الأثاث العربي الإسلامي
ليس ثمة تصور واضح ودقيق عن ما كانت تحتويه بيوت المدن العربية من أثاث وأدوات قبل الإسلام وفي صدر الإسلام، غير أن بعضاً منها حوى، ولا شك، كل وسائل الراحة التي كانت متوافرة في ذلك العهد. وتتحدث الروايات عن حياة بعض أثرياء الجزيرة العربية في الجاهلية ودرجة ثرائهم وبذخهم، فكانوا يشربون بأوان من ذهب وفضة ويتفننون في مأكلهم ويستحضرون الخدم والحشم من الشام والعراق والعجم. وقد عرف العرب الزرابي (القطوع الحيرية الرقيقة أو هي كل ما بسط واتكئ عليه) والبسط (ضرب من الطنافس طويل قليل العرض) والنمارق (ج نمرق وهي وسادة صغيرة يتكأ عليها أو وثيرة فوق الرحل). والطنافس (الثوب والحصير من سعف النخل عرضه ذراع) والحصر (جمع حصير وهي كل ما نسج من جميع الأشياء والثوب الموشى الحسن)،
وهناك ضرب من الطنافس الفاخرة يسمى الرحال اشتهرت به الحيرة. وكان الناس عامة يفرشون بيوتهم بالحصر المصنوعة من البردي والأسل أو خوص النخل. وأما الميسورون منهم فكانوا يفترشون البسط والزرابي المنسوجة ويتكئون على الوسائد. ويعد تقديم الوسادة إلى الضيوف من إمارات التكريم، وكانت الكراسي والموائد والأسرة معروفة ويستعملونها في مجالسهم، والسرير في عرفهم ما يجلس عليه وينام فوقه ودلالة على الملك والنعمة. وهناك نوع من الكراسي وصف «بالخلب» قوائمه من حديد ومقعده من ليف مفتول صلب، وكان أهل مكة يستوردون الأثاث الراقي من بلاد الشام والعراق لما عرفت به البلاد من حسن الصنعة والذوق، ويمكن معرفة أصول تلك الأشياء والأماكن التي استوردت منها من أسمائها. ويمكن أن يعد الهودج والمحمل والمحفة من أنواع الأثاث المستعمل في التنقل.
يلم تطور التقليد الأصلي للأثاث في الإسلام كثيراً عما سبقه كما حدث في الصين مثلاً، وقد كان الخشب على توافره بكثرة في المناطق الشمالية في إيران وآسيا الصغرى نادر الوجود في الأماكن الجافة الصحراوية كالجزيرة العربية، والأهم من ذلك أن العرب الفاتحين مع تأثرهم بمن جاورهم من الشعوب، حافظوا على كثير من تقاليدهم وعاداتهم ونقلوها إلى تلك الشعوب. وكان أكثر القبائل العربية التي شاركت في الفتح من البدو الرحل الذين يقطنون الخيام، وكانت ضرورات الحركة والتنقل تحول دون اصطحاب الأثاث الثقيل الكبير الحجم، وظل استعمال الزرابي والبسط والسجاد والحشيات والوسائد هو المفضل عندهم إضافة إلى قطع الأثاث الخفيفة السهلة النقل والقابلة للطي وصناديق الثياب.
