الرواية السياسية عند احسان عبد القدوس
<!endarticleheader>
<!-- instanceendeditable -->
مدخل ....
هل أكون ظالما لموهبة إحسان عبد القدوس القصصية والروائية ؟‏!‏ لو قلت وعلي قدر ما قرأت وحللت نقديا جانبا كبيرا من إبداعه الروائي‏,‏ أن دوره كمحلل سياسي وصحفي موهوب كبير وصاحب ومؤسس مدرسة صحفية لها تميزها في تاريخ صحافتنا الوطنية المستقلة أكثر أهمية وتأثيرا في وجدان وعقل قرائه‏.‏ ومن تابعه بوعي في مراحل إنجازاته الصحفية‏,‏ وما قام به من دور الصحفي الليبرالي المؤمن بلا حدود بالنسق الديمقراطي المستنير‏,‏ أهم وأبقي للتاريخ والتراث الصحفي الديمقراطي الوطني من اجتهاداته وإنجازاته الروائية‏.‏
هذه الدراسة محاولة إجمالية للرد علي هذا السؤال الحائر‏,‏ وهي مناقشة لبعض المحاور والقضايا والإشكاليات التي يمكن أن نستخلصها أو نستنتجها من كم غزير خصب دؤوب علي مستوي وأفق وتاريخ وعمر قلم إحسان الأديب أو الروائي بمعني أدق وأكثر تحديدا‏.‏

لقد أصدر إحسان طوال عمره الأدبي إنتاجا غزيرا يشكل أيا كان تقييمنا له‏,‏ نوعية متميزة من القصص القصيرة والرواية جديرة بالاهتمام‏,‏ فهو له أسلوبه الخاص وعالمه الروائي رغم تكرار التيمات بعض الشيء والاحتفال بالعلاقة العاطفية والجنسية بين الرجل والمرأة والتي تكون محور رواياته كلها‏.‏
إن مجموع ما أصدره إحسان من إبداع قصصي وروائي يبلغ‏57‏ كتابا‏,‏ ولا أزعم وأنا أكتب الآن عن إحسان إني قد قرأت كل هذا‏,‏ فقد تخيرت أبرز وأهم أعماله التي تدل علي مجموع إبداعه وسماته العامة‏.‏

هذا وقد حولت له السينما هذا العدد من الروايات‏(49‏ رواية‏)‏ ومازالت تعد عن رواياته حتي الآن وبعد وفاته‏,‏ وهي أفلام ناجحة تجاريا‏,‏ وتلعب أدوار أعماله كل الأجيال التي تتوافد علي السينما من نجوم ونجمات‏.‏ كذلك حولت‏5‏ روايات له إلي المسرح‏,‏ ولكنها لم تحقق نجاحا مسرحيا‏.‏ وأعدت له للإذاعة‏9‏ روايات‏,‏ وأعدت له في التليفزيون‏14‏ رواية ناجحة كمسلسل تليفزيوني‏.‏

الرواية السياسية أو رواية التحقيق الصحفي
قال لي ذات مرة إحسان عبد القدوس‏(‏ إني أعيش الصحافة وأنا أكتب الرواية‏).‏ وعندما كتب باختصار شديد وعذب‏,‏ سيرته الذاتية بمقال في روز اليوسف بعنوان‏(‏ إحسان عبد القدوس بقلم إحسان عبد القدوس‏)‏ كتب‏(‏ ولدت لأبي أ‏.‏ محمد عبد القدوس ولأمي السيدة فاطمة اليوسف التي عرفت باسم‏'‏ روز اليوسف‏'‏ وكلاهما فنان‏,‏ أبي كان مهندسا في الحكومة‏,‏ ثم تركها وتفرغ للفن كلية‏,‏ كان كاتبا يكتب المسرحيات والشعر والزجل ويمثل علي مسرح ويلقي مونولوجات ويضع كلماتها وألحانها‏.‏
وأمي كانت ممثلة‏..‏ وقد رباني جدي لأبي وكان أزهريا ومتحفظا إلي حد التزمت في كل ما يفرضه الإسلام‏,‏ ورغم ذلك كان متميزا بتقدير الفن والفنانين‏.‏

