أصابتني دهشة مشوبة بكثير من الأسف لما وصل إليه الحال من محاولات التغيير حينا أو الإخلال أحيانا بالشعر العربي وتسمية هذا التغيير أو الإخلال أوزانا جديدة ، بل والفخر بها والادعاء بأنها مخترعات تستحق نيل الشرف وتستحق المطالبة ببراءة اختراع والمطالبة أيضا بتملك محافظة في دولة الشعر والقانون التى تضم ستة عشر محافظة ؛ فيريد المخترع تملك المحافظة السابعة عشر كحالنا نحن العرب في هذا الزمان حين يصيبنا الغرور وحين نتوهم في أنفسنا قدرات خارقة لا وجود لها على تحدي الثوابت وتحدي قوانين الزمن الذي يجرف في طريقه كل الأوهام الحاضرة مثلما جرف أوهاما مماثلة كانت في الماضي ؛ فأودعها سلة مهملاته وأخرجها من ذاكرته وألقاها في غياهب الظلمات والنسيان.
عشرات القرون تمضي وبحور الشعر الستة عشر ثابتة راسخة ، وقوالبها الستة والسبعون لا تزيد ولا تنقص – يوجد قالب متكرر في الرجز والبسيط إن اعتبرناهما فالبا واحدا صار عدد القوالب خمسة وسبعون فقط وهذا هو الأجدر بالاعتبار – نقول أن القوالب لم تزد ولم تنقص منذ قرون رغم أنه يمكن لتلميذ الابتدائية أن يستنبط مئات القوالب باستخدام نفس قواعد الخليل ، وطرق ذلك كثيرة فيمكن مثلا جزء ما لا مجزوء له أو شطره أو نهكه ، أو إتمام ما لا تام له ، أو يمكن تصحيح العروض أو الضرب المتغير أو تغيير الصحيح أو تغيير المتغير بتغييرات أخرى ، كل هذا دون الخروج من عباءة الخليل ، وهناك مكان مهجور غير خارج عن أصول الخليل أيضا وهو البحور المهملة فيستطاع الذهاب إليها واشتقاق مئات الأوزان منها بإتمامها وجزئها وشطرها ونهكها وتغيير عروضها وضربها.
ولنضرب مثالا واحدا فقط لنرى كم وزنا يمكن إضافته ، فمثلا مجزوء المتقارب يأتي على وزنين لا ثالث لهما في بحور الخليل وهما :
1- فعولن فعولن فعو ....... فعولن فعولن فعو
2- فعولن فعولن فعو ....... فعولن فعولن فع
أما إن نوينا الزيادة ؛ فيمكن لتلميذ الابتدائي إضافة ما يلي على سبيل التمرين والتدريب :
1- فعولن فعولن فعولن ....... فعولن فعولن فعولن
2- فعولن فعولن فعولن ....... فعولن فعولن فعولْ
3- فعولن فعولن فعولن ....... فعولن فعولن فعو
4- فعولن فعولن فعولن ....... فعولن فعولن فع
5- فعولن فعولن فعولْ ....... فعولن فعولن فعولن
6- فعولن فعولن فعولْ ....... فعولن فعولن فعولْ
7- فعولن فعولن فعولْ ....... فعولن فعولن فعو
8- فعولن فعولن فعولْ ....... فعولن فعولن فع
9- فعولن فعولن فعو ....... فعولن فعولن فعولن
10- فعولن فعولن فعو ....... فعولن فعولن فعولْ
11- فعولن فعولن فعو ....... فعولن فعولن فعو
12- فعولن فعولن فعو ....... فعولن فعولن فع
13- فعولن فعولن فع ....... فعولن فعولن فعولن
14- فعولن فعولن فع ....... فعولن فعولن فعولْ
15- فعولن فعولن فع ....... فعولن فعولن فعو
16- فعولن فعولن فع ....... فعولن فعولن فع
فهذه ستة عشر وزنا قانونيا لم يجد الخليل فيها ما يستخدمه العرب إلا الوزنين المذكورين وهما المطابقان للوزنين الحادي عشر والثاني عشر من الأوزان السابقة ، وبقية الأوزان الأربعة عشر لم ينظم عليها العرب شيئا ، ويستطيع التلميذ المستجد في دراسة للعروض أن يتحدى العالم كله أن يخرج أحد منها وزنا خليليا واحدا غير هذين الوزنين.
