محمدٌ صلى الله عليه وسلم كأنك تراه:
تعريفٌ عامٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم
أبيض أزهر اللون ليس بأبيض، ولا آدَم، مستنير مشرق الوجه مشرب بياضه حمرة كأن الشمس تجري في وجهه، أسيَل الجبين، مسنون الخدين، وجهه بين الاستدارة والإسالة، إذا سُرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، مليحٌ كأنما صيغ من فضة، لا أوضأ ولا أضوأ منه. وصفه جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان (مقمرة)، وعليه حُلَّة حمراء، فجعلتُ أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر، فإذا