لذلك عانيت التمزق بين مجتمعين‏,‏ وأثر في تكوين شخصيتي وعقليتي‏..‏ مجتمع جدي المحافظ المتزمت في تدينه‏,‏ ومجتمع أبي وأمي المتحرر المنطلق‏.‏
وقد بدأت أمسك بالقلم وأكتب منذ بدأت أعي‏,‏ وذلك تقليدا لوالدي‏.‏ وفي عام‏1925‏ أصدرت والدتي مجلة روز اليوسف‏,‏ وأصبحت أمي لا تريد أن أنمومقلدا لأبي‏,‏ وأكون مجرد أديب ولكنها تريدني أن أتفرغ للصحافة وللعالم الصحفي والسياسي حتي أكبر وأتحمل مسئولية روز اليوسف‏,‏ إلي أن أرسلت يوما قطعة من الشعر المنشور إلي جريدة روز اليوسف دون أن أضع عليها إسمي‏,‏ فنشرت في الصفحة الأدبية‏,‏ وكانت أول ما ينشر لي في حياتي‏,‏ وعندما أبلغت والدتي بأني كاتب هذا الشعر المنشور غضبت وعاقبتني بأن خصمت مصروفي الأسبوعي الذي كانت تعطيه لي‏,‏ لأنها لا تريدني أن أكون أديبا بل تريدني صحفيا‏.‏ وهكذا وجدت نفسي أديبا وصحفيا‏,‏ دون تعمد‏,‏ أديب لأبي وصحفي لأمي‏.‏

وفي مهنة الصحافة وفنها فإن إحسان يعترف أن أستاذه الأول هو محمد التابعي‏.‏ فقد قرأ له في السياسة وهو في العاشرة‏,‏ وكان يفهمه هو رغم أنه لم يكن يفهم في السياسة‏,‏ كان يعجب بقوة أسلوبه والنغم المريح السهل الذي يكتب به‏,‏ وهذا دفع إحسان في صباه أن يدمن قراءة كل الصحف والمجلات باحثا عن نفس قوة الجذب‏.‏ ويعترف إحسان أن التابعي ليس وحده هو الذي يتطور بأسلوب العرض الصحفي‏,‏ ولكنه كان أيامها يمثل أبعد مراحل التطور‏.‏
والتابعي كما هو معروف دخل مجال الصحافة وكتابة المقال السياسي بعقلية وموهبة ناقد مسرحي أو ناقد فني‏.‏ والصحافة تعتمد علي الاتصالات‏,‏ والنقد يعتمد علي المشاهدة وأسلوب النقد غير الأسلوب الخبري أو النقد التحليلي‏.‏ وروز اليوسف في بدايتها أيام التابعي كانت تعتمد علي أسلوب النقد‏,‏ كلها كاريكاتير‏,‏ التابعي يكتب كاريكاتير وصاروخان يرسم كاريكاتير‏,‏ وقد كان هذا مكونا من مكونات إحسان الكاتب والصحفي‏.‏

وتأثر إحسان أيضا بالتابعي‏,‏ وكما يعترف أنه علمه أن يتقن الإنجليزية ويقرأ بها خاصة‏,‏ كتب الأدب والتاريخ‏.‏ وهذا أثر في أسلوب التابعي الذي جمع بين القراءات العربية والإنجليزية‏,‏ وأثر هذا التداخل الموسيقي بين اللغتين أثمر أسلوبا سلسا سريعا واضحا له رنينه وجاذبيته‏,‏ كون أسلوب إحسان الذي تميز به في ممارسته الصحافة والأدب‏.‏
ونكتفي بهذا القدر لنحاول أن نفهم أسلوبية رواية إحسان عبد القدوس التي جعلت منه روائيا منتشرا عند الشباب في مرحلة تاريخية وسياسية من تطور المجتمع المصري وثقافته الشعبية التي لا يصبغها الكتاب فقط بل الراديو والتيلفزيون والسينما‏.‏ وهي مرحلة تمتد من الخمسينات وحتي التسعينات‏,‏ شهدت تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية‏.‏ كان إحسان بحكم كونه رئيس تحرير أكبر مجلة مستقلة هي‏(‏ روز اليوسف‏)‏ بل صاحب ومؤسس مدرسة صحفية لها صوتها وشخصيتها المتميزة ودورها الوطني الديمقراطي‏.‏

