الشرك بالله
الشرك بالله
إن الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، إنه من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }
آل عمران102
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } النساء1
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70 } يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [الأحزاب71،70 ].
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي نبينا محمد r ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
أحبتي في الله
نبدأ اليوم مع حضراتكم بإذن الله تعالى سلسلة منهجية جديدة بعنوان
(( اجتنبوا السبع الموبقات ))
وهي شرح لحديث صحيح رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث لأب هريرة رضي الله عنه أن النبي r قال : (( اجتنبوا السبع الموبقات )) . قالوا : يا رسول الله وما هُنَّ ؟ .
قال (( الشرك بالله ، والسحرُ وقتلُ النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكلُ مال اليتيم ، وأكلُ الربا ، والتولي يوم الزحف وقذفُ المحصناتِ الغافلاتِ المؤمنات )) (1).
اجتنبوا السبع الموبقات : أي المهلكات وسميت بذلك لأنها سبب لإهلاك مرتكبها والعياذ بالله.
وقال الحافظ ابن حجر : الموبقات أي الكبائر .
وبدأ النبي r بالحديث عن أكبر الكبائر وهو الشرك .
وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في العناصر التالية :
أولاً : خطورة الشرك .
ثانياً : رحلة الشرك .
ثالثاً : أقسام الشرك .
رابعاً : فضل التوحيد .
فأعيروني القلوب والأسماع فإن هذا اللقاء من الأهمية بمكان .
أحبتي في الله :
إن الشرك هو أظلمُ ، وأقبحُ الجهل ، وأكبرُ الكبائر .
ولذلك لم تدعُ الرسل جميعاً إلى شيء قبل التوحيد ، ولم تنه الرسل جميعاً عن شيء قبل التنديد ، ولم يتوعد اللهُ على ذنب أكثر مما جاء في الشرك من الوعيد الشديد .
قال سبحانه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } [النساء/48] .
وقال سبحانه : { مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } [المائدة/72] .
بل وخاطب الله جل وعلا صفوة خلقه وهم الرسل قائلا : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الأنعام/88]
بل وخاطب حبيبه وخليله وسيد الأنبياء وإمام اصفيائه وقائد الموحدين وقدوة المحققين محمداً r بقوله : {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {66} بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ } [الزمر/65]
ومن ثم ورد في صحيح البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي r قال : (( من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار )) (1) .
قال ابن مسعود : ومن مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة .
وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن رجلاً أتى النبي r فقال يا رسول الله r : (( ثنتان موجبتان )) .
قال رجل : ما الموجبتان ؟
فقال : (( من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ومن مات يشركُ بالله شيئاً
دخل النار)) ([1]).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت رِدْفَ رسول الله r ، ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل: (( كور البعير، ومُؤْخرِته: الخشبة التي في آخره يستند إليها الراكب))
قال : يا معاذ بن جبل .
قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك .
ثم سار ساعة فقال : (( يا معاذ بن جبل .
قلت لبيك الله وسعديك .
ثم سار ساعة فقال : يا معاذ بن جبل .
قال : (( هل تدري ما حق الله على العباد )) ؟
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : (( فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً )) .
ثم سار ساعة ثم قال : يا معاذ بن جبل .
قلت لبيك يا رسول الله وسعديك .
قال : (( هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك )) .
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : (( حق العباد على الله أن لا يعذبهم )) ([2])
وعن أبي ذر رضي الله عنه كما في الصحيحين أن النبي r قال : (( أتاني جبريل فبشرني : أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة )) فقلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال: (( وإن زنى وإن سرق ))([3]).
وفي الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنهما قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله r وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية .
فقال النبي: ((أي عَمَّ ، قل لا إله إلا الله كلمة أحاجُّ لك بها عند الله)) ، فقال أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغبُ عن ملة عبد المطلب ؟
فلم يزل رسول الله r بعرضها عليه ، ويعودان لتلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلّمهم: بل على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله فقال النبي r لاستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فنزل قول الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة/113] .
وأنزل الله عز وجل في أبي طالب فقال لرسول الله r :
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [القصص/56] ([4]).
