ليس مستحيلا أن يتصف بعض الناس ببعض الأمور العجيبة أو أن تحيط بهم بعض الظروف المدهشة ، ولكن المستحيل أن تجتمع عشرات الصفات العجيبة وعشرات الظروف المدهشة في شخص واحد دون أن يكون ذلك مقصودا ومرتبا من قبل قوة عليا مسيطرة قادرة على تنفيذ إرادتها وهي قوة الخالق سبحانه وتعالى.

وإذا تأملنا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسوف نجد بسهولة العشرات من هذه الصفات وتلك الظروف التي ليس منطقيا أن تجتمع في شخص واحد أبدا ، إلا أن يكون ذلك بترتيب من علام الغيوب سبحانه.

فإذا نحينا جانبا بعض الخوارق التي يمكن أن يكذبها المكذبون ؛ مثل رؤية أمه لنور عند ولادته ، و الأحداث التي حدثت لمرضعته بعد استلامه ، والأطفال الذين عاينوا حادثة شق الصدر ، والراهب الذي رأى فيه علامة النبوة ، وحادثة انشقاق القمر وحنين الجذع وتكلم الضب وتكثير الطعام القليل وغير ذلك الكثير ، إننا إن نحينا كل هذا جانبا ؛ فمازالت الأحداث العادية في حياته تعد معجزة لا يمكن أن تجتمع لشخص واحد إلا بترتيب من مدبر الأمر سبحانه وتعالى ، فتلك الأحداث الثابتة في تاريخه والتي لا يمكن إنكارها ؛ تلك الأحداث وإن كانت عادية إذا تفرقت على الأفراد وحصل كل فرد على نصيب منها ؛ فإنها تتحول إلى معجزة بينة وآية واضحة ودليل قوي وبرهان ساطع عندما تجتمع في شخص واحد ، فعند ذلك تصبح معجزة ودليلا على صدق تبليغ هذا الشخص عن ربه وبرهانا على صدقه في كل ما يدعيه.

فعلى سبيل المثال لا الحصر من هذه الأحداث والظروف ما يلى :

-   عصمته صلى الله عليه وسلم مما يقع فيه الأطفال في طفولتهم من كل ما هو غير لائق ، فلم يرد في التاريخ أي استخدام لأعدائه الذين كانوا يعرفون تفاصيل حياته جيدا أن عابوا عليه أي نقص في طفولته ، فكان من الممكن أن يقولوا أليس هذا الذي فعل كذا وكذا عندما كان طفلا ، ألم يكن ربه بقادر على تجنيبه هذه النقائص.

-   عصمته وهو طفل من تقليد قومه في عبادتهم الأصنام والسجود لها ، ولا يوجد طفل في العالم في استطاعته الإفلات من تقليد قومه في هذا الشأن ، ولو كان عبدها أو سجد لها في طفولته لقال أعداؤه : كيف سمح له ربه بالسجود لهذه الأصنام ألم يكن ربه يعلم أنه سيرسله للنهي عن ذلك؟

-   تجنبه منذ مطلع صباه وشبابه لجميع المنكرات والموبقات ، فمهما يكن صلاح الرجل العادي ؛ فإنه لابد له أن يمر ببعض التجارب ، فقد كان الخمر مباحا ولم يقربه صلى الله عليه وسلم صبيا أو شابا أو رجلا ، وكانت الحفلات العادية والغناء في المناسبات المختلفة غير مستنكرة ولم يحضرها صلى الله عليه وسلم لا صبيا ولا شابا ، ولو فعل ذلك ولو لمرة واحدة لقال أعداؤه : أليس هذا الذي شرب الخمر ذات مرة ، أليس هذا الذي حضر معنا الحفل ذات مرة ، وسوف ندرك مدى عظم هذه الملاحظة إذا علمنا أنه لا يوجد رجل في العالم يعجز أعداؤه الذين يعرفونه ويعيشون معه أن يجدوا في تاريخه السابق عشرات المآخذ الأخلاقية وليس مأخذا واحدا.

-   اتصافه واشتهاره بمكارم الأخلاق وعلى رأسها الصدق والأمانة ، ولا يوجد إنسان في العالم لا يجد له المحيطون به العديد من الكذبات الصغيرة أو الكبيرة فضلا عن كذبة واحدة ، ولو كان في تاريخه كذبة واحدة مهما صغرت لاستغلها أعداؤه ليل نهار.

-   تصديق أقرب الناس إليه فورا حينما عرض عليهم أمر الرسالة دون تردد ، فإن الإنسان إذا استطاع أن يخدع بعض الناس فإنه لن يستطيع خداع المقربين إليه الذين يعرفون صفاته جيدا من واقع تعاملهم اليومي معه ، وخاصة عندما يكون هؤلاء المقربين من أرجح الناس عقلا كزوجته السيدة خديجة وصاحبه الصديق أبي بكر.

-   عدم تعلمه القراءة والكتابة وعدم جلوسه إلى أي معلم في أي صنف من أصناف العلوم ومجيئه بمعجزة يعجز عنها المتعلمون وإن اجتمعوا ؛ تزيد من قوة هذه المعجزة ، لأنه من المستحيل أن يأتي غير المتعلم بكتاب عادي فضلا عن كتاب معجز ، وهذا لا ينقص من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ بل يدل على أنه لم يتعلم من بشر ولكنه تعلم من الله فتفوق على جميع من تعلموا من البشر.