كل هذا ساعد في أن ينغمس إحسان عبد القدوس‏,‏ كصحفي يمتلك أوسع علاقات مع أصحاب القرار السياسي وأقطاب السياسة والمال والمجتمع‏,‏ كونت لديه وفرة من دخائل طبقات المجتمع العليا أو النخب السياسية والاقتصادية والثقافية‏,‏ بجانب أنه تميز بالتركيز علي حياة المرأة وإشكالياتها في مجتمع مازال يعاني الازدواجية بين قيم شرقية وتقاليد وأعراف دينية وثقافية مغلقة تنظر إلي المرأة كجسد ومتعة‏,‏ ومجرد شريك في فراش الزوجية‏,‏ كما أن المجتمع في شريحته العليا يستعير قشرة من التمدن الأوروبي ويخلطها بالقيم الشرقية‏,‏ غير أن الرجل أيضا في هذه الشرائح يعايش المرأة في علاقاته العاطفية بها وتثير فيه غريزة الامتلاك ويتعالي ويهبط مستوي علاقته بها مع أسعار البورصة في سوق رأس المال‏.‏
لقد توقفت عدسة إحسان الروائية عند نوعيات من البنات والنساء غالبيتهن من شرائح المجتمع العليا‏,‏ أو يمكن أن نسميهن بنات البورجوازية الكبيرة‏,‏ لذلك أعطي اهتماما لإشكاليات وأحلام وحياة البنت من الطبقة المتوسطة الصغيرة‏_‏ سكان المدن‏,‏ وركز علي عواطفهن وأحلامهن حول الرجل‏.‏

وسنحاول أن نشير فيما بعد إلي قدر ونوعية مصداقية إحسان الأدبية ومدي تناوله السطحي أو العميق لعواطف هؤلاء النساء والبنات في مشاعر الحب أو الكراهية نحو الرجل ومقدار قدراته الفنية أو التقنيات الروائية التي حاول قدر طاقته أن يجسدها في نماذج روائية‏,‏ ومدي إتقانها‏.‏
غير أننا ندع كل هذه القضايا العامة في رواية إحسان لمناقشتها تحليليا فيما بعد‏,‏ ونعود لتحديد مصطلح الرواية السياسية أو التحقيق الروائي‏,‏ أو بمعني أكثر تحديدا الريبورتاج الروائي‏.‏ وأعتقد أن مصطلح الرواية السياسية غير دقيق وغير علمي‏,‏ بمعني أن فن الرواية كشكل بانورامي يتسع للتاريخ والسياسة وقضايا الإنسانيات والميتافيزيقا‏,‏ فهو خلاصة الحياة‏,‏ وخلاصة ثقافة العصر وحضارته‏.‏