وبعد الانتقال إلى وضع الاستقرار والاستيطان ومحاكاة الشعوب المجاورة في طرائق عيشها بدأت تظهر إلى الوجود قطع أثاث معالجة بأساليب مميزة وتتناسب مع متطلبات الدين الإسلامي الذي امتدت رقعته من الصين والهند شرقاً إلى الأندلس والمغرب الأقصى غرباً ومن أقاليم القفقاس وآسيا الوسطى وصقلية وجنوبي إيطالية وجبال البرانس شمالاً إلى بحر العرب والمحيط الهندي وأواسط إفريقية جنوباً، وبلغ الفن الإسلامي أوج ازدهاره في القرنين السادس والسابع للهجرة، (الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين) ثم بدأ يتراجع تحت تأثير النفوذ الغربي ومنتجاته بدءاً من القرن الثامن عشر، ومال الصناع المسلمون إلى تقليد تلك المنتجات تمشياً مع متطلبات عصرهم. ولم تكن مبتكرات أرباب الصنعة المسلمين من معماريين وصناع أثاث وتحف وخزافين ونساجين وزجاجين ومصورين وغيرهم من طراز واحد ولا من نمط واحد مع اختلاف الأقاليم والعصور وإن تشابهت أشكالها واستعمالاتها وموضوعات زخارفها، لأن الحرف والصناعات الفنية ظلت بعد انتشار الإسلام في يد أهل الأقاليم المفتوحة، وكان تطورها يسير وفقاً للمؤثرات الإسلامية من دون أن تفقد صلتها بتراثها المحلي، ويمكن تمييز أنماط الأثاث الإسلامي وطرزه من غيرها بسهولة ويسر على تباين تفصيلاتها وجزئياتها تبعاً للإقليم أو العصر، فضلاً عن أن بعض أنواع الأثاث كانت تشتهر وتزدهر صناعتها في إقليم دون سائر الأقاليم الإسلامية لتوافر المواد الأولية أو مهارة أبناء ذلك الإقليم وخبرتهم المتوارثة.
أما أكثر قطع الأثاث انتشاراً في العالم الإسلامي فكانت المنبر والمحراب والرحل (كرسي المصحف) وكرسي الإمام، وكرسي الأمير والأريكة والسرير والتخت والكرسي ذو المساند والمقعد والطاولة والمنضدة وصندوق المتاع وعلب الزينة. وكان النوم والجلوس وتناول الطعام يتم عادة على الأرض المفروشة بالطنافس والزرابي الفاخرة والحشيات المطرزة، أو على مقاعد طويلة وأرائك وصفات مغطاة بالسجاد، أو أسرة منخفضة وتخوت تغطيها الحشيات والستر، وكانت الأغطية والفرش تكدس في زوايا الغرف أو في خزائن وصناديق، وكانوا يجعلون في الجدران كوات مستطيلة مفتوحة أو ذوات أبواب لرصف الكتب والأوراق والتحف والأواني الثمينة (الكتبيات). وكان عدد قطع الأثاث قليلاً في القصور والبيوت. وقد عوض المعماريون والنجارون المسلمون عن جمال الأثاث بالتزيين المعماري للغرف وأولوه رعاية كبيرة، فكانوا يغطون الجدران والسقوف والعضادات بألواح خشبية محفورة أو مزخرفة وملونة تعد غاية في الروعة والفخامة، ويضيفون إليها حواجز حاجبة مخرمة وشعريات خشبية وأخصاصاً، وأكثرها مطعم بالصدف والعظم وعرق اللؤلؤ والخشب، أو مكفت بالفضة والذهب والعاج والأحجار الكريمة. واستعمل الجص الملون في تزيين الجدران الداخلية وكسوتها في كثير من البلدان الإسلامية، وخاصة إيران والعراق والشام، وكانت الزخرفة تقتصر على التزيينات النباتية والهندسية والكتابة العربية، وقد تعتمد أحياناً بعض الأشكال الحيوانية والطيور. إذ من المعروف أن من أولى ميزات الفنون الإسلامية بعدها عن تصوير الكائنات الحية. وكان الفنان المسلم يهرب من الفراغ وينفر منه، فكان يسرف في استعمال الزخارف لتغطية المساحات والسطوح، ولا يؤمن بحصر الزخرفة في نطاق خاص بها، وقد تطلب ذلك تكرار عناصر الزخرفة إلى درجة تكاد تكون لا متناهية، مع عدم التركيز على موضوع رئيس فيها, وقد تراكبت هذه العناصر وتمازجت في تشكيل زخرفي رائع الجمال انفرد به الفن العربي الإسلامي واشتهر في العالم كله باسم» «أرابيسك» واستعملت في إنتاجه أدوات مختلفة، وخاصة المخارط وأدوات التخريق والحفر على الخشب.
