اسمه ونسبه صلى الله عليه وسلم:
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ويرجع نسبه إلى" عدنان " من ولد إسماعيل عليه السلام الذبيح بن إبراهيم الخليل أبي إسحاق عليهم جميعاً الصلاة والسلام.
وهو خير أهل الأرض نسباً على الإطلاق، فلنسبه من الشرف أعلى ذروة، وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك، ولهذا شهد له به عدوه إذ ذاك أبو سفيان بين يدي ملك الروم هرقل في قصة شائقة، تعدُّ من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، ويمكن الرجوع إليها في صحيح البخاري.
ولرسول الله محمد عدة أسماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي (أي يُحشر الناس إثر بعثه)، وأنا العاقب" والعاقب الذي ليس بعده نبي.
ومحمد أشهر الأسماء، وبه سمي في التوراة صريحاً بما يوافق عليه كل عالم من مؤمني أهل الكتاب، ومن أسمائه أحمد وهو الاسم الذي سماه به المسيح عليه السلام.
و" محمد " سمي به في التوراة لكثرة الخصال المحمودة التي وصف بها هو ودينه وأمته فيها، وفي معاجم اللغة المُحَمّدُ: الذي كثُرت خصاله الحميدة ؛ وما سُمِّي الرسول محمُدًا إلَّا لأنّه محمّدٌ أي إن اسمه هو صفته، فطابق الاسم المسمَّى. وهو اسم لا تكاد العرب تعرفه؟! وكان المشركون يشتمونه، ويسمونه مذمماً! على نقيض معنى اسمه، على نحو مشابه لما فعلته بعض الصحف الأوربية في وقت سابق، ولكن الرسول الحليم لم يكن ليضيق صدره، بل يجيب ببراعته اللغوية وحنكته السياسية قائلاً لأصحابه: " ألا تعجبون كيف يصـرف الله عني شتم قريش، ولعنهم؟ يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمد! ".
ومعنى (يصرف الله عني) أي لعنهم وشتمهم فلا يصيبني، لأنهم يلعنون ويشتمون غيري الذي يسمى مذمماً، بينما اسمي محمد صلى الله عليه وسلم. وكان كفار قريش لشدة كراهتهم له صلى الله عليه وسلم لا يسمونه باسمه الدال على المدح، فيعدلون إلى ضده فيقولون:
مذمم، وهو ليس اسمه ولا معروفاً به، فكان الذي يقع منهم مصروفاً إلى غيره بالبداهة، فيحصل ضد قصدهم، ويرد الله تعالى كيدهم في نحرهم، ليموتوا في غيظهم. ولكن ينبغي الإشارة إلى أن نعت قريشٍ محمداً بمذمم إنما أتى بعد الرسالة والخصومة فيها، وكان قبلها يدعى عندهم "الصادق الأمين".
ألا تتفق معي أن دفاع محمد صلى الله عليه وسلم عن نفسه كان هادئاً جداً بيد إنه مفحمٌ للخصم، يكاد يقتله غيظاً وحنقاً، ولو قُدِّرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيش إلى أيامنا ؛ واطلع على تلك الصور سيئة الذكر لأجاب بمثله!.
والشيء بالشيء يذكر، فقد ذكَّرني دفاع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه بما روته لنا حبيبته المبرَّأة عائشة قالت: استأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
السام عليكم! (والسام الموت) قالت عائشة غاضبةً: بل عليكم السام واللعنة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله. قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: قد قلت: وعليكم. وهذا الرفق منه من تجليات رحمته صلى الله عليه وسلم ومن دلائل نبوته!
وفي غزوة أحد أشرف أبو سفيان قائد جيش المشركين في زهو وغرور إثر نصر اختطفه من المسلمين على حين غرة، فقال: أفي القوم محمد؟. فقال رسول الله: لا تجيبوه! فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إنَّ هؤلاء قُتِلوا فلوا كانوا أحياءً لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يسوؤك! فقال أبو سفيان: أعل هبل!. فقال النبي: أجيبوه! قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: لنا العزَّى ولا عزَّى لكم. فقال النبي: أجيبوه! قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان:
يوم بيوم بدر والحرب سجال وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني!.
هكذا كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يدير الحرب الإعلامية بعفةٍ وأدبٍ وطهارةٍ واحترامٍ وصدقٍ وهدوءٍ واعتدالٍ دون إسفافٍ في الكلام أو فجورٍ في الخصومة أو خنوعٍ للتهمة أو رضىً بالدون!.
ولادته ورضاعته وحضانته صلى الله عليه وسلم:
ولد صلى الله عليه وسلم في مكة، عام الفيل الذي نصر الله فيه بيته على عدوه من الحبشة - بقيادة أبرهة الذي أراد هدم الكعبة - نصرًا لا صنع للبشر فيه، إرهاصًا وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي ولد في مكة، ونبت فيها، وتعظيماً للبيت الحرام.