غير أن ما جعلنا نعني بالرواية السياسية عند إحسان عبد القدوس أن عددا لا بأس به من رواياته تقدم معطي في الدلالة سياسيا واضحا مهما حاول الكاتب كصحفي أن يكسوه بحدوتة فيها حب وتصوير حياة مصرية هي المدينة‏,‏ فنجد أن الرواية قريبة من المقال القصصي‏,‏ مقال يحمل رأيا‏,‏ لدرجة أن إحسان تعود في مقدمة كل رواياته أن يلخص معناها في عبارة موجزة تصادر علي حرية القاريء في تفهم العمل الأدبي بنفسه‏.‏
لذلك فأنا أعتقد أن رواية التحقيق أو الريبورتاج الروائي أقرب إنطباقا علي نوعية الرواية التي تميز بها إحسان في أدبنا المعاصر‏.‏ هي باختصار مزيج من التحقيق الصحفي وفنية الرواية في محاولة خلق جو وأوصاف أماكن وشخصيات وحوار ورسم أنماط إنسانية‏.‏ وتحاول أن تصل لنوع من الاستدلالات والرؤي في معاينة وتعمق في الواقع الإنساني والحياتي الآني‏.‏

وإذا أضفنا لذلك أن البارز والواضح في روايات إحسان عبد القدوس أنها نشرت في معظمها في شكل مسلسلات أسبوعية صحفية أدت بأن تتحكم فيها عدة مواصفات في الكتابة والسرد الروائي‏,‏ وخلق الشخصيات الرئيسية والثانوية إلي آخر كل عناصر البناء الفني ومتطلباته والتي تقصد في النهاية إعطاء المعني بطريق غير مباشر وبإيحاء وشاعرية يتطلبها الصدق الفني وضمان اختفاء الكاتب بشخصيته ورؤيته وصوته حتي تنطلق شخصياته حرة يحكمها منطق البناء الفني وموضوعيته الفنية المتجاوزة في النهاية للموضوعية اليقينية المباشرة للواقع المعطي والحياة التي يجسدها في فنه‏.‏
وربما اكتسب‏(‏ إحسان عبد القدوس‏)‏ بنشره معظم رواياته في مسلسلات خبرة في خلق الشعور بالتوتر الدرامي وأسلوب العرض المسلسل والتحليل المسهب للحدث والشخصيات والبيئة‏,‏ وذلك لأنه كلما كان سير الأحداث في رواية مسلسلة أكثر درامية كان تأثيرها علي جمهورها أعظم‏,‏ ولكن استمرار القصة من أسبوع لأسبوع‏,‏ وتنشر الأجزاء المنفصلة عادة دون خطة دقيقة ودون أن يكون من الممكن تغيير ما ظهر من قبل‏,‏ وبعث الانسجام بينه وبين الحلقات اللاحقة أدي من جهة أخري في بعض الأحيان إلي أسلوب ارتجالي يروي فيه المؤلف الأحداث بطريقة‏(‏ غير درامية‏)‏ وإلي تيار لا نهاية له من الحوادث وتصوير غير عضوي‏,‏ بل متناقض في كثير من الأحيان للشخصيات وضاعت جميع معالم فن‏(‏ الإعداد‏)‏ وأسلوب التوجيه النفسي الذي يبدو طبيعيا‏,‏ غير متكلف ولا مقصود‏,‏ وفي كثير من الأحيان تبدو التحولات في القصة‏,‏ وتغيير اتجاه الشخصيات مبالغا فيها‏,‏ كما أن الشخصيات الثانوية خلال القصة كثيرا ما كانت تظهر بطريقة مفاجئة أكثر مما ينبغي لأن الكاتب لم يمهد لها الطريق‏,‏ في الوقت المناسب‏,‏ ويعد القاريء لها مقدما‏.‏

ومن التعسف أن نظن بالطبع أن هذه المآخذ والملاحظات تنطبق علي كل أعمال‏(‏ إحسان‏)‏ فلا جدال أن ثمة عديدا من أعماله سوف يتضح من تقييمنا وتحليلنا لها أنها ناضجة يتوافر فيها التماسك والإحكام في البناء الفني‏,‏ والقدرة علي رسم ملامح الشخصية الروائية ومتابعة جذور أزماتها وسلوكها‏,‏ بجانب المهارة في رصد الموضوع الروائي والتقاط مغزاه الاجتماعي والسياسي والحضاري من واقع سيولة حياتنا المصرية المعقدة وعرضه بكل جوانبه وتعدد نسب دراما الحدث وهتك أسرار الشخصيات في علاقاتها المتبادلة بعضها مع بعض‏.‏ ونشير هنا علي سبيل المثال لا الحصر إلي كل من‏(‏ الخيط الرفيع‏),(‏ في بيتنا رجل‏),(‏ لا تطفيء الشمس‏),(‏ لا شيء يهم‏),(‏ أنف وثلاثة عيون‏),‏ وبعض من قصص مجموعة‏(‏ الهزيمة اسمها فاطمة‏),‏ وقصصه الأخيرة‏(‏ أصحاب السوابق‏),(‏ الساعات الأخيرة قبل الغروب‏),(‏ أسرار المهنة‏),(‏ خيوط علي مسرح العرائس‏),(‏ الصيد في بحر الأسرار‏)..‏ الخ‏.‏
ولكن تبقي مشكلة أساسية كما قلنا يتحتم علي الناقد مواجهتها في تقييم أعمال‏(‏ إحسان عبد القدوس‏)‏ وهي محيرة عاني منها الكاتب نفسه‏,‏ بل لقد اعترف بحدوثها في كثير من مقدمات قصصه ومقالاته‏,‏ أقصد صراع الصحفي والقصصي في داخله‏,‏ هذه الثنائية المزدوجة بكل إغرائها وتناقضاتها‏.‏ لقد مارس وعاش‏(‏ إحسان‏)‏ مهنة الصحافة والرصد اليومي القلق للأحداث السياسية والوقائع الاجتماعية‏,‏ وهو كاتب مقال مرموق له أسلوبه المتميز وتاريخه‏,‏ ثم هو في نفس الوقت وكما يطلق علي نفسه كاتب قصة‏.‏

ولاشك أن مكونات رؤية وشخصية الصحفي والسياسي ربما تجني علي عملية الاستحضار والتمهل الواجب تحققها في الإبداع الروائي‏,‏ رغم أنها قد تفيد في جمع أكبر قدر من المعلومات‏,‏ والقرب أكثر من المنابع الأساسية للأحداث والأسرار والخبايا‏,‏ لذلك فربما نجد في بعض المراحل من كتابات‏(‏ إحسان‏)‏ القصصية‏,‏ أن توقفه عن مسئوليات العمل الصحفي تجعله أكثر حساسية ووعيا وثراء في إبداعه القصصي‏.‏
أيا كان الأمر‏,‏ فقد اكتسبت الرواية علي يديه صبغة ديمقراطية بمعني أنها جعلت جمهور القراء كله علي مستوي واحد تقريبا‏,‏ يتلصص من خلال تجاربه القصصية المتعددة البانورامية‏,‏ علي جراح وأزمات المجتمع المصري‏,‏ خاصة الطبقات المتوسطة والبيئة الارستقراطية‏,‏ وخبايا وأسرار مجتمع السادة وأصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي قبل وبعد ثورة‏1952‏ العسكرية‏.‏

والسؤال الآن الذي تطرحه هذه الدراسة‏,‏ هو كيف هتك وعري‏(‏ إحسان عبد القدوس‏)‏ هذه الأسرار والسلوكيات المريضة وصورها في قصصه العديدة التي تشكل خطا رئيسيا في كلية أعماله في تتابعاتها منذ الخمسينات في‏(‏ النظارة السوداء‏),‏ و‏(‏ شيء في صدري‏),‏ و‏(‏ لا أنام‏)‏ حتي التسعينيات في قصص روز اليوسف والأهرام تحت باب‏(‏ أمس واليوم وغدا‏),‏ كذلك روايات‏(‏ يا عزيزي كلنا لصوص‏).‏
يكتب‏(‏ إحسان‏)‏ في مقدمة قصة‏(‏ الساعات الأخيرة قبل الغروب‏),(‏ كثير من القصص التي كتبتها ترسم شخصيات من المجتمع الذي كنا نطلق عليه قديما لقب‏(‏ أولاد الذوات‏)‏ وهو مجتمع يمثل طبقة الرأسمالية والإقطاع‏,‏ ولكن هذه الطبقة لم تنقرض ولم تنته أبدا خلال الثورة وإلي اليوم وإن كانت قد تغيرت أسماؤها وألقابها‏,‏ وقد مرت مرحلة انتقلت فيها هذه الطبقة إلي داخل النظام البيروقراطي‏,‏ وتغيرت بالتالي الألقاب التي يحملها أفرادها‏,‏ فلم تعد‏(‏ باشا‏)‏ و‏(‏ بيه‏)‏ و‏(‏ صاحب الرفعة‏)‏ ولكنها أصبحت‏(‏ سي السيد‏)(‏ الوكيل الأول‏)‏ و‏(‏ المدير العام‏)‏ و‏(‏ الوزير‏)‏ و‏(‏ رئيس مجلس الإدارة‏)‏ و‏(‏ العضو المنتدب‏),‏ ثم انتقل المجتمع إلي مرحلة أخري اتسعت فيها هذه الطبقة‏,‏ فأصبحت أغلبيتها من رجال الأعمال وهي التي نعيش بينها أن تبرز أخبارها في الصحافة وتبرز شخصياتها في القصص‏,‏ المهم أني عندما أعرض هذه القصص فإني لا أقول رأيا ولكني أسجل ربما للوحة‏(‏ اجتماعية‏).‏

ولكن هذا التحفظ لا يعني أن التصوير والعرض القاسي الصريح الذي يقدمه الكاتب لا يتضمن رأيا أو قصدا اجتماعيا وسياسيا محددا‏.‏ وكعادة إحسان‏,‏ فالمعالجة القصصية والمدخل للموضوع يبدأ من لحظة سقوط الجنس والتحلل للمرأة في هذه الطبقة‏.‏
وربما يتسرع القاريء أو الناقد أمام هذا الموقف لاتهام الكاتب بالخروج عن قيم الطبقة المتوسطة الاجتماعية والأخلاقية‏,‏ والصراحة المفزعة للذوق العام‏,‏ بل يتهمه بالمبالغة الرومانسية في تضخيم وتثبيت أزمة الجنس‏,‏ غير أن الفحص العميق غير المتزمت أخلاقيا بالمفهوم البورجوازي للقصة‏,‏ يكشف في النهاية عن دلالة أخطر وأشمل للسقوط يهدد المجتمع وقيمه‏,‏ سقوط في معايير السلوك والمثل والنمط السائد لعلاقات بين هذه الطبقات المسيطرة التي يحكم مفاهيمها وحتي عواطفها الخاصة منطق سوق البورصة‏.‏ فالملكية الخاصة النفعية والتطفل والتي تحيل حتي عواطف وآدمية المرأة إلي سلعة رخيصة‏..‏ وهو نوع من أنواع التشيؤ في المجتمع الطبقي‏.‏

وبأسلوب التعرية النقدية للمجتمع تأتي قصة‏(‏ خيوط علي مسرح العرائس‏)‏ و‏(‏ الصيد في بحر الأسرار‏),‏ فالطريقة التي تدار بها لعبة الكراسي الإدارية في‏(‏ خيوط علي مسرح العرائس‏)‏ حيث يصعد بالأسلوب الملتوي‏(‏ مدير شئون العاملين‏)‏ إلي مركز‏(‏ رئيس مجلس الإدارة‏)‏ علي أكتاف الآخرين‏,‏ وإتقانه لعبة فن الإدارة حتي يصطدم بالقوة الأساسية المحركة للأحداث‏(‏ خديجة‏)‏ التي تستخدم علاقاتها الخاصة للحصول علي أذون استيراد وتصدير‏,‏ هذا النمط من النساء الذي ينتشر في شكل محلات البوتيكات والسلع المستوردة الاستهلاكية‏,‏ عندما تصطدم بطموحه تتمكن من تغييره عندما تصل للمركز الأعلي الذي فرضته علي الشركة‏,‏ ولكن لعل مدي سهام النقد والتعرية تصل لذروتها في قصة‏(‏ الصيد في بحر الأسرار‏),‏ حيث تتكشف مهمات بعض السفارات عن حقيقتها كإدارات للعلاقات العامة والخدمات الشخصية المريبة‏,‏ إن كل ما نسمع عنه من أسرار وفضائح وتصرفات الشخصيات المسئولة في الخارج‏,‏ يقدم هنا بذكاء ليكشف عن مدي التدهور اللا أخلاقي الذي يحدث‏.‏ ولعل بداية القصة تغنينا عن مزيد من التفاصيل‏'‏ وحتي أكون واقعيا‏,‏ فإني لا أعتبر أن ثقافتي وكفاءتي كانت السبب الرئيسي في هذه القفزات السريعة التي قفزتها فوق مناصب السلك الدبلوماسي‏,‏ السبب في تقديري هو الخدمات التي أؤديها‏,‏ وحتي أكون أكثر صراحة معك‏,‏ فيمكنك أن تسميها خدمات شخصية‏'.‏

إن هذا النوع الأخير من قصص إحسان استمرار لنوع من القصة السياسية الاجتماعية‏,‏ تعودنا عليها لدي قراءة أعماله من بدايتها‏.‏ سوف نجده في‏(‏ شيء في صدري‏)‏ حيث يقدم تحليلا موسعا لنمو وسلوكيات أحد كبار الرأسماليين ورجال الأعمال قبل الثورة‏,‏ ولعل‏(‏ إحسان‏)‏ مازال يتابع ويدرس هذه الأنماط في الأشكال الجديدة التي أخذتها بعد الثورة‏,‏ ولعل مجموعة‏(‏ النساء لهن أسنان بيضاء‏)‏ حيث نماذج‏(‏ سميرة هانم‏)‏ وعلاقتها بشريف عبد العزيز‏,‏ وميرفت هانم واحتقارها للمستفيدين من التبرعات التي تجمع باسمهم‏,‏ فهي ترفض توزيع النوع الفاخر من السجائر قائلة‏(‏ نوزعه إزاي بأه‏,‏ هو إحنا بنوزع علي أولاد الباشوات والبهوات‏,‏ إحنا بنوزع علي القاعدة الشعبية بتوع الدرجة الثالثة ودول لا يفهموا في السجاير ولا يحبوها‏).‏
ولقد توقفنا عند نماذج محددة لنوع محدد من القصص عند‏(‏ إحسان عبد القدوس‏)‏ وجدنا فيها مادة لبداية مناقشة هذا الكاتب الذي ظلمته عملية الصمت عن تناول أعماله التي نجد فيها كثيرا مما يستحق المناقشة والاختلاف‏,‏ حول مسائل فكرية‏,‏ واجتماعية تمس خصوصيات الحياة المصرية في‏40‏ عاما وفي مجالات تتخطي المشكلات المحلية‏,‏ فعدسة القصة عند‏(‏ إحسان عبد القدوس‏)‏ قد تتجول بحرية وخبرة في قلب العواصم العربية والعواصم العالمية ليقدم نماذج من الشخصيات والمشكلات والقضايا التي تجدد موضوع الرواية العربية مثل رواية‏(‏ ثقب في الثوب الأسود‏)‏ و‏(‏ تائه في شوارع الحرمان‏),‏ و‏(‏ ابن صديقتي اليهودية‏).‏

علي أن أدب إحسان عبد القدوس يحتاج إلي مزيد من القراءة والبحث والدراسة‏,‏ وليست هذه الدراسة الموجزة سوي مدخل ومقدمة‏.‏
  • Currently 120/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
40 تصويتات / 1038 مشاهدة
نشرت فى 16 فبراير 2006 بواسطة mara

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

937,990