بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد، فالاعتكاف لغة: هو اللبث والحبس والملازمة على الشيء خيرًا كان أو شرًّا، قال تعالى: {وَلا

تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، وقال تعالى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}[الأنبياء: 52].

وشرعا: هو اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنيَّة. والدليل فيه قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ}. فالإضافة إلى المساجد المختصة بالقُرَبِ، وترك الوطء المباح لأجله دليل على أنه قُرْبَة.

ومن السنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده وقد أجمعت الأمة على سُنِّيَّته. وهو من الشرائع القديمة، قال الله تعالى: {وَعَهِدْنَا إلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا

بَيْتِيَ للطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ} [البقرة: 125].

وفي بيان حكمة شرعية الاعتكاف قال ابن القيم: "وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه وما يُقَرّب منه فيصير أُنْسه بالله بدلا عن أُنسه بالخلق، فيعده بذلك لأُنْسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم".

والاعتكاف مستحب في كل وقت، سواء أكان في رمضان أم في غيره، وهو في العشر الأواخر من رمضان أفضل منه في غيره؛ لطلب ليلة القدر بالصلاة والقراءة وكثرة الدعاء، فإنها أفضل ليالي السنة قال تعالى: {لَيْلَةُ القَّدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، أي: خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، والجمهور على انحصارها في العشر الأخيرة.

وقد يكون الاعتكاف واجبا عند نذره، بمعنى أن ينذر المسلم الاعتكاف، كأن يقول: لله علَيَّ أن اعتكف، أو نذرت الاعتكاف لله، أو نحو ذلك بما يقع  به النذر.

 

أقل مدة للاعتكاف وأكثرها:

أقل مدَّةٍ للاعتكاف هي ما يطلق عليه اسم الاعتكاف عُرْفا؛ وهذا ما ذهب إليه متأخرو الحنفية، والشافعية، والحنابلة؛ فإن الاعتكاف في اللغة يقع على القليل والكثير، ولم يحده الشرع بشيء يخصه فبقي على أصله.

قال الحصكفي من الحنفية: "وأقله نفلا ساعة من ليل أو نهار عند محمد، وهو ظاهر الرواية عن الإمام أبي حنيفة لبناء النفل على المسامحة، وبه يفتى، والساعة في عرف الفقهاء جزء من الزمان لا جزء من أربعة وعشرين".

قال النووي: "الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور: أنه يشترط لُبْثٌ في المسجد، وأنه يجوز الكثير منه والقليل حتى ساعة أو لحظة". وقال الخطيب الشربيني من الشافعية: "(والأصح أنه يُشتَرط في الاعتكاف لُبْثُ قَدْرٍ يُسمَّى عكوفًا) أي: إقامة بحيث يكون زمنها فوق زمن الطمأنينة في الركوع ونحوه، فلا يكفي قدرها، ولا يجب السكون بل يكفي التردد فيه".

وقال المرداوي من الحنابلة: "أقله إذا كان تطوعًا أو نذرًا مطلقا ما يسمى به معتكفا لابثا".

وقال ابن حزم الظاهري: "الاعتكاف: هو الإقامة في المسجد بنِيَّة التقرُّب إلى الله عز وجل ساعة فما فوقها، ليلا أو نهارا، ويجوز اعتكاف يوم دون ليلة، وليلة دون يوم، وما أحبَّ الرجلُ، أو المرأةُ...  فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، وبالعربية خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاعتكاف في لغة العرب: الإقامة... فكل إقامة في مسجد لله تعالى بنية التقرب إليه- اعتكاف، وعكوف... فالاعتكاف يقع على ما ذكرنا مما قلَّ من الأزمان أو كثر إذ لم يخص القرآن والسنة عددًا من عدد، ولا وقتا من وقت".

وقال الشوكاني: "لم يأتنا عن الشارع في تقدير مدة الاعتكاف شيء يصلح للتمسك به، واللبثُ في المسجد والبقاء فيه يصدق على اليوم وبعضه، بل وعلى الساعة إذا صحب ذلك نية الاعتكاف".

- ويصح نذر اعتكاف ساعة، ولو نذر اعتكافا مطلقا كفاه لحظة، وقد روي عن ثوبان في فضل من اعتكف أقل من يوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عكف نفسه ما بين المغرب والعشاء في مسجد جماعة لم يتكلم إلا بصلاة وقرآن كان حقًّا على الله تعالى أن يبني له قصرًا في الجنة"، ويُسَنُّ للمسلم عند الشافعية أنه كلما دخل المسجد أن ينوي الاعتكاف.

