authentication required
حركة المجتمع المصري في مرآة الإبداع الأدبي
بقلم: عبدالمنعم تليمة<!endarticleheader>
<!-- instanceendeditable -->
مدخل أول‏: الفن هو الظاهرة اللصيقة بالوجود الإنساني‏.‏ منذ درج الإنسان علي كوكب الأرض‏.‏ ذلك أن الإنسان هو الكائن الفنان‏,‏ خلق وطبيعته أساسها قوة لم تكن لغيره من الكائنات‏,‏ قوة الخيال أداة تعينه علي رؤية ما وراء الظاهر المباشر وعلي إعادة تركيب العناصر من حوله وعلي استعادة ما فات واستشراف ما هو آت‏,‏ قوة مبتكرة خالقة يقيم بها موازاة رمزية لواقعه المدرك المحسوس فيفجر في واقعه الماثل صورة الواقع المثال الذي يسعي إلي تحقيقه‏.‏ من هنا فإن العمل الفني تشكيل جمالي لموقف من الواقع‏,‏ الماثل‏,‏ ويجمع الموقف بين عناصر ذاتية نفسية عاطفية روحية وعناصر موضوعية طبقية إجتماعية تاريخية إنسانية إن الفن كمفهوم شامل موازاة رمزية تشد من الواقع جوهر حركته لتعيد بناءها في اتجاه واقع جديد يحقق النسبة والتناسب والتعادل والتوازن‏,‏ واقع أكثر إنسانية‏.‏ هذا عن الفن باعتباره النشاط للظاهرة الصائغة للوجود البشري‏,‏ أما العمل الفني الفرد فهو تشكيل جمالي لموقف مركب مما هو ذاتي وما هو موضوعي‏,‏ لذلك فإن دلالاته بغير نهاية بصورة تمكن المتلقي البصير أن يخلص من خلال تحليل التشكيل وتفسيره إلي دلالات تتفتح علي عوالم نفسية واجتماعية وسياسية وإنسانية لا تحدها حدود‏.‏ إن العمل الفني منجز جمالي متفتح لحاجات كل متلق مدرب واع‏,‏ ومن طلب شيئا وجده‏.‏ فثمة من يطلب من العمل الفني دلالة نفسية أو واقعية أو اجتماعية وسيجد المتلقي ما يطلبه ما دام يعتمد علي قرائن تشكيلية من بنية العمل الفني نفسه‏.‏

مدخل ثان‏: لم تغب مصر عن التاريخ يوما حتي في عصور ضعفها‏,‏ ثم بدأت مبادرتها في التاريخ الحديث في القرنين الماضيين‏,‏ وسعي المصريون إلي تأسيس مجتمع حديث‏,‏ قائم علي التعدد بنشوء فئات وطبقات وقوي إجتماعية جديدة تعبر عن نفسها في مدارس واتجاهات وتيارات سياسية وفكرية وتقيم مؤسسات تجعلها مسئولة عن حماية هذا التعدد‏.‏ أن التطور من مجتمع كلاسيكي قديم إلي مجتمع عصري حديث أدي إلي سلبيات كان في صدارتها الحكم المطلق‏,‏ ذلك لأن جوهر الحكم المطلق إحتكار إدارة شئون المجتمع بالمعني الشامل للإدارة وحرمان القوي الأخري من المشاركة في هذه الإدارة‏,‏ وثمرة ذلك تعطيل المجتمع من الانتقال إلي العصر الحديث لأن الحكم المطلق ضد التعددية‏,‏ وبالتالي فهو ضد التحديث الحقيقي‏.‏ فالحكم المطلق يتوجه إلي ثقافة المجتمع يريد سندا لوجهته وغاياته‏,‏ لذلك تجري قراءة تاريخ الأمة بنهج إنتقائي يفتش في موروثاتها عن مبررات لوضعها الراهن‏,‏ وتدار الحياة الثقافية الجارية بنهج‏(‏ واحدي‏)‏ يثبت ما هو قائم ويفسر وجهاته‏,‏ ونتيجة الأمرين جميعا يتم تعطيل طاقة الأمة الإبداعية وسد طريقها إلي المستقبل‏,‏ من هنا كان المسعي في المجتمعات المنتقلة إلي العصر الحديث الحرية‏.‏ إن الحرية غاية سعي البشر في كل زمان‏,‏ بيد أنها شرط تاريخي أول لكل تحديث‏,‏ لذلك كانت العبارة عنها أول عنصر من عناصر الثقافة الجديدة في هذه المجتمعات كانت الحرية هي غاية سعي البشر ولكنها‏-‏ في حالتنا المصرية الحديثة‏,‏ ولا تزال‏,‏ أول عنصر وأهم شرط من شروط التحديث والنجاح في عصرنة مؤسسات المجتمع وأدائه‏.‏ وسوف نلحظ من قراءة التاريخ المصري الحديث أن الحرية شكلت أهم دعامات وضمانات الاستمرارية في النضال الوطني وفي النضال الاجتماعي في وقت واحد‏.‏ ولفترة طويلة كان يتم تداول مصطلح‏(‏ النهضة‏)‏ كمفهوم شامل ينتظم محاور متعددة منها الاستقلال الوطني والوحدة الوطنية وإقامة المجتمع الحديث‏.‏ ودلالة الديمقراطية في ميدان الثقافة هو اتساع الثقافة الوطنية لمبادئ احترام الآخر والاعتراف بحق الاختلاف والاجتهاد والاتساع لكافة الاجتهادات والآراء والتيارات والاتجاهات وموروثات الأمة من كل العصور التاريخية‏.‏ وتتصور الثقافة الديمقراطية عملية تآلف كبري بين عناصرها بحيث تشمل العمل لتحقيق غايات أربع‏:‏ تحرير الوطن وتحديث المجتمع وتعقيل الفكر وتوحيد الأمة‏.‏ لقد شهدت مصر حقبا من الإزدهار عندما صحت تفاعلاتها الداخلية‏,‏ وأثرت في العالم كله تأثيرا إيجابيا‏,‏ وشهدت حقبا أخري من الخمود عندما عرفت تفاعلاتها الداخلية الاختلال بسبب الاحتكار أو القمع وإنكار ما لشخصيتها من جوانب متعددة وزاخرة بمعان تاريخية وعقيدية متنوعة‏.‏

