" وهنا يقول الشاعر عبد الوهاب شريف أنه جاء ببحر شعري آخر دعاه ( بحر الغياب )
ووزنه : فعولن مفاعلتن مفاعلتن فعولن
وعليه الأبيات :
على ماتبقّى تضمحلّ الأمنياتُ
وفي القعر تنهش وجنتيها العاطفاتُ
إلى يوم فاض الوجه تنأى الذكرياتُ
وتأسى لأنّ ضحاك يسقيه المماتُ
وإياك خلف سحائب يغفو السباتُ
وأدري إذا أمطرن تندلع الحياةُ
ولكنّ أقفال السحائب معضلاتُ
ولا تستطيع البوح صمّ عارياتُ "
======================
كانت هذه اقتباسة من مقدمة مقال للأستاذ خشان ، وكان له رأيه في هذا الوزن ، وكان للأستاذ الغول رأي مخالف.
حيث نفى الأستاذ خشان شرعية وجود السبب الثقيل في هذا الوزن إلا إذا أرجع أصله إلى بحر الكامل.
بينما نفى الأستاذ الغول إمكانية إرجاعه إلى بحر الكامل ، وأفاد بأنه وزن جديد يتبع قواعد الخليل ونهجه.
وفي الحقيقة فإنني أرى الأستاذ خشان على حق في أحد الجوانب ، وقد جانبه الصواب في جانب آخر ، كما رأيت أيضا الأستاذ الغول على حق في جانب ، وجانبه الصواب أيضا في جانب أخر ، وسوف أوضح ذلك بعد قليل.
والصورة أمامي واضحة غير مشوشة ، لأنني أبني رؤيتي على قاعدة راسخة أستخدمها عند تحليلي أو حكمي على الأوزان.
فما هي هذه الأسس ؟؟
أولا – تصنيف الأوزان :
أ – مفهوم الأوزان الخليلية وتصنيفها :
الأوزان الخليلية المستعملة ما هي إلا بضع عشرات من الأوزان التي لها أخوات من الأوزان غير المستعملة تقدر بآلاف الأوزان الممكن اشتقاقها من دوائر الخليل على نفس أسسه وقواعده ، وهذه إذا استعملها أحد ذات يوم فسوف تظل خليلية المنشأ ، وعن نفسي فإنني أسمي المستعمل منها منذ عصر الخليل بالمورودات لكثرة ورود الشعراء إياها ، وأما ما لم يكن مستعملا في عصر الخليل فأسميه المهجورات ؛ فالمهجورات أسم للقوالب المستحدثة المشتقة على أسس خليلية من البحور الستة عشر المستعملة.
مازال هناك جانب آخر من الأوزان الخليلية وهي أوزان المهملات ؛ وأعني بها أي وزن يشتق من البحور المهملة بتمام أو جزء أو شطر أو نهك ؛ طالما التزمت الأسس الخليلية في الاشتقاق.
فما عدا ذلك فليس خليليا ، ومع ذلك فقد ترك له الباب مفتوحا على مصراعيه كما في شعر التفعيلة ، ولا ضير ؛ بل مرحبا بكل إبداع فيه شئ من الموسيقى والإيقاع المقبول على أي أسس كانت.
ب – تقسيم الأوزان غير الخليلية:
1- الأوزان غير الخليلية إن كانت تستخدم نفس التفعيلات ولكن بصورة مخالفة لقواعد الخليل ودوائره ؛ وكانت ملتزمة للشكل العمودي ؛ بمعنى أنها تتكرر بنظام ثابت ، فهذه أسميها الأوزان المقاربة (بكسر الراء) أو المقاربات.
2 – إذا كانت تستخدم تفعيلات الخليل ولا تلتزم بالشكل العمودي ؛ بمعنى أن عدد التفعيلات في كل سطر ليس ثابتا ؛ ففي هذه الحالة نحن أمام أوزان التفعيليات (نسبة إلى التفعيلة).
3 – إذا كان الوزن لا يلتزم الشكل العمودي ، ولا تفعيلات محددة ؛ فهذا هو الوزن الجامح (أو الجامحات) التي ليس لها قواعد تلزمها إلا هوى الشاعر ورؤيته الخاصة.
ومما سبق نجد أن الأوزان يمكن أن تنقسم إلى ما يلي:
أ- أوزان خليلية وهي بدورها تنقسم إلى:
1- المورودات : وهي القوالب المستعملة والشائعة والمعروفة.
2- المهجورات : وهى المشتقة من البحور المستعملة.
3- المهملات : وهي المشتقة من البحور المهملة.
ب- أوزان غير خليلية وهي تنقسم إلى :
1- المقاربات : وهي القوالب العمودية بنفس تفعيلات الخليل لكنها تخالف أسسه.