والآيات والأحاديث في خطورة الشرك كثيرة جداً ولا يتسع الوقت للوقوف عليها
ثانيا : رحلة الشرك:
فالسؤال الذي يقفز إلى الأذهان الآن ونحن نتحدث عن الشرك هو كيف وصل الشرك إلى الأرض ؟
وكيف دّنس الفطرة التي فطر الله الناس عليها .
والمشهور عند العلماء أن بداية ظهور الشرك كانت في قوم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام .
فلقد كان بنو آدم على ملة أبيهم آدم عليه السلام على شريعة من الحق والهدى كما روى شيخ المفسرين ابن جرير الطبري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان لبن آدم ونوح عشرة قرون كلها على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث النبيين مبشرين ومنذرين.
نعم .. كان الناس على شريعة من الحق والهدى حتى زين الشيطان – عليه لعنة الله – لقوم نوح عبادة الأصنام التي نصبوها بأيديهم لرجال صالحين من قوم نوح من أجل أن لا تُنسى سيرتُهم ويظلوا يذكرونهم دائماً .
فلما انقضت الأعمار وهلك هؤلاء ونسى العلم عُبدت هذه الأصنام من دون الله عز وجل كما روى البخاري ذلك في كتاب التفسير في سورة نوح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
((صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ، أما وَدُّ فكانت لكلْب بدومة الجندل ، وأما سُواعٌ فكانت لهذيل ، وأمَّا يغوثُ فكانت لمراد ، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ ، وأما يعوق فكانت لهْمدانَ ، وأمّا نسْرٌ فكانت لحمير ، لآل ذي الكلاع ، أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسمُّوها بأسمائهم ففعلوا ، فلم تُعْبَدْ ، حتى إذا هلك أولئك وَتَنَسَّخ العلم عُبِدت ))(1) .
ومعنى تنسخ العلم : أي علم تلك الصورة بخصوصها .
وقال الحافظ في الفتح :
أخرج الفاكهي من طريق عبيد بن عمير قال: أول ما حدثت الأصنام على عهد نوح، وكانت الأبناء تبر الآباء ، فمات رجل منهم فجزع عليه ، فجعل لا يصبر عنه، فاتخذ مثالا على صورته فكلما اشتاق إليه نظره ، ثم مات ففُعِل به كما فعل حتى تتابعوا على ذلك فلما مات الآباء فقال الأبناء : ما اتخذ آباؤنا هذه إلا أنها كانت آلهتهم فعبدوها . أ . هـ ([5]).
فلما أراد الله أن يرحمهم وأن يخرجهم من ظلمات الشرك إلى أنوار التوحيد أرسل الله إليهم نوحاً عليه السلام فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل في الليل والنهار في السر والعلانية .
ولكنهم عاندوا وأصدروا واستكبروا استكباراً عنيداً :
{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] .
فلما يئس منهم نبي الله نوح دعا عليهم بقوله :
{وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [نوح:26]
فاستجاب الله نبيه فأهلكهم بالطوفان قال تعالى :
حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ{40} وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ{41} وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ{42} قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ{43} وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود : 40-44]
ثم جاء من بعد قوم نوح قومُ عاد فعبدوا آلهة أخرى مع اله جل وعلا منها هدا وصدى وصموداً فأرسل الله إليهم هوداً عليه السلام فدعاهم إلى التوحيد وقال : (( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره )) فاستكبروا وكذبوا فأهلكهم الله بالريح .
ثم جاء من بعدهم قوُم ثمود فأرسل الله إليهم صالحاً فدعاهم إلى التوحيد فكذبوه وحاربوه وعاندوه فأهلكهم الله بالصيحة .
ثم جاء من بعدهم قوم إبراهيم عليه السلام فعبدوا الأصنام والشمس والقمر والنجوم فأرسل الله إليهم خليله إبراهيم عليه السلام ولم يبعث من بعده نبياً إلا من ذريته فكل الأنبياء والرسل من ذرية إسحاق عليه السلام .
أما إسماعيل فلم يبعث الله من ذريته إلا نبينا محمداً r الذي فضله الله على جميع الأنبياء والمرسلين .
ثم انتقل الشرك إلى بني اسرائيل فعبد أولهم العجلَ الذي حرمَّهَ موسى وهارون عليهما السلام وعبد أخرهُم عزيزاً وجعلوه نداً لله تعالى عما يقول الكافرون علواً كبيراً .