ونحن الآن في مرحلة نلتمس فيها بدء عملية تاريخية جديدة للنهوض بالوطن المصري‏.‏ ومفتاح هذه العملية هو إعادة العافية إلي التفاعلات الداخلية في البلاد وهو ما لا يتم سوي عن طريق الديمقراطية كاختيار جماعي ومتفق عليه يؤمنه الاحترام والاعتراف المتبادل بين جميع القوي والمدارس الفكرية والسياسية‏,‏ ويثريه الاعتراف بتعدد وتكامل حقب تاريخها الطويل وتنمية الإصرار علي صنع مستقبل مجيد للبلاد‏.‏
إن قانون التاريخ المصري يجعل مراحل هذا التاريخ تتفاعل متعاقبة بغير انقطاع مكونة وحدة هذا التاريخ‏,‏ كما يجعل عناصر البنية المجتمعية الثقافية المصرية تتفاعل فينتج التعدد وحدة هذه البنية‏.‏ وملحوظة أن أزمان القوة والازدهار في التاريخ المصري كانت ثمرة لصحة التفاعل وتوازنه بين مراحل هذا التاريخ بحيث لا تغلب مرحلة علي أخري‏.‏ كما أن أزمان الصحة والسلامة في البنية المجتمعية الثقافية المصرية كانت ثمرة لصحة التفاعل وتوازنه بين العناصر المكونة لهذه البنية بحيث لا يغلب عنصر علي آخر وينفيه‏.‏ أما أزمان الوهن والانكسار في التاريخ والبنية المجتمعية المصرية فكانت ثمرة الخلل في آلية التفاعل بحيث تسعي مرحلة إلي نفي أخري وبحيث يسعي عنصر إلي نفي سواه‏.‏ وثمة شاهد ماثل من تاريخنا الحديث والمعاصر في زمن النهوض المصري المحلي بعيد‏1919-‏ سعي تيار إلي تقديم‏(‏ الفرعونية‏)‏ تقديما يوهن من شأن المراحل الأخري في التاريخ المصري‏.‏ وفي زمن النهوض المصري الإقليمي بعيد‏1952-‏ سعي تيار إلي تقديم‏(‏ العروبة‏)‏ تقديما يكاد يقطع ما قبلها من مراحل التاريخ المصري‏.‏

والشأن أن حقيقة الوجود المصري في التاريخ في وحدة مراحله دون قطع أو قطيعة‏,‏ وأن تماسك البنية الثقافية المجتمعية المصرية في وحدة عناصرها دون قهر أو وقيعة‏.‏ إن السعي إلي تقديم مرحلة من مراحل التاريخ المصري علي سواها هدر لمغزي هذا التاريخ‏,‏ وإن السعي إلي تغليب عنصر من عناصر المجتمع المصري بسبب الدين أو العرق‏..‏ إلخ‏-‏ هدم لهذا المجتمع‏.‏

مدخل ثالث‏:‏ وجود مصر في التاريخ البشري وجود ثقافي‏.‏ وقانون هذا الوجود الثقافي منذ البدء إلي اليوم في حالات الصعود والخمود والنهوض قائم علي التفاعل‏.‏وبيان ذلك أن المرحلة الفرعونية قد عاصرت مراحل أولي من حضارات قديمة أخري‏,‏ خاصة في أحواض الأنهار الكبري بأودية الصين والرافدين‏,‏ بيد أن تلك المرحلة المبكرة من الحضارة المصرية قد سبقت ما عاصرها من حضارات إلي تشييد بنية ثقافية كان عطاؤها الثقافي في تاريخ البشر هو الأعلي والأبقي‏,‏ في الدين والعلم والإبداع والفكر‏.‏ وكانت هذه البنية هي الأعلي والأبقي في التاريخ لأنها كانت ثمرة صحة التفاعل بين عناصر جمة‏.‏ فلما نضجت هذه البنية الثقافية المصرية المحلية تفتحت علي الثقافات والحضارات المعاصرة لها فأخذت منها وأعطتها وتأثرت بها وأثرت فيها‏.‏ والعلماء والدارسون يجمعون علي أن البناء المصري‏,‏ تاريخيا واجتماعيا وثقافيا‏,‏ إنما كان ثمرة الوحدة التي نهضت علي التفاعل بين مكونات وعناصر اجتماعية وثقافية جمة‏.‏ ويجمع هؤلاء العلماء والدارسون علي أن قانون التفاعل هذا يفسر كل تاريخ مصر في جميع حالاته‏,‏ التقدم والتوقف والتراجع والنهوض من جديد‏.‏ ذلك أن صحة التفاعل بين عناصر الوحدة ومكوناتها كان يفضي أبدا إلي الإزدهار‏,‏ وأن مرض هذا التفاعل كان يفضي أبدا إلي الإنكسار‏.‏ صحة التفاعل في توازن العلاقات وسلامتها بين العناصر المكونة للوحدة‏,‏ ومرضه في ظهور عنصر علي العناصر الأخري واستبداده بها وطغيانه عليها‏.‏