وهكذا يمكن لمن يشاء إضافة مئات الأوزان القانونية من كل الأنماط الشعرية ، كما يمكن له تخليد اسمه في منظومة الشعر حتى إن كان لا يزال تلميذا.
أما لو خرجنا قليلا أو كثيرا عن قواعد الخليل فسيمكن حينئذ إضافة عشرات الآلاف من الأوزان.
ولقد لمست هذه النقطة عام 1993 في كتابي " العروض الرقمي " الذي كتبته في العام المذكور ونشرته عام 1998 ؛ عندما قلت في صفحة 108 تحت عنوان : " تعداد القوالب المستعملة في الشعر العربي" مايلي :
"علمنا مما سبق أنه يوجد ثلاثون مفتاحا مستعملا في الشعر العربي ، ولو أن كل بحر قد صيغ منه جميع القوالب التي يمكن اشتقاقها من هذه المفاتيح لنتج عدد كبير جدا من القوالب مقداره 16 بحر × 30 مفتاح = 480 قالبا ، وهذا للنمط الواحد فقط ، أما قوالب الأنماط الأربعة فتكون 480 × 4 = 1920 قالبا ، أي أنه من الناحية النظرية يمكننا استنباط 1920 قالبا شعريا لبحور الشعر العربي ؛ ولكن القوالب المستعملة بالفعل لجميع أنماط بحور الشعر العربي عددها ستة وسبعون قالبا فقط".
وأضيف أن عدد 1920 يكون في حالة ما لو استخدمنا المفاتيح المستعملة والبحور المستعملة فقط ، أما لو استخدمنا غير المستعملة لأنتجت هي الأخرى أضعاف هذا العدد من القوالب الجديدة ، كلها لا تخالف في شكلها ومضمونها قواعد الخليل ؛ المخالفة الوحيدة أن العرب لم ينظموا عليها شيئا ؛ ولو فعلوا لأصبحت ضمن قوالب الخليل دون حرج.
وأرجو ألا يظن أحد أنني ضد التجديد في قوالب الشعر ؛ فإنني مع كل ما هو جيد ؛ راسخا أكان أم مستجدا ؛ ولكنني ضد أن يأتي أحد بشقة من شقق الخليل المهجورة والخالية ثم يدعيها لنفسه ويطالب بحقه في تملكها ، بما يوحي أن شيئا جديدا قد تم اكنشافه ، بل يجب أن توضع الأمور في نصابها الصحيح ليستطيع المتلقي تكوين صورة واضحة وانطباع صادق عما يسمع ويرى ، فمثلا لو أنني نظمت شعرا على أحد الأوزان الخليلية الغير مستعملة مثل " فعولن فعولن فعولن ..... فعولن فعولن فعولن " فلا ينبغي أن يقال أنني قد اخترعت اختراعا جديدا ؛ فلا يقال هذا مستدرك غانم ‘ ولا مستحب خشان ، ولا لاحق خلوف ولكن يقال إن هذا الشاعر قد نظم على مهجور المتقارب ، أو مهجور البسيط ، ويجب أن يتميز شعر المهجورات عن غيره بهذا الوصف ؛ فيعلم بذلك الجميع أن المهجورات ما هي إلا أوزانا على نفس أسس الخليل غير أن العرب القدماء لم ينظموا عليها شيئا ، فإن ذلك أدعى لفهم حالتها وأصدق في وصف حقيقتها.
أما إن التزم الشاعر تغييرا جائزا معينا في جميع مواضعه الممكنة من البيت وجعله في جميع أبيات قصيدته ، فإن لم يؤد هذا الالتزام إلى تداعيات أخرى ؛ فإنه في هذه الحالة يظل منتميا إلى بحره الأم فيقال مثلا مخروم المتقارب أو مقبوض الطويل على سبيل المثال ، فإن أدى التغيير إلى تداعيات أخرى لاتتفق مع بحره الأم فإنه قد ينتقل حينئذ إلى أحد المهجورات التي يتناسب معها، أما إن خالف الشعر أسس الخليل بالكلية فحينئذ ينضم لمجموعة الأودية والموزونات اللا خليلية.
إن أخذ مثل هذه التسميات النظامية مأخذ التطبيق يساعد في جمع شمل المنظومة الشعرية بدلا من تفرقها وتبعثرها في غير ما نظام.
وإلى لقاء جديد .. دمتم بخير.
ساحة النقاش