي أسقفي في كنيسة القديس كليمنتين محفوظ في متحف برشلونة (إسبانية) غني بالزخارف المحفورة ويتألف من ثلاث جلسات تفصل بينها حواجز مخرمة في مقدمتها أعمدة تنتهي بعقود نصف دائرية.


ويمكن القول إن كثيراً من الأفكار والتحسينات التي أدخلت في الأثاث المنزلي فيما بعد مستوحاة من الأثاث الديني العائد إلى ذلك العصر، وأدل مثال على ذلك قطع الأثاث المخصصة للقراءة والكتابة التي اقتبست عن مقاعد المرتلين، وكانت ألواح الخشب الرفيعة والضيقة المجموعة ضمن إطار واحد من التحسينات التي تبناها صناع الأثاث في العصور الوسطى من أجل تصميم السطوح المتسعة، بعد أن كانت تستعمل لهذه الغاية الألواح الكبيرة السميكة من قطعة واحدة قابلة للتشقق والانكسار.

كانت الضخامة سمة مميزة للأثاث القوطي عامة، وكان شكله مستطيلاً ويزود بأطواق ومفصلات معدنية كبيرة الحجم ومقابض للتقوية والزينة، وكان السرير غنياً بزخارفه المحفورة والنافرة وتحيط به ظلة وستائر، أما الكراسي فكانت قليلة جداً ويرمز استعمالها إلى رفعة المكانة والسلطان، وحتى البيوت الكبيرة لم تكن تفرش بأكثر من كرسيين اثنين أحدهما لرب الأسرة والآخر للزوجة، وربما وجد كرسي ثالث للضيوف من ذوي الشأن.

ولعل عبارة «صاحب الكرسي» الانكليزية chair man (الرئيس) المستعملة اليوم مقتبسة من ذلك العصر، أما قاطنو المنزل الآخرون فكانوا يجلسون على مقاعد طويلة من غير مسند للظهر، أو على كراسي ليس لها مساند، أو على الصناديق المعدة سطوحها لهذه الغاية، وكانت الكراسي تصنع أول الأمر من عصي مخروطة مغزلية الشكل، ثم شاع استعمال الكراسي المتصالبة القابلة للطي على شكل X من الخشب أو المعدن، وكانت جلسة الكرسي ومسند ظهره يصنعان من شريط قماشي أو من الجلد المتين، وظهر بعد ذلك نمط جديد من الكراسي الثقيلة مطور عن الصندوق وجلسته متحركة تتيح استعمال أرضية الصندوق لحفظ الأشياء. أما مساند اليدين والظهر وكذلك قاعدة الكرسي فكانت تتألف من ألواح خشبية مزخرفة بالأسلوب القوطي، وكان الظهر مرتفعاً إلى درجة مبالغ فيها، وقد ينتهي بظلة غنية بالزخارف أو يثبت إلى الجدار كما هو الحال في الكنائس.

وكانت الصناديق منوعة الأشكال وتعد أهم قطع الأثاث، فهي تستعمل لحفظ الأشياء الخاصة والمنزلية ولحفظ الثياب وللجلوس عليها كما تستعمل موائد للطعام، وأضيف إليها في القرن الخامس عشر أرجل أو قوائم أو قواعد ترتفع عن الأرض، ثم صارت لها أبواب أمامية أو جانبية فتحولت إلى خزائن متعددة الأغراض أو خزائن خاصة ومنها خزائن الملابس وخزائن الأواني المنزلية buffet، وطور بعضها ليصبح خواناً لحفظ الطعام، وكانت الصناديق تصنع من ألواح الخشب الكبيرة المزينة بحفر غير عميق نافر أو غائر وأكثره شيوعاً الشكل المعروف باسم «طية الكتان» linenfold الذي يشبه القماش المطوي وقد انتشر هذا النوع من الزخرفة وغيره من الزخارف القوطية في شمالي فرنسة والفلاندر والأراضي المنخفضة وألمانية واسكندنافية وإنكلترة ولكل منها خصائصها. وكانت أكثر قطع الأثاث الفاخرة في هذا القرن تطلى بالطلاء أو توشى بالذهب، كما كان بعضها يزين بقماش ثمين مثنى زاهي الألوان أو يزود بحشيات ووسائد، وقد استمر هذا التقليد حتى عصر النهضة.

  • Currently 206/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
70 تصويتات / 3979 مشاهدة
نشرت فى 24 يناير 2010 بواسطة medo17

عدد زيارات الموقع

321,983