ولقد أبدعت الثقافة المصرية أقدم الصياغات في الدين والعلم والإبداع الفني والنظر الفلسفي‏.‏ فقد تأمل المصري الكون وطمح إلي فهم ما وراء الواقع وإلي الوقوع علي ماهيات الخلق والخالق والحياة والموت‏.‏ فكانت له تلك الرؤي الروحية والدينية المبكرة التي وجدت تجليها‏-‏ فيما بعد‏-‏ في اليهودية والمسيحية والإسلام وفي الأنساق الفلسفية الشرقية واليونانية‏.‏ وسدد المصري النظر علي الواقع ففحص بطن الأرض وظهرها ليوجه الأفواه وأنواع التربة وليدرك خصائص العناصر والمواد‏,‏ فكان له ذاك الإبداع العلمي المشهود في تاريخ العلم والرياضيات‏,‏ وكانت له تلك التجارب والخبرات التي بقيت مشهودة في الأبنية والهياكل والمعابد والآثار‏,‏ وشغل المصري بالعلاقات بين الناس‏,‏ فسعي سعيه لتحقيق التوازن الاجتماعي وإقامة الميزان‏,‏ فكان له ذلك التراث الجليل من الحكمة وأصول العدل وروح القانون‏.‏ ولم تكن تلك الصياغات اجتهادات فردية متناثرة يصل إليها الآحاد من التطبيقيين والمهندسين والعلماء والحكماء‏,‏ وإنما شهدت الحضارة المصرية القديمة أقدم‏(‏ المؤسسات‏)‏ الثقافية والأكاديمية‏.‏
لقد سميت حركة المجتمع المصري في التاريخ الحديث بإسم النهضة‏.‏ ونقف في مقامنا هذا عند عطاء الإبداع الأدبي في هذه النهضة‏.‏ لقد جري نهوض هذا الإبداع في مجريين كبيرين‏,‏ أولهما تجديد الأصيل وهو الشعر‏,‏ وثانيهما تأصيل الجديد وهو الأنواع الأدبية الجديدة المستحدثة وهي الرواية والمسرحية والقصة القصيرة‏.‏ ولقد تجلت غايات حركة المجتمع المصري الحديث في مرآة كل إبداع أدبي‏.‏ تبدت غايات التحرير والتحديث والتوحيد في كل الأعمال التي أبدعها الشعراء والروائيون وكتاب المسرح والقصة القصيرة‏,‏ فكانت هذه الغايات مدار التجديد والتأصيل الجماليين جميعا‏.‏ وكانت‏(‏ الحرية‏)‏ الحلقة الأساسية في هذه الغايات‏,‏ وكانت‏(‏ مشكلة الحكم‏)‏ في القلب من هذه الحلقة‏.‏ لقد نشط خيال المبدعين المصريين المحدثين والمعاصرين فصاغوا مشكلة الحكم في أعمال باقية‏,‏ لمعت بينها مسرحية‏(‏ السلطان الحائر‏)‏ لتوفيق الحكيم‏.‏

والحقيقة أن أعمال توفيق الحكيم يقف وراءها موقف‏(‏ فلسفي‏),‏ استخدمه هذا الفنان من ثقافته وتجاربه الروحية والفكرية ومن تأملاته‏.‏ ويتبدي هذا الموقف في أعماله بصورة فنية متفوقة‏,‏ بحيث يصير‏(‏ الفكر‏)‏ دراما حية‏:‏ ولا يمكن فهم مسرح توفيق الحكيم إلا بفهم فكره‏,‏ لأنهما شئ واحد‏,‏ والفصل بينهما ينتهي بعدم الفهم لكليهما‏.‏ وقد لخص لنا توفيق الحكيم موقفه الفلسفي في كتاب‏(‏ التعادلية‏)‏ الذي صدر سنة‏1955,‏ والذي نراه بداية ضرورية لدرس فكر توفيق الحكيم ومسرحه علي السواء‏.‏ وموقف توفيق الحكيم فلسفيا هو موقف مثالي في الصميم‏,‏ ومع ذلك فيصعب رده إلي مصدر واحد‏,‏ لأنه خلاصة تجربة ذاتية مع ثلاثة مصادر محددة ولكنها في نفس الوقت متباينة ومعقدة‏:‏ الفلسفة الإغريقية‏,‏ والفكر المصري القديم‏,‏ والفكر العربي الحديث بمدارسه المثالية المتعددة‏,‏ وربما وصل إليه من تقدم نظري في المجال العلمي والمذاهب الإجتماعية‏.‏
ويقوم موقف توفيق الحكيم علي محور حدده وسماه‏(‏ التعادل‏):‏ التعادل بين قوتين في الإنسان قوة العقل‏,‏ وقوة القلب‏.‏ وهو يحاول أن يفسر مكان الإنسان في الكون‏,‏ وحركة البشر في المجتمع ونشاطهم العلمي والأخلاقي خلال فكرة التعادل هذه‏.‏ ويري أن هذا التعادل كان موجودا وقائما في علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بالآخرين وبالكون حتي مطلع القرن التاسع عشر‏:‏ كانت هناك موازاة بين نشاط التفكير ونشاط الإيمان عند الإنسان‏.‏ ثم احتلت هذه الموازاة وذلك التعادل منذ ذلك الوقت نتيجة توالي انتصارات العلم العقلي والتجريبي من ناحية واستمرار جمود الجانب الديني من ناحية ثانية‏.‏ ويخرج توفيق الحكيم من كل ذلك إلي أن نتيجة الإختلال في التعادل بين القوتين الإنسانيتين الرئيسيتين العقل والقلب‏,‏ كانت من النتيجة الطبيعية التي لابد أن تلازم كل اختلال في التوازن‏.‏