-   الصدق الواضح المبين لكثير من الآيات والأخبار والوعود التي جاءت في القرآن في بداية الدعوة والتي لا يملك أحد دوام صدقها إلا الله كقوله تعالى : والله يعصمك من الناس ، وقوله : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ، وقوله : سيصلى نارا ذات لهب ، وقوله : وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ، وقوله : ألا إن نصر الله قريب ، وقوله : ولقد يسرنا القرآن للذكر ، وقوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، وقوله : والله متم نوره ، وغير هذا الكثير ، وجميع هذه الوعود يتأكد صدقها ، ولا يمكن أن يقول عاقل أن كل هذه مصادفات ، وأتحدى أن يخبر أحد بعدة أشياء عن المستقبل ثم تتحقق جميعها خاصة إذا كانت تلك الأخبار معاكسة للواقع كانتصار ضعيف ، أو خضوع متكبر ، أو ارتقاء متواضعين ، أو انكسار متقدمين ، وعلى كل حال فمن المستحيل لمن يتوقع أشياء مستقبلية محددة أن تتحقق جميعها على الوجه الذي أخبر به.

-   الإتقان الشامل للقرآن الكريم وبلوغ القمة في جميع جوانبه ، فمن الناحية اللغوية والبيانية والبلاغية فهو في القمة التي لا يقترب منها أحد ، ومن ناحية ما تضمنه من موضوعات ففيه العلم الشامل بالتاريخ البشرى والجيولوجي والفلكي والبيولوجي والإنساني والسيكولوجي والتاريخ العقائدى والتشريعي ومناهج العبادة والمعاملات والأخلاق والغيبيات ، وكل موضوعات القرآن فضلا عما فيها من إعجاز ؛ فإن ما فيها من تنوع وإتقان لكل هذا التنوع يدل على أنه ليس كلام بشر فإنه لايوجد رجلا فردا في العالم مهما حصل من تعليم يمكنه أن يتقن كل أنواع العلوم التي اشتمل عليها القرآن الكريم بأي حال من الأحوال.

-   مع كل هذا الإتقان ومع كل هذه العلوم ومع كل هذه البلاغة والفصاحة التي في القرآن فإن الله سبحانه قد يسره للذكر والتلاوة والحفظ بطريقة ليس لها مثيل ؛ حتى إن الأطفال يمكنهم حفظه عن ظهر قلب حتى وإن لم يفهموا معناه ، وأتحدى مرة أخرى أن يوجد كتاب في حجم القرآن أو نصفه ؛ ثم يتمكن الأطفال أن يحفظوه عن ظهر قلب.

-   أن يحيا رسول الله وسط أعدائه مدة طويلة سالما معافى مصداقا لقوله تعالى : والله يعصمك من الناس ؛ رغم التآمر والمكائد التي يكيدها له أعداؤه ، ورغم ضعفه في تلك الفترة وعيشه دون حراسة إلا حراسة الله تعالى ، فهذا ليس مصادفة أبدا.

-   هجرته صلى الله عليه وسلم في صحبة فرد واحد وعجز القوم عن منعه من الهجرة أو إلقاء القبض عليه ، فتلك آية أخرى؟

-   نزول آية قرآنية أثناء خروجه من مكة تعده بالعودة إليها ، إن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن المتكلم هو مالك الأمر كله.

-   عجز أعدائه عن قتله حين انهزم المسلمون في أحد ؛ وهم أحرص الناس على قتله ، فيه من الإعجاز والآيات ما فيه.

-   استمرار حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمام الدين ونزول آية اليوم أكملت لكم دينكم ؛ فيه من الاعجاز مافيه ، وفيه صدق وعد الله حين قال : والله متم نوره ولو كره الكافرون.

-   خطبة الوداع التي وعظ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم  المسلمين موعظة بالغة وأخبرهم بأنه قد لا يلقاهم بعد عامه هذا ؛ فيه إشارة إلى تمام الدين وأن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تمت على خير وجه.

-   وفاته صلى الله عليه وسلم بعد تمام الدين بفترة وجيزة فيه إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء إلى الحياة ليكون رسولا ومعلما للبشرية لا غير فلما تمت المهمة تمت حياته أيضا ، كما أن في ذلك تكريما لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يعيش بلا وحي وفي ذلك مشقة على نفسه صلى الله عليه وسلم ، وحتى لا يكون من الفئة التي تبلغ أرذل العمر فينسى ويحتاج لمساعدة البشر في جميع شئون حياته ، وحتى يسارع به الله إلى رحمته وإلى جواره وإلى الراحة الأبدية.

إن هذا قليل من كثير في تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يمكن أن يجتمع لبشر.

قد يحدث في حياة الإنسان العادي بعض الأحداث العجيبة ، وقد يتصف ببعض الصفات الفريدة ، لكن لا يمكن أبدا أن تجتمع كل الصفات وكل الظروف بمثل ما اجتمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإرادة الواحد القهار سبحانه وتعالى.

فيا أيها المنكرون لرسالة سيد الخلق ، نحن لا ننكر عليكم أن تكونوا أحرارا فيما تقررون ، ولكن ننكر عليكم أن تقرروا دون أن تفكروا في تلك الآيات الواضحة ، التي لا تحتمل التأويل ولا الإنكار ؛ لأنها آيات من التاريخ.

المصدر: الكاتب : د. عبد العزيز محمد غانم
masry500

طابت أوقاتكم وبالله التوفيق

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

105,418