ثم عبد النصاري المسيح بن مريم .
ثم انتقل الشرك إلى العرب وانتقل إلى أرض الجزيرة العربية على يد عمرو بن عامر الخزاعي قبحه الله .
كما أخبر بذلك نبينا r في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي r قال :
((رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجرُ قُصْبَه في النار وكان أولَ من سيَّب السوائب)) .
وفي لفظ أحمد (( وغير دين إبراهيم )) (1)
وقبْه بضم القاف وتسكين الصاد يعني أمعاءَه .
ثم بدأت الأصنام تكثرُ وتنتشرُ في أرض الجزيرة بل وحول الكعبة حتى ثبت في الحلية وسير أعلام النبلاء بسند صحيح عن أبي رجاء العطاردي قال : كنا نعبدُ الحجر في الجاهلية فإذا وجدنا حجراً أحستَ منه ألقينا الأول وأخذناه فإذا لم نجد حجراً جمعنا كومةً من تراب ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ثم طفنا به ))
فمَّن الله عليهم بل وعلى البشرية كلها فبعث فيهم إمام الموحدين وقدوة المحققين وسيد الأنبياء والمرسلين محمداً r وامتن عليهم بذلك فقال :
{لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }
[آل عمران:164].
فقام النبي يدعوهم إلى توحيد الله عز وجل ينقذهم من هذا الجحيم الذي اشعلوه بأيديهم وعشقوا التلظي بناره فمنهم من عاند وأعرض وكفر وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ{5} وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ{6} مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}
[ص:5-7].
وقامت هذه الفشة الكافرة لتصب الفتن والإيذاء والعذاب صباً على رؤوس أصحابه وتضع الحواجز والسدود في طريق الدعوة !! .
ولكن هذا كله لم يَزدْ المؤمنين الذين ذاقوا حلاوة الإيمان إلا صبراً وصلابة وإيماناً حتى جاء نصر الله ودخل الناس في دين الله أفواجاً .
وظلت الأمة ترفل في ثوب التوحيد الذي كساها إياه إمام الموحدين وقدوة الناس أجمعين r حتى أطلّت الفتن برأسها الظلوم ووجهها الكالح الغشوم وابتعدت الأمة رويداً رويداً عن حقيقة التوحيد !!
وبدأ الشرك يُطل برأسه من جديد وكثرت صورة ومظاهره ووقع فيه كثير ممن يتسمَّون بالمسلمين إلا من رحم الله جل وعلا !!!
فلم يعد الشرك متمثلاً في هذه الصورة الساذجة التي كان يزاولها المشركون قديماً في صورة حجر يصنعوه بأيديهم ثم يصرفون له العبادة من دون الله عز وجل بل لقد تعددت صورُ الشرك وكثرت الآلهةُ التي تُعبد في الأرض من دون الله عز وجل في مجال الاعتقاد وفي مجال النسك وفي مجال التشريع !!
ولا يتسع الوقت للتفصيل ولكن يكفي أن نعلم أنه إلى يومنا هذا يوجد في الهند أكثر من مئتي مليون بقرة تُعبد من دون الله عز وجل !!
وتُقام المعابدُ الفخمة الضخمة التي تقرب إليها القرابينُ والنذور !!
ولكن هل يا ترى أتعلمون ما هي الآلهة التي تعبد في هذه المعابد الضخمة ؟!! إنها الفئران !! نعم .. إنها الفئران !!!
وهذا كله يُلقي علينا نحن الموحدين مسؤلية كبيرة أمام الله عز وجل .
فما الذي قدمناه ؟!! وما الذي بذلناه ؟!!
علماً بأن إصدار الأحكام على الناس فقط دون التحرك وبسرعة لدعوتهم إلى التوحيد الخالص لن يغير من واقع الأمر شيئاً .
ثالثا : أقسام الشرك
أحبتي في الله : الشرك نوعان أكبر وأصغر .
فالشرك الأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه .
وهو أن يتخذ من دون الله نداً يحبه كما يحبُ الله ويخافهُ كما يخافُ الله عز وجل وهذا هو شرك التسوية كما قال الله حكاية عن المشركين لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ{98} [ الشعراء : 97-98].
نعم فلقد كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة !!