ولكن فكرة‏(‏ التعادل‏)‏ لا تقف عند هذا الحد بين نشاط التفكير‏(‏ العقل‏)‏ ونشاط الإيمان‏(‏ القلب‏),‏ بل إنها لتتجاوز ذلك إلي كل المشكلات الميتافيزيقية والسلوكية والإجتماعية‏.‏ فالإنسان في تعادلية توفيق الحكيم محور جذب وشد دائمين‏:‏ بين خير وشر‏,‏ وفضيلة ورذيلة‏,‏ وفكر وعمل‏,‏ وقوة وضعف‏...‏ إلخ‏.‏ ويريد توفيق الحكيم بالمعادلة الوقوف عند كل طغيان‏,‏ ضد طغيان القوة علي الضعف‏,‏ وضد طغيان العقل علي الوجدان أو الوجدان علي العقل‏,‏ يقول‏:'..‏ إن التعادلية بإعتبارها مذهبا يقاوم الضعف والعجز والنقص والقبح‏.‏ بإيمانها بوجود القوي المعوضة الموازنة‏:‏ أي المعادلة‏,‏ وبإعلانها طريقة واضحة للمقاومة‏,‏ هي نهوض الإنسان سواء كان فردا أو شعبا للكشف عن القوي المعوضة المعادلة وإظهارها وتنميتها‏.‏ هذا المذهب يلغي أثر الضعف والعجز عن طريق استخراج المعوض والمعادل‏.‏ كل شعب أو مجتمع أو رجل أو امرأة أو فنان أو عامل أو أديب الخ يجب أن يسأل نفسه هذا السؤال‏:‏ إذا أحس من نفسه عجزا طبيعيا أو نقصا خطيرا‏:‏ ما دمت عاجزا ضعيفا في هذه الناحية فلابد أني قوي قادر في ناحية أخري‏..‏ بمعني آخر لا يوجد إنسان ضعيف‏,‏ ولكن يوجد إنسان يجهل في نفسه موطن القوة المعوضة‏.‏ قم وقاوم‏,‏ وابحث عنها وكافح لإظهارها وتنميتها لتعادل بها عجزك وضعفك في يوم تنهض الإنسانية كلها تفعل ذلك‏.‏ كم من مناجم للقدرة ستنفجر لتعوض عن مآسي العجز البشري‏'.‏

ولقد أنهي توفيق الحكيم مرحلة طويلة من أدبة المسرحي سنة‏1961/1959‏ بهذه المسرحية‏(‏ السطان الحائر‏)‏ وبدأ مرحلة جديدة امتدت حتي وفاته‏.‏ ولا تخرج هذه المرحلة الأخيرة عن موقفه الفكري الأساسي وجهده الجمالي الغالب‏,‏ لكنها تحاول اكتشاف زوايا من النظر وطرائق من التشكيل متنوعة ومسرحية‏(‏ السلطان الحائر‏)‏ بشكل عام نموذج لتلك المرحلة من أدب توفيق الحكيم التي استمرت حتي سنة‏1960,‏ فهذه المسرحية تمثيل لتجربته الفكرية وخبرته الجمالية في تلك المرحلة‏.‏ مسرحية‏(‏ السلطان الحائر‏)‏ إذن فهي مسرحية‏(‏ قضية‏),‏ بالمعني النظري السالف‏.‏ ما قضية هذه المسرحية‏.‏ القضية هنا هي‏(‏ نظام الحكم‏),‏ علاقة الحاكم بالمحكومين‏,‏ قد تقوم هذه العلاقة من طرف الحاكم علي القهر‏,‏ والسيف والقوة والتحكم الفردي‏.‏ وقد تقوم علي العدل والقانون‏,‏ والمبدأ‏,‏ والديمقراطية‏.‏ ولقد اختار‏(‏ السلطان‏)‏ الشخصية الأساسية في المسرحية السبيل الثاني‏,‏ رفض سبيل السيف الذي يفرضه ولكنه يعرضه‏,‏ واختار سبيل القانون الذي يتحداه ولكنه يحميه‏.‏ أينتهي الطغيان بهذا الأختيار نهائيا‏.‏ لا‏.‏ إن الصراع في فلسفة التعادل قائم أبدا بين الظلم والعدل‏,‏ فإذا انتصر أحدهما في مرحلة أو موقف‏,‏ تصدي له الثاني بالمقاومة حتي يعادله‏,‏ وهكذا إلي آخر الدهر‏.‏ فإذا كان السلطان قد اختار سبيل القانون‏,‏ فإن وزيره قد ظل يؤمن بسبيل السيف‏.‏ إن التوازن الحاسم بين المبدا والقوة وبين أي قوتين متصارعتين أو الانتصار النهائي لأحدهما علي الآخر مستحيل‏,‏ لأن هذا التوازن الحاسم أو الانتصار النهائي معناه انتهاء الحياة كما تري فلسفة التعادل‏.‏ يريد توفيق الحكيم أن يقف ضد القوة‏,‏ وأن يحفز البشرية علي الوقوف في جانب القانون والديمقراطية‏,‏ لكنه‏,‏ يري أن قوي الطغيان باقية لقوي العدل‏,‏ وأن انتصار العدل نهائيا أمر لا ينتهي إليه نضال البشر‏:‏