واستحب العلماء إتمام الاعتكاف يوما؛ ليخرج مِن خلاف مَن يَشْتَرط الاعتكاف يومًا فأكثر.

أما أكثر مدة للاعتكاف فلا حَدَّ لها؛ قال النووي: "وكُلَّما كثُر كان أفضل، ولا حدَّ لأكثره، بل يصح اعتكافُ عُمْر الإنسان جميعه، ويصح نذرُ اعتكاف العمر".

وقال ابن الملقن: "وأجمع العلماء على أن لا حدَّ لأكثره".

 

بداية الاعتكاف ونهايته:

- بداية الاعتكاف ونهايته يحددها المعتكِف بنفسه، فإن نوى اعتكاف مدة معلومة استُحب له الوفاء بها بكمالها، فإن خرج قبل إكمالها جاز؛ لأن التطوع لا يلزم بالشروع، وإن أطلق النِّيَّة ولم يُقَدِّر شيئًا دام اعتكافُه ما دام في المسجد.

- ويستحب لمن أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان أن يدخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة الحادي والعشرين من رمضان، ويُسْتَحبُّ له أن يبيت ليلة العيد فيغدو إلى مصلى العيد من معتكفه في المسجد، وإن خرج قبل ذلك جاز.

قال إبراهيم النخعي: "كانوا يُحِبُّون لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان أن يَبِيت ليلة الفطر في المسجد، ثم يَغْدُو إلى الْمُصَلَّى من المسجد".

وقال النووي: "قال الشافعيُّ والأصحابُ: ومَن أراد الاقتداءَ بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فينبغي أن يدخل المسجد قبل غروب الشمس ليلة الحادي والعشرين منه؛ لكي لا يفوته شيء منه.

يخرج بعد غروب الشمس ليلة العيد، سواء تَمَّ الشهر أو نقص، والأفضل أن يمكث ليلة العيد في المسجد حتى يصلي فيه صلاة العيد، أو يخرج منه إلى المصلى لصلاة العيد إن صلوها في المصلى... وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه...؛ دليلنا أن العشر اسم لليالي مع الأيام".

 

الاعتكاف في المسجد:

اتفقت المذاهب الأربعة على أن اعتكاف الرجل لا يصح إلا في المسجد؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} وإن كان الأصل أن الإخبار عن واقع الحال لا يفيد الشرطية، ولكن ذكر المساجد مع الوصف بكونهم عاكفين في المساجد لا يصح أن يكون لجعل المساجد شرطًا في منع مباشرة المعتكف؛ لمنع المعتكف من المباشرة وإن كان خارج المسجد، ولمنع غير المعتكف أيضا من المباشرة داخل المسجد- فتعَيَّن كون المساجد شرطًا لصحة الاعتكاف.

  قال القرطبي: "أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد".

واختلفوا في المسجد الذي يصح الاعتكاف فيه:  فذهب المالكية والشافعية إلى جواز الاعتكاف في أيِّ مسجد من المساجد؛ لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} فقد عَمَّ الله المساجد كلها، ولم يخص منها شيئا، فلا دليل على تخصيص بعضها بالجواز.

وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اشتراط كون المسجد جامعًا عامًّا تقام فيه الصلوات الخمس وصلاة الجماعة، واستدلوا بما روي عن جويبر عن الضحاك عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح"، ومفهومه أن المسجد الخاص الذي لا يستقيم فيه الأذان وصلاة الجماعة لا يصح الاعتكاف فيه، والحديث ضعيف لا يحتج به.

والمسجد الجامع وإن لم يكن مشروطا لصحة الاعتكاف، فالاعتكاف فيه أفضل؛ للخروج من خلاف من أوجب الاعتكاف فيه، ولكثرة الجماعة فيه، وللاستغناء عن الخروج للجمعة.

 

الخروج من الاعتكاف:

يشترط لصحة الاعتكاف اللبث في المسجد، فينبغي أن يستمر اللبث إلى مُدَّة تُسَمَّى في العُرْف اعتكافا.

ولا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد، إلا لما لا بد له منه، فإن خرج المعتكف من المسجد بلا عُذر كنُزهة، أو أمر غير ضروري حرُم عليه ذلك وانقطع اعتكافه، أي: بطل.