كما أنهم اتخذوهم أرباباً يشرعون لهم من دون الله عز وجل فعظموا تشريعهم وأراءهم أعظم من شرائع الله رب العالمين !!.
ولذلك لما سأل أبو هريرة رضي الله عنه رسول الله r قائلاً يا رسول الله : من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟!
قال: (( لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أوّل منك ، لما رأيت من حِرصِك على الحديث ، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله من قلبه))(1).
والشاهد هو كيف أن رسول الله قد جعل أعظم الأسباب التي تُنال بها شفاعته هي تجريدُ وإخلاصُ التوحيد لله العزيز الحميد .
فلا شفاعة على الاطلاق لهذه الآلهة المكذوبة المدعاة التي يعبدها عبادها ظناً منهم أنها ستشفع لهم عند الله عز وجل :
{مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]
وقال عز وجل : {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]
وأنه تعالى لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد .
وصدق الله إذ يقول: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} [الإسراء:56]
القسم الثاني : الشرك الأصغر :
وقد عَرَّفَهُ النبي r في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والطبراني في الكبير وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث عمران ابن الحصين أن النبي r قال: (( إن أخوفَ ما أخافُ عليكم الشركُ الأصغر ))
قالوا : وما الشركُ الأصغر يا رسول الله .
قال: ((الرياء يقول يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً ))(1)
والرياء لغة : مشتق من الرؤية .
وشرعاً : هو أن يقوم العبد بالأعمال لا يريد بها وجه الله عز وجل فحدَُ الرياء هو إرادةُ العباد بطاعة الله عز وجل .
والرياءُ محيط للأعمال لأن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً.
والخالص : هو ما ابتغي به وجه الله .
والصواب : هو ما كان موافقاً لهدى رسول الله r .
يقول الله تعالى : {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } [الكهف:110]
وفي الحديث الذي رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال رسول الله: (( إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه ، رجل استُشهد فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريءٌ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل تعلم العلم وعلم وقرأ القرآن فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال تعلمت العلم وعلمتهُ وقرأت القرآن ، قال كذبت ، بل تعلمت يقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قاريء فقد قيل ثم أمر فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار ، ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال ما تركت سبيل ، تحب أن ينفق فيها إلا وأنفقت فيها لك قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال هو جوادٌ فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار )) (1)
وأخيراً أرى من الحكمة أن نريح القلوب الموحدة بعد أن أتعباناها بهذا الحديث الطويل عن الشرك .. وأن نزف إليها بعض البشريات النبوية الكريمة في فضل تحقيق التوحيد وإخلاص العبودية والعبادة لله العزيز الحميد .
ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله r : (( من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه ، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كانا من العمل )) .
وفي رواية (( أدخله الله من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء )) ([6])
وفي رواية عتبان بن مالك: ((فإن الله حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) .
وفي الحديث الذي رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه عل شرط مسلم ووافقه الذهبي وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي قال: ((إن الله سيخلصُ رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشرُ عليه تسعةٌ وتسعين سجلاً كل سجلَّ مثلُ مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئاً ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يارب ، فيقولُ أفلك عذر ، فيقول : لا يارب فيقول : بلى، إن لك عندنا حسنةٌ وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فتخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فيقول : أحضُر وزنك ، فيقول : يارب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : فإنك لا تُظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء )) ([7])
ومعلوم أن السر الذي ثقل البطاقة وطاشت من أجله السجلات هو التوحيد الخالص الذي لو وضعت ذرة منه على جبال من الذنوب والخطايا لأذابتها بحول الله جل وعلا فإن التوحيد نوراً يبدد ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة هذا النور .
ونختم بهذا الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والترمذي وهذا لفظ الترمذي من حديث أنس أن النبي قال .
قال تعالى : (( يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني : غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني ، غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة))(1)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي r - فيما حكي عن ربه تبارك وتعالى – قال: ((أذنب عبدٌ ذنباً ، فقال : اللهم اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، ثم عاد فأذنب ، فقال: أي رب ، اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى : عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب ، فقال : أي رب ، اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، اعمل ما شئت فقد غفرت لك)) (2) .
والله تعالى أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ساحة النقاش