2- التفعيليات : وهى تلتزم نفس تفعيلات الخليل بغير خلط بينها لكنها ليست عمودية.
3- الجامحات : وهي تخلط التفعيلات بلا أسس واضحة..
كل التقسيم السابق يختص بالشعر الفصيح فقط ؛ أما الغير فصيح فأتركه لأهله.
ثانيا – أسس الخليل
لكي يكون الوزن خليليا يجب أن يتوافر فيه الآتي :
1- يجب أن يطابق تتابع وحداته من أسباب وأوتاد تتابعها في أحد دوائر الخليل.
2- يجب أن يبدأ الوزن من أي نقطة من الدائرة شرط أن تكون هذه النقطة بداية وحدة وليست مجرد حرف.
3- يجب أن يكون عدد تفعيلات الشطر متبعا لقواعد التمام أوالجزء أو الشطر أو النهك ، وحدود التفعيلة في أسس الخليل معروفة ، وتتشكل تلقائيا وتختلف بحسب نقطة البداية.
4- أن يلتزم الحشو وكذلك الخواتم (وهي العروض والضرب) بقواعد التغييرات التي يمكن دخولها إلى التفعيلات.
فإذا طبقنا هذا سنجد أن أي وزن مستجد يمكن توصيفه فورا.
والآن نعود إلى موضوعنا وما يسمى ببحر الغياب ، ورأي الأستاذين الفاضلين وما فيهما من صحة وما جانبهما من صواب.
لو طبقنا المعايير السابقة على ذلك الوزن سنجده بسهولة يتجه تلقائيا إلى مجموعة المقاربات غير الخليلية ؛ لأنه ليس له وجود في دوائر الخليل مطلقا ، كما أنه لا يمكن أن يكون من الكامل – إن كنت قد أصبت في أن ذلك هو مراد الأستاذ خشان _ لأن الكامل التام وإن كان قابلا للخزم – مع التحفظ في هذه الحالة - فإنه لا يرفل ، فإذا وجد وزن ما وكان من الكامل التام ثم وجد مرفلا فهو ليس خليليا وإنما هو مقاربا (بكسر الراء) للوزن الخليلي ؛ وأرى أن أصحاب المقاربات ِشأنهم شأن أصحاب المهجورات والمهملات ليس لأحد أن يمنحهم براءة اختراع ؛ لأنك ببساطة يمكنك أخذ أي وزن خليلي ثم تجري له تعديلا بسيطا إضافة أو حذفا بأسس غير خليلية فتكتسب فورا وزنا مقاربا ، ولكن بالطبع يكون لصاحب الوزن غير الخليلي حق تسميته بأي اسم يراه مناسبا حيث لا يوجد بحر خليلي يمكن تنسيب الوزن الجديد إليه.
أما الأستاذ خشان فقد كان على حق عندما عندما قال :
" لا يجتمع في حشو كل بحور الخليل السبب الثقيل مع 32 )هذه لا تشمل 322 ) "
هذا قول أراه صحيحا ، ولكن في هذه الحالة فسواء أكانت الأسباب خفيفة أم ثقيلة ، فإننا لا يمكن أن نجد ذلك التتابع للأسباب والأوتاد - بهذه الكيفية الموجودة بذلك الوزن - في أي من دوائر الخليل بأي حال حتى وإن كانت الأسباب كلها خفيفة ؛ فلا يوجد في دائرة البحور الممتزجة أبدا تفعيلة تتوالى وإنما هي تتواتر أو تتبادل مع التفعيلة الأخرى ‘ بمعنى خماسية ثم سباعية أو العكس ولا يوجد خماسية ثم خماسية ولا سباعية ثم سباعية.
وجانب الأستاذ خشان الصواب حينما أراد أن يرجع أصل هذا الوزن إلى الكامل - إن كان ما فهمته صحيحا - ؛ وهو كما أوضحنا ليس من الكامل.
وهذه هي نقطة إصابة الأستاذ الغول حينما نفى كون هذا الوزن من الكامل ولكنه قد جانبه الصواب عندما قال:
" هل هذه الشقائق بحور جديدة أم هي أوزان استصاغها الشاعر وألف قصيدته على منوالها بما يتماشى مع منهج الخليل بالزحافات والقواعد العروضية الكاملة ؟؟ "
ونقول له إن هذا الوزن ليس من منهج الخليل ولا قواعده ، لأنه ليس في دوائره أصلا ؛ ولكنه إذ استخدم تفعيلات الخليل واستخدم النظام العمودي للوزن ؛ فهو إذن من الأوزان اللا خليلية المقاربة لأوزان الخليل.
وإلى لقاء آخر .. دمتم بخير.
ساحة النقاش