كيف صاغ توفيق الحكيم قضية‏(‏ السلطان الحائر‏)‏ جماليا؟
الأصل في الأدب المسرحي أن يكشف عن‏(‏ صراع‏).‏ ويستعين كاتب المسرح أو شاعره في إبراز هذا الصراع بشخصيات متحاورة‏.‏ إن المبدأ الفكري والجمالي لهذا النوع الأدبي أدب المسرح هو‏:‏ الصراع‏.‏ وتأتي‏(‏ الشخصية المسرحية‏)‏ و‏(‏ الحوار المسرحي‏)‏ مساعدين علي الكشف عن هذا الصراع‏.‏ إن تطور كل شئ في المجتمع‏,‏ الحياة‏,‏ الفن‏...‏ إلخ‏.‏ هو حركة صاعدة‏,‏ والصراع أساس هذه الحركة‏,‏ لأن التطور نتاج متناقضات متصارعة‏.‏

فالصراع مبدأ التطور وسببه‏,‏ والحركة هي الصورة الخارجية لهذا الصراع‏,‏ وعلي هذا فإن الحركة هي‏(‏ ظاهر‏)‏ العمل المسرحي‏,‏ والصراع هو‏(‏ باطن‏)‏ هذا العمل وأساسه‏.‏ ويتوجه دارس العمل المسرحي وناقده إلي بيان الحركة للوصول إلي أساسها وهو الصراع‏.‏ أي أن الدارس والناقد إنما ينصرف إلي الصراع‏,‏ لأنه الأصل في العمل المسرحي‏,‏ ويتبدي هذا الصراع في المساعدين‏:‏ الشخصية والحوار‏.‏
وتحدد فلسفة التعادل عند توفيق الحكيم طبيعة‏(‏ الصراع‏)‏ في أعماله المسرحية‏,‏ كما تحدد طبيعة‏(‏ الشخصية‏)‏ في هذه الأعمال‏,‏ أي أن هذه الفلسفة مفسر نظري حقيقي لمسرح توفيق الحكيم ومدخل ضروري إلي فهمه وتذوقه وتقويمه‏,‏ فإذا كان قوام المسرح أنه‏(‏ صراع‏),‏ فما طبيعة هذا الصراع عند توفيق الحكيم‏.‏ تأسيسا علي تعادليته‏.‏ الصراع عنده إنساني‏,‏ فهو يختلف عن الصراع في الدراما اليونانية القديمة‏:‏ الإنسان عند توفيق الحكيم يصارع قوي ليست منفصلة عنه ولا متعالية عليه‏,‏ بل هي قوي كامنة في ذاته‏.‏ الإنسان تشده أبدا قوتان غير مستقلتين عنه‏,‏ وهو يناضل أبدا في سبيل المعادلة وتحقيق التوازن بينهما‏,‏ وكلما تفوقت إحداهما واصل نضالة‏,‏ ولكنه لن يصل إلي توازن حاسم‏,‏ لأن التوازن النهائي عند توفيق الحكيم معناه الموت‏.‏ فالإنسان يناضل دائبا في سبيل الوصول إلي غاية يعلم مقدما إستحالتها‏.‏ إن الإنسان في مفهوم التعادل وطبيعة الصراع عند توفيق الحكيم لا يصارع قوة خارجة عنه‏,‏ بل هي قوة معنوية غير منظورة تتمثل في أن الإنسان سجين إطار معين هو الزمان والمكان والغرائز والطباع وإن إرادته ترتطم أحيانا بكل هذه العوامل‏,‏ وهو يحاول المروق منها
.‏ وهو ينهزم ولكنه لا يسلم بهزيمته أبدا‏.‏ إذن فما معني الحرية طبقا لهذا المفهوم‏:‏ الإنسان هو داخل إطار إرادة أعلي‏.‏ ما هي النظم التي تحكم وجودنا‏.‏ إطار الزمان والمكان وقوانين الوراثة والغرائز وقوانين المجتمع‏...‏ الخ‏.‏ ومأساة الإنسان وعظمته في نفس الوقت هما أنه مع إعتراقه بهذه القوانين يقاومها ويتحداها أو يعمل كما لو كان يستطيع الفكاك منها ودحضها مع أنه عقليا يدرك إستحالة ذلك‏'‏ ويقترب هذا المعني للصراع من طبيعة الصراع اليوناني القديم وطبيعة الصراع المصري القديم‏:‏ كان اليونانيون يصارعون القدر‏,‏ وكان المصريون يصارعون الزمن أو الفناء‏.‏ ولكن الصراع عند توفيق الحكيم يختلف عن الصراع القديم عموما من جهة أن القوي التي يصارعها الإنسان كامنة فيه غير منفصلة عنه ماديا ومعنويا‏.‏