ولد صلى الله عليه وسلم يتيماً ثم ماتت أمه ولمَّا يستكمل إذ ذاك سبع سنين، فأوصد الباب في وجه الذين يفترون الكذب، إذ قد يزين لهم الشيطان زخرف القول بأن محمداً زرع أبويه وثمرة تربية وتنمية أسرية!. ثم كفله جده عبد المطلب وتوفي ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمان سنين، ثم كفله عمه أبو طالب واستمرت كفالته له، فلمَّا بلغ ثنتي عشرة سنة خرج به عمه إلى الشام حيث رآه بحيرى الراهب، وبشَّر عمه بأنه سيكون لابن أخيه شأن عظيم (أي النبوة)، وأمره ألا يقدم به إلى الشام خوفاًَ عليه من يهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة!. وقد استغلَّ بعض المستشرقين الزيارة الخاطفة لبصرى، ليزعم أن محمداً ابن اثني عشر ربيعاً قد أخذ عن بحيرى الراهب علم الكتاب الذي عنده، وبنى عليه دعوى النبوة! ولكنَّ آيات القرآن كانت تتنزل على محمدٍ نجوماً بحسب الوقائع والأحداث المستجدة، فهل أحاط بها بحيرى علماً؟! وهل أخبر بالغار وببدرٍ وأحدٍ وحادثة الإفك وغيرها من الوقائع التي نزل القرآن بشأنها؟. وكان من الإنصاف وقد بنوا على واقعة لقائه ببحيرى أن يأخذوا بكل تفاصيلها، وفيها البشارة بنبوة محمد والإقرار بها، فلماذا يتقوَّلون عليه بأنه استفاد دعوى النبوة من راهب بصرى، ويغمضون أعينهم عما ورد في الواقعة التاريخية من بشارة الراهب لعمه!؟.
شبابه ومشاركته قومه في معاليهم صلى الله عليه وسلم:
ولما بلغ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين سنة خرج إلى الشام في تجارة فوصل إلى "بصرى"، وهي أقصى ما وطئته قدماه من أرض الشام. ثم رجع؛ ليتزوج عقيب رجوعه خديجة بنت خويلد بنت الأربعين، وهي التي خطبته لما عرفت من صدقه وأمانته وبركته في رحلته التجارية، وكان قد خطبها أكابر قومها فأبت، وهي أول امرأة تزوجها، ولم ينكح عليها غيرها حتى ماتت، وأحبها حباً عظيماً لم ير مثله، ووفَّى لها في حياتها وبعد موتها.
وحُبِّبَ إليه قبل بعثته الخلوة والتعبد لربه، وكان يخلو بـ "غار حراء"، يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وبُغِّضت إليه الأوثان ودين قومه فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك، وهاتان أمارتان من أمارات النبوة: الخلوة وبغض الأوثان، فتدبر! وقد اجتنب محمد ما كان عليه قومه من رذائل الجاهلية وأوضارها، فلم يغمس يده في شيءٍ منها، إلا إنه أسهم في حلف الفضول الذي عقد لنصرة المظلوم، وحرب الفجار، وبناء الكعبة، ونحو ذلك من مآثرهم.
فلما كمل له أربعون سنة أشرق عليه نور النبوة، وأكرمه الله تعالى برسالته، وبعثه إلى الناس كافة: أبيضهم وأسودهم عربيهم وأعجميهم، منذ اليوم الأول من دعوته، ولم يتطور خطابه الدعوي - كما يحلو لبعضهم أن يزعم -، تمشياً مع ظروف دعوته ومدى نجاحها، أي أنه خصَّ به قومه، ثم لمَّا اتسعت دولته كبرت طموحاته، وصبغ دعوته بالصبغة العالمية.
وكان مبعثه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثمان مضين من ربيع الأول على قول الأكثرين سنة إحدى وأربعين من عام الفيل. وفي يوم سابعه ختنه جده عبد المطلب، وصنع له مأدبة، وسماه محمداً، وهو اسم لا تكاد العرب تعرفه، وأرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أياماً، ثم أرضعته حليمة السعدية، وحضنته أمه آمنة بنت وهب، والفاضلة الجليلة أم أيمن بركة الحبشية. ولا يلتفت إلى الروايات الواهية التي تزعم أنه ولد مختوناً بل ختن على عادة العرب، وكانت ولادته عادية كسائر البشر، غير إن بعض الأخباريين والقُصَّاص أحاطوها بالخوارق، وبالغوا فيها، يقصدون رفع منزلته، فأساؤوا ؛ لأن مقامه عالٍ رفيع الدرجات، ولا يحتاج إلى حشو السيرة بالأوهام والمبالغات أو لعلهم أرادوا بذلك أن يضاهوا بولادته ولادة سيدنا المسيح عليه السلام، وغاب عنهم أن رسول الله لم يبعث بالخوارق ولكنه بعث برسالةٍ تخاطب العقل الإنساني، وتتحداه، وتقدم مفهوماً جديداً للإعجاز، افتقرت إليه الرسالات السماوية السابقة بسبب تغير الزمان وتطور بني الإنسان.
ساحة النقاش