" لترى كيف أن حدود التفاعيل قد حجبت كلية الرؤية حتى لدى علم من أعلام العروض العربي فرآى من الحقيقة ما سمحت به حدود التفاعيل ".
كانت هذه اقتباسة من مقال للأستاذ خشان تتضمن رأيه فيما تسببت به حدود التفاعيل من حجب الرؤيه ؛ وتلك المقولة من مبادئه المشهورة عنه.
ومن الغبن للعروضيين أن نقول أن حدود التفعيلة قد حجبت رؤيتهم تماما لما هو أبعد منها ؛ وقد يتفق أستاذنا معي بعض الاتفاق إذا ذكرته أنهم قد وضعوا ضوابط المكانفة والمعاقبة التي يمتد تأثيرها إلى خارج حدود التفعيلة ؛ كما يوجد أيضا قواعد خاصة لبعض الأعاريض والأضرب تمنع تغييرات معينة من الدخول على التفعيلة السابقة ، كما أن ما يسمحون به من تغييرات ينبهون على ما يكون منه مستحسنا وما يكون ثقيلا أو مذموما أو مستقبحا ، وهم من شدة فهمهم للأوزان وهضمهم إياها لم يجدوا داعيا لتشريحها للدارسين ؛ فقد كانوا يوقنون أن فهم تشريح الأوزان هو نتيجة بديهية يصل إليها كل من درس العروض دراسة جادة واعية.
لكنهم كانوا حريصين ألا يضعوا أية تصورات من شأنها أن تؤدي إلى إجازة الممنوع أو منع الجائز مهما كان مستقبحا ، فإن العروض للأوزان كالنحو للغة ؛ لا يبحث كثيرا في جمال الوزن ولكن شغله الشاغل بصفة أساسية هو صحة الوزن.
أما أن تنشأ علوم أخرى إلى جانب العروض تكون بالنسبة إلى العروض كالبلاغة بالنسبة إلى النحو فلا بأس ؛ بشرط أن تدرك هذه العلوم المساعدة أن مهمتها توضيح ما هو أجمل وما هو أقل جمالا وما هو ثقيل وما هو منكر في الأوزان والإيقاعات دون أن تتصادم مع قواعد العروض بإجازة ما منع أو منع ما أجاز.
ولقد قرأت في أحد المنتديات موضوعا عن حوسبة الإيقاعات ذكر أن الباحث - المهندس محمد هاشم الكمالي من مواليد أم درمان 1952م - قد قام بدراسة لإحدى قصائد شوقي فوجد أن قصيدته المكونة من 153 بيتا فد ضمّنها شوقي 49 إيقاعا من جملة 64 إيقاعا ممكنا ، أما الإيقاعات الأخرى فقد وردت عنده في قصائد أخري.
وبالمناسبة فإن برنامجي ( برنامج غانم للعروض ) الذي يتضمن جميع الإيقاعات الممكنة لجميع قوالب الشعر العمودي ، فإنني قد رأيت فيه بالفعل بعض قوالب الشعر كان عدد إيقاعاتها 64 إيقاعا وأذكر هذا تصديقا لكلام ذلك الباحث.
وأقول إنه بتكرار مثل هذه الدراسات يمكن للباحث أن يكوّن رأيا حول الإيقاعات الأكثر جمالا والإيقاعات الأقل جمالا ؛ ولكن مثل هذه النتائج لا يجب أن تعطيه الحق في إلغاء أوزان أو حذفها ومن ثم الإبقاء فقط على ما يراه مناسبا من الأوزان على ضوء دراساته وأبحاثه ؛ ولكن يمكنه بواسطتها توضيح الإيقاعات الأكثر استعمالا والأقل استعمالا كما يمكن أن يبين الإيقاعات نادرة الاستعمال أو المهجورة تماما دون أن يحذف شيئا مما أقره علماء العروض.
وبمثل ذلك أيضا يجب أن يكون مذهب الأستاذ خشان ، فإن ما يصل إليه من نتائج إن اتفقت مع القواعد الخليلية فبها ونعمت ، أما إن اختلفت فيجب أن يكون مكانها في علم بلاغة الأوزان أو جماليات الوزن وليس قواعد الوزن ، فليس كل ما يصل إليه لأستاذ خشان من نتائج مخالفة هو بالضرورة ملزم للعروضيين أن يغيروا قواعدهم - المستقرة منذ مئات السنين - ويهجرونها من أجل نتائجه ، ليس من المنطق ولا الإنصاف أن يقول أحد بهذا ولا يحق لأحد أن يقول به ، ولكن من المفيد جدا أن نستمع إليه وهو يشرح ويبرهن لماذا أن هذا الوزن أجمل من ذاك ، أو أن هذا الوزن مريح وذاك ثقيل وله أن يستعرض عندئذ معطيات نظرياته الرقمية في إطار بلاغة وجماليات الوزن ؛ وليس في إطار تقعيد جديد لعلم العروض.
أما في حلة اتفاق نتائجه مع قواعد العروض المستقرة اتفاقا تاما فله عندئذ أن يعرض فكرته في إطار علم العروض بصفته طريقة أخرى من طرق دراسة العروض وقواعده.
وإنني ما زلت أتعرف على أفكار الأستاذ خشان بحسبما يسمح به الوقت ؛ ولكن ما بدا لي منها حتى الآن أنها تقترب من البحث في بلاغة وجماليات الأوزان بأكثر من اقترابها من البحث في قواعد الوزن والعروض.
ونهنئكم جميعا بشهر رمضان الكريم .. وكل عام وأنتم بخير.
وإلى لقاء آخر إن شاء الله .. دمتم بخير...
ساحة النقاش