في هذه المسرحية‏(‏ السلطان الحائر‏)‏ ثلاثة إنتقالات أساسية تمثل الحركة وتكشف عن الصراع‏,‏ ويجعل توفيق الحكيم كل واحدة من هذه الانتقالات الثلاثة‏,‏ في فصل من فصول المسرحية الثلاثة‏.‏ وتتبدي في كل واحدة من هذه الانتقالات صور الصراع في داخل الفرد الإنساني بين قوتين تشده كل واحدة منهما إلي سبيلها‏,‏ وصورة من صور صراع فرد إنساني آخر في موقفين يحمل كل فرد موقفا منهما ويحاول أن ينتصر به‏,‏ وأن يجعله سبيلا للآخرين‏:‏
في الانتقالة الأولي‏,‏ الفصل الأول يواجه السلطان بحقيقة كان يجهلها ويجهلها كثيرون وهي أنه لا يزال عبدا رقيقا‏,‏ وكان ينبغي أن يعتق قبل جلوسه علي العرش‏,‏ لكن السلطان الراحل لم يعتقه قبل وفاته المفاجئة‏,‏ ولا يجوز في هذه الحالة أن يحكم العبد شعبا حرا‏.‏ هنا سبيلان للحل‏:‏ سبيل السيف‏,‏ سبيل الأقوي‏,‏ بأن يعلن الناس أن السلطان قد أعتق عتقا شرعيا‏,‏ أعتقه السلطان الراحل قبل وفاته‏,‏ وأن الوثائق والحجج مسجلة ومحفوظة لدي قاضي القضاة‏,‏ والموت لمن يجرؤ علي تكذيب ذلك‏,‏ وسبيل القانون‏,‏ سبيل الأحق‏,‏ بأن تكون ملكية السلطان للعبد مادام مالكه السلطان الراحل لم يعتقه قبل وفاته‏,‏ وتوفي بغير وريث لبيت المال‏,‏ وبيت المال لا يملك عتقه بغير مقابل‏,‏ إذ ليس من حق أحد التصرف بغير مقابل في مال أو متاع مملوك للدولة‏.‏ ولكن من الجائز لبيت المال التصرف بالبيع‏,‏ وبيع مال الدولة لا يكون صحيحا قانونا إلا بمزاد مطروح في العلن‏.‏ فالحل الشرعي هو أن يطرح السلطان البيع في المزاد العلني‏,‏ ومتي رسا عليه المزاد يعتقه بعد ذلك‏.‏ بهذا لا يضار بيت المال في ملكه ويظفر السلطان عن طريق القانون بعتقه وتحريره‏.‏ السيف يحسم أسرع‏,‏ لكنه يعرض للخطر‏,‏ لأنه يعطي الحق للأقوي‏,‏ ومن يدري غدا من يكون الأقوي‏.‏

أما القانون فهو يحمي الحق‏.‏ السيف يفرض لكنه يعرض‏.‏ والقانون يتحدي لكنه يحمي‏.‏ في هذه الأنتقالة الأولي من حركة المسرحية يجد السلطان نفسه في موقف الاختيار‏.‏ ويختار سبيل القانون‏.‏
وفي الانتقالة الثانية الفصل الثاني يطرح السلطان للبيع في المزاد العلني‏,‏ ويعلن الناس أن هذا البيع ليس ككل بيع‏,‏ هذا البيع يجب أن يقترن به عقد آخر‏,‏ هو عقد العتق‏,‏ بمعني أن المشتري لا يجوز له الاحتفاظ بالسلطان‏,‏ إنما عليه أن يتم العتق في مجلس العقد‏.‏ وينتهي البيع إلي مجهول‏,‏ يوقع عقد البيع ويرفض التوقيع علي حجة العتق‏.‏ لقد فوضه موكله في المزايدة وعقد الشراء‏,‏ أما خارج هذا النطاق فلا تفويض عنه‏,‏ ولا يعلن أسم من فوضه‏.‏ وتعلن الغانية وهي أساسية في المسرحية أنها الشارية‏.‏ في هذه الانتقالة الثانية من حركة المسرحية تجد الغانية نفسها في موقف الاختيار‏:‏ بين عبودية السلطان التي تمنحه لها‏,‏ وبين حريته التي تحفظه لعرشه وشعبه‏.‏ ويختار السلطان حريته‏.‏

وفي الانتقالة الثالثة الفصل الثالث تتبدي للغانية عظمة السلطان وحكمته‏.‏ ويتبدي له نبلها وشرفها‏.‏ لقد كانت تظن أن أعماله الخارقة مرادفة للتكبر والتحجر والقسوة‏,‏ ولكنها وجدته لطيفا متواضعا‏.‏ ولقد كان يظن أنها عابثة سيئة الخلق والسيرة‏,‏ لكنه وجدها نقية مخلصة‏,‏ في هذه الانتقالة الثالثة من حركة المسرحية يجد السلطان والغانية نفسيهما‏,‏ إذ اختارا سبيل المبدأ‏,‏ في مواجهة السبيل الآخر‏:‏ التلاعب بالقانون‏(‏ القاضي‏),‏ الالتجاء إلي القوة‏(‏ الوزير‏).‏

تمثل هذه الانتقالات الثلاثة حركة المسرحية‏,‏ ومن ثم فهي تكشف عن الصراع‏:‏ طبيعته‏,‏ وأطرافه‏.‏ صراع في داخل الفرد الإنساني السلطان‏,‏ الغانية بين قوتين تتنازعانه‏,‏ وعليه أن يختار‏,‏ وصراع فرد وآخر‏,‏ بين موقفين يواجه كل منهما الآخر ويقاومه‏.‏
لا يتحدث الكاتب المسرحي‏,‏ ولا يسرد ولا يصف‏,‏ وإنما هو يقيم عمله كاملا بالحوار‏,‏ بشخصيات متحاورة‏.‏ فإذا كان البناء في العمل المسرحي هو الذي تتحدد به الحركة‏:‏ ومن ثم يتحدد به الصراع‏,‏ فإن الشخصيات في هذا العمل إنما تتحدد بحوارها‏.‏ الأصل هو الصراع‏,‏ والشخصية والحوار أداتان يتبدي عن طريقهما هذا الصراع‏.‏ ويختلف كاتب المسرح وشاعره في هذا إختلافا واسعا عن كاتب القصة والرواية‏:‏ يقيم كاتب القصة والرواية الشخصية أولا‏,‏ ثم ينسج من حولها الحوادث والمشكلات والحيوانات الكثيرة والبيت والشارع‏.‏ أما في المسرحية فإن الشخصية تتألف من القضية والموقف وتتخلق هذه الشخصية المسرحية عن طريق الحوار‏,‏ فالشخصية هي حوارها‏.‏ وما دام المسرح‏(‏ قضية‏),‏ فإن لكل شخصية منطقها بصدد هذه القضية‏,‏ ومنطق الشخصية هنا هو ما تنطق به‏.‏