أما إذا خرج لعذر، فإن كان خروجه لعذر معتاد، كقضاء حاجة من بول وغائط، وكالخروج للقيء وغسل نجاسة، ووضوء ونحوه من الطهارة الواجبة- فله الخروج لذلك، ولم يحرم ولم ينقطع تتابع اعتكافه؛ لأن كل ما سبق ذكره مما لابد منه، ولا يمكن فعل أغلبه في المسجد، فلو بطل الاعتكاف بخروجه إليه، لم يصح لأحد الاعتكاف؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف، وقد علمنا أنه كان يخرج لقضاء حاجته، روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إِلَيَّ رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان".

قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن للمعتكف أن يخرج عن معتكفه للغائط والبول".

- أما إذا كان الخروج لعذر غير معتاد، كالخروج بسبب الخوف على نفسه، أو ماله من عدوٍّ أو لص، أو حريق، أو الخروج لانهدام المسجد، أو لأداء أو تحمل شهادة تعيَّنت عليه، أو لإقامة حدٍّ، أو طلب سلطان، ولنفير متعين، وخروج المعتكفة لقضاء عدة الطلاق، ولمرض شديد تشق معه المقام في المسجد- فلا يبطل الاعتكاف بالخروج لشيء من ذلك.

- وجمهور العلماء على أنه ليس للمعتكف الخروج للأكل والشرب إلا إذا لم يكن هناك من يأتيه بهما.

وعند الشافعية يجوز الخروج للأكل؛ لأن الأكل في المسجد مما يُستحيا منه وإن أمكنه الأكل فيه، وخُصَّ ذلك بالمسجد المطروق، بخلاف المسجد المهجور، ولا يجوز له الخروج للشرب مع تمكنه من الشرب في المسجد، وإلا جاز.

- وإذا تخلل الاعتكاف جمعة في مسجد غير جامع وجب على المعتكف الخروج إلى صلاة الجمعة إذا كان من أهلها؛ لفرضيتها عليه، ولعدم إمكان قضائها جمعة.

- ويجوز ويصح اشتراط المعتكف الخروج من معتكفه قبل دخوله في الاعتكاف، وهذا مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، وبه قال كثير من السلف كالحسن، وقتادة، وعطاء، وإبراهيم النخعي.

والشروط نوعان: عام وخاص:

أما الشرط العام كأن يقول: إذا عرض لي عارض، أو شغل، أو مرض ونحو ذلك خرجت، فيصح هذا الشرط سواء أكان الاعتكاف واجبًا أم تطوعًا عند الشافعية والحنابلة.

وعلى هذا يصح أن يخرج المعتكف لكل شغل ديني، أو دنيوي مباح.

فالديني مثل: صلاة الجمعة، والجماعة، وعيادة المريض، ونحو ذلك. والدنيوي المباح: مثل لقاء سلطان أو اقتضاء غريم ونحوه.

والشرط الخاص: إن كان قربة كعيادة مريض، وصلاة جنازة، وحضور مجلس علم فجائز عند أبي حنيفة، والشافعية، والحنابلة.

وإن كان غير قربة فعند الحنابلة يشترط أن يحتاجه ولا ينافي الاعتكاف.

وكذلك عند الشافعية يشترط أن يكون مباحًا مقصودًا غير مناف للاعتكاف.

- وفائدة اشتراط المعتكف الخروج في الاعتكاف المستحب عدم بطلان اعتكافه بالخروج؛ لأجل الشرط، وأما في الاعتكاف الواجب بنذر ففائدته أنه لا يلزمه تدارك ما فاته فكأنه قال: نذرت هذا الزمن والمشروط مستثنى منه.

- ومن العلماء من أجاز الخروج من الاعتكاف لقُرْبَة من القُرَب بلا شرط سابق لها قبل اعتكافه، كعيادة مريض، وصلاة جنازة، وغُسْل جمعة، وتجديد وضوء، وحضور مجلس علم ونحو ذلك. وبذلك قال الحسن البصري وسعيد بن جبير والنخعي، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقد روي عن سيدنا علي بن أبي طالب ما يؤيد قولهم، قال: "مَنِ اعتكف فلا يرفث ولا يساب، ويشهد الجمعة والجنازة، وليوصل أهله إذا كانت له حاجة وهو قائم لا يجلس عندهم".

والله تعالى أعلى وأعلم.

المصدر: دار الفتوى المصرية
  • Currently 63/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
21 تصويتات / 479 مشاهدة
نشرت فى 2 سبتمبر 2010 بواسطة mechpower

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

46,288