أما أقدم طرز الأثاث الإسلامي فهو الطراز الأموي المتأثر بالأساليب الفنية التي سادت بلاد الشام قبل الفتح كالبابلية - الآشورية والآرامية - السريانية والهلينية والرومانية والمسيحية البيزنطية، ولم يبق من أثاث ذلك العصر إلا ما تذكره المصادر عرضاً. ويأتي بعد ذلك الطراز العباسي في بغداد وسامراء وبلاد العجم، وتبدو فيه المؤثرات الإيرانية إلى جانب المؤثرات الموروثة عن حضارات بلاد الرافدين القديمة وعن الأساليب الهيلينية السلوقية. وقد بلغ هذا الطراز أوجه في القرن الثالث للهجرة (التاسع للميلاد)، ثم دب إليه الوهن بضعف الحكومة المركزية وتفرعت عنه طرز مستقلة إلى حد ما مع محافظتها على الطابع الإسلامي ومنها الطراز السلجوقي في النحت والزخرفة والعمارة، وكذلك الطراز المغولي المتأثر بالأساليب الفنية الصينية، والطراز الصفوي. ولقد ظل هذا الطراز هو الغالب في الأقاليم التي دخلها الإسلام من الهند حتى القرن السادس عشر حين ظهر طراز هندي إسلامي يجمع الخصائص المحلية مع العناصر المستمدة من الطرز السابقة.
أما في مصر وبلاد الشام والمغرب فقد سادت طرز فنية في العمارة وصناعة الأثاث مميزة من غيرها، ومنها الطراز الفاطمي الذي ازدهر في مصر والشام وامتد تأثيره إلى صقلية وجنوبي إيطالية، ثم الطراز الأيوبي في مصر والشام وهو مرحلة انتقالية من الطراز الفاطمي إلى الطراز المملوكي، الذي استمر من القرن الثالث عشر حتى القرن السادس عشر، حين سيطر العثمانيون على الشام ومصر سنة 1517 وقضوا على دولة المماليك، وفقدت الشام ومصر استقلالهما ومهرة الصناع فيهما. ومنذ ذلك العصر أصبح الأثاث المنتج في آسيا الصغرى والجزيرة العربية ومصر يعرف بالطراز العثماني، وهو طراز إسلامي مطور عن الطرز السابقة. وقد أضيف إليه صبغ الخشب بألوان مميزة كالأخضر والأزرق والأحمر القانئ والتوشيح باللونين الذهبي والفضي، ودخلته المؤثرات الغربية من طرازي الباروك والروكوكو. وظهرت في دمشق منذ القرن التاسع عشر صناعة «الموزاييك» الخشبي لتغطية سطوح قطع الأثاث كالخزائن والصناديق وعلب الزينة والكراسي والأرائك والمقاعد والطاولات وألواح اللعب (النرد والشطرنج).
أما في المغرب العربي فقد ظلت الأساليب الفنية القديمة قائمة هناك مع تأثرها بالفن الأموي ثم العباسي منذ القرن الرابع للهجرة (العاشر للميلاد).
وبلغ الطراز الأموي في الأندلس ذروته في القرن الخامس للهجرة حتى ليمكن عده طرازاً أموياً غربياً، وقد طور هذا الطراز في عهدي المرابطين والموحدين فعرف بالطراز الأندلسي المغربي وبلغ الأوج في غرناطة (الأندلس) ومراكش (المغرب) في القرن الثامن للهجرة (الرابع عشر الميلادي). وقد احتفظت مراكش وفاس بكثير من عناصر هذا الطراز في حين تسربت المؤثرات التركية والأوربية إلى الجزائر وقاومتها تونس زمناً طويلاً محافظة على طابعها المغربي الأصيل.
وكان الطراز الأندلسي المغربي مصدر إلهام للأساليب الفنية الإسبانية التي ازدهرت على يد المدجنين من العرب المسلمين الذين دخلوا في طاعة الإسبان، كما كان مصدر إلهام للجمهوريات الإيطالية قبل عصر النهضة وإبانه. ولا تعني نسبة هذه الطرز إلى الدول التي بسطت سلطانها على هذا الإقليم أو ذاك من العالم الإسلامي أن الطراز المعني بدأ بظهور تلك الدولة وانتهى بانتهائها أو أنه كان محصوراً ضمن حدودها، إذ من غير الممكن تحديد تاريخ ظهور طراز جديد أو نهايته كما هو شأن تاريخ الدول، لأن هذه الطرز يتأثر أحدها بالآخر ويتطور بعضها من بعض، فالفصل بينها اصطلاحي، ولا يمكن تبين معالم طراز ما تماماً إلا بعد قيام الدولة المنسوب إليها بزمن كبير .