المسرح في فكر توفيق الحكيم النظري هو القضية‏,‏ أو المسرح قضية‏,‏ فإنه لا يهمنا في المسرح كما يري الحكيم أن نعرف شيئا عن ظروف الشخصية وحياتها‏,‏ إنما المهم هو صراع القوتين المحتدم‏.‏ فعندما ننتقل إلي المسرح إنما ننتقل إلي حلبة مصارعة من نوع راق‏.‏ هو مصارعة الأفكار والعواطف‏,‏ والذي يهمنا فحسب هو موقف الإنسان في مواجهة مشكلة كبري أقوي منه أو في الأقل ند له‏,‏ يقارعها بأقوي ما للأنسان من سلاح وهو العقل والفكر والطبع المقاوم‏.‏ المسرح إذن في جوهره قضية ومشكلة وليس‏(‏ حدوتة‏)‏ ولا عرضا لحياة‏.‏ إن الكاتب المسرحي يبدأ من القضية إلي الحياة بينما القصاص أو الروائي يبدأ من الحياة إلي القضية التي توجد في روايته وقد لا توجد‏.‏ إن للمسرح متعته الخاصة التي لا يستطيع غيره أن يمنحها وهي الصراع المركز داخل فكرة وقضية‏,‏ ويفضي هذا التصور المسرح إلي بيان واضح الشخصية المسرحية‏,‏ فهذه الشخصية كما يراها توفيق الحكيم نمط شامل هو وليد العقل لا النقل من بين عامة الناس‏.‏ الشخصية عنده شاملة من حيث أنها تمثل جمهرة كبيرة من الناس وتتكلم بلسانهم‏.‏ القضية هي التي تقوده إلي الشخصية وليس العكس‏,‏ إذ الشخصية المسرحية تتجلي من خلال القضية والمشكلة‏.‏

وقد تناولنا‏,‏ في الفقرة السابقة‏,‏ قضية‏(‏ السلطان الحائر‏)‏ متجلية في صراع‏,‏ صاغه الكاتب ببناء‏(‏ كلاسيكي‏)‏ قامت فيه الحركة‏.‏ ظاهر هذا الصراع علي انتقالات أساسية ثلاثة‏.‏ وهنا نتناول ذلك الصراع من خلال أدوات الصياغة‏,‏ بعد أن تناولناه من خلال البناء‏.‏ أي أننا نتناول هنا الشخصية والحوار‏.‏ وما دام الكاتب المسرحي لا يصف شخصياته‏,‏ وإنما يجعلها تتحدد بحوارها‏,‏ فإننا نري هنا شخصيات‏(‏ السلطان الحائر‏)‏ بما تنطق به‏:‏ في هذه المسرحية كثرة من الشخصيات الجانبية‏,‏ أو الثانوية‏,‏ لكنها ليست‏(‏ أنماطا‏)‏ مجردة‏,‏ بل هي أنماط انسانية موفقة‏,‏ وفر الحكيم لبعضها قدرا من الدفء البشري وعمق المجاز جعلها ذات دلالات أساسية في عمله‏.‏ الدلالة ناجحة في شخصية الجلاد مثلا‏.‏ بل إن المماثلة موفقة بين الجلاد والبستاني‏,‏ إذ أن القائم علي البستان يصبح إذا ما اصطنع القوة جلادا‏.‏ تصير الجنة إذا سيطر الطغيان عليها جحيما‏.‏ والشخصيات الأساسية من جهة عمق المجاز‏,‏ وتحددها بما تنطق به أكثر توفيقا‏.‏ إن‏(‏ موقف‏)‏ كل واحدة من هذه الشخصيات‏,‏ ووجودها طرفا في الصراع‏,‏ إنما يتبدي من أول كلام تنطق به‏.‏
إن السلطان تردد في الإختيار بين سبيل السيف وسبيل القانون‏,‏ ولكنه منذ البداية قد أخذ علي وزيره أنه أخطأ بعدم تنبيه السلطان الراحل إلي مسألة العنف‏,‏ وأخذ عليه كذلك أنه يريد دفن غلطته بدفن النخاس الذي أذاع أن السلطان الحالي عبد لم يعتق‏.‏ بعد ذلك اختار السلطان سبيل المبدأ والقانون‏,‏ فأبي أن يقتل النخاس الذي أذاع السر‏,‏ وأبي أن يتحايل علي الغانية التي أشترته لتحرره‏,‏ وكان منطقه أن الذي يمضي قدما إلي الأمام في خط مستقيم يجد دائما مخرجا‏.‏

أما الغانية فقد ترددت أولا بين أن تبقي علي السلطان بعد أن أشترته عبدا لها وبين أن تحرره‏.‏ كانت تريد أن تقف في وجه صورة من صور الطغيان تربط بين شراء السلطان وعتقه‏,‏ وكان منطقيا‏:‏ أن الشراء هو امتلاك شئ في نظير ثمن‏,‏ والعتق هو عكس الامتلاك‏,‏ إنه التخلي عن الأمتلاك‏,‏ فكيف يستقيم القول بأنه لكي تمتلك شيئا يجب أن تتخلي عنه‏,‏ لكي تملك يجب ألا تملك‏.‏
لكنها اختارت سبيل المبدأ فحررت السلطان بعد أن تعرفت علي حكمته وشجاعته وعدله‏.‏ تنازعت كل واحدة من هاتين الشخصيتين السلطان‏,‏ الغانية قوتان‏,‏ واختار كل منهما سبيل المبدأ‏,‏ وكان هذا موقفا واجه الموقف الآخر لشخصيتين أخريتين‏:‏ القاضي والوزير‏.‏ لم يختر القاضي سبيل السيف‏,‏ لكنه لم يرع جوهر المبدأ القانوني‏,‏ إنما تمسك بشكلية القانون‏,‏ وتحايل به‏.‏ إنه يرفض السيف‏,‏ إذ السيف لديه قاطع حقا للألسنة والرؤوس‏,‏ ولكنه ليس بقاطع في المشاكل والمسائل‏,‏ ويواجه السلطان إلي اختيار سبيل القانون‏,‏ وعنده أن من علامات المجد أن يخضع السلطان للقانون كما يخضع له الناس‏.‏ لكن هذا القاضي يتلاعب بالمبدأ عندما يتحرج الموقف‏,‏ فيأمر المؤذن أن يؤذن لصلاة الفجر في منتصف الليل‏,‏ ليخرج السلطان من بيت الغانية‏,‏ التي وعدت أن توقع حجة العتق عند أذان الفجر‏.‏ أما الوزير‏,‏ فهو رجل القوة والسيف‏,‏ والطغيان‏.‏

ما ينطق به يفصح عن منطقه‏:‏ لقد أخطأ في مسألة العتق‏,‏ وهو يريد دفن غلطته بدفن الرجل الذي أذاع السر‏:‏ إذا قطع رأس هذا الرجل وعلقه في الساحة أمام الناس‏,‏ فما من لسان بعدئذ يجرؤ علي الكلام‏,‏ ليس من الضروري لديه لمن يحكم أن يحمل في يديه الوثائق والحجج‏.‏ وعند ما تثار مسألة القانون‏,‏ يري أن الأمر ليس تنفيذ القانون‏,‏ وإنما للتخلص من القانون‏,‏ وطريقة التخلص هي افتراض أن العتق وقع وتم‏,‏ ومن السهل أن يحمل الناس علي التصديق بالسيف‏.‏ وإذا أستند الطغيان إلي القوة أساسا‏,‏ فإنه يستند معها إلي الخداع‏,‏ والتحايل‏,‏ والكذب‏.‏ فعندما يرتاب الوزير في صدق الغانية في وعدها بعتق السلطان عند الفجر‏,‏ يأمر الجلاد باعدامها إذا لم تحقق وعدها‏,‏ بتهمة العمل جاسوسة لحساب العدو‏(‏ المغول‏),‏ وبعد المؤيدين لهذه التهمة والأصوات والشهود‏.‏ هكذا تخلقت الشخصيات بالحوار‏,‏ ولكن هناك جانبا آخر في الحوار‏,‏ هو جانب‏(‏ جمالياته اللغوية‏),‏ وهو جانب ليس مكان تناوله هنا‏,‏ لأنه يرتبط بنتاج توفيق الحكيم المسرحي كله‏.‏ ومن الوجهتين التاريخية والفنية‏,‏ يعد توفيق الحكيم في هذا الجانب في مقدمة الكتاب الذين طوعوا اللغة العربية للحوار المسرحي‏,‏ ولإستيعاب جمالياته‏.‏

مسرح توفيق الحكيم في فهمنا النظري لأصوله‏,‏ وفي أستعانتنا بهذا الفهم في درس هذه المسرحية‏:‏ السلطان الحائر فكري‏,‏ بمعني قيامه علي‏(‏ القضية‏)‏ التي تتبدي إنسانيتها في شخصيات تجري الدماء البشرية في عروقها‏,‏ ولهذا فإن هذا المسرح ليس‏(‏ ذهنيا‏)‏ قائما علي التجريد والعلو بالقضية رمزيا حتي تنبت أواصرها بالكائنات البشرية الحية التي تعانيها‏,‏ وسواء قام هذا المسرح علي الأسطورة أو التاريخ أو الموروث الشعبي أو الحاضر الواقع فإن وراءه أبدا الأساس النظري الواحد القائم علي فكرة التعادل‏,‏ والفهم النظري لفكرة المسرح‏,‏و التصور المنسق لعلاقة القضية بالشخصية‏,‏ بحيث تبدو الأولي في صورة صراع إنساني‏,‏ وتبدو الثانية في صورتها البشرية‏,‏ وقد نختلف مع توفيق الحكيم في موقفه الفلسفي المثالي المغروق في التوفيقية غير الموضوعية‏,‏ وقد نختلف معه في بنائه الكلاسيكي‏,‏ كما قد نختلف معه في تصوره لنظرية المسرح‏,‏ ولكننا لا يمكن إلا أن نري مسرحه حقيقة هامة في حياتنا الروحية والفنية‏,‏ وخطوة لها خطرها التاريخي في نهضتنا الحديثة‏.‏
  • Currently 90/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
30 تصويتات / 418 مشاهدة
نشرت فى 16 فبراير 2006 بواسطة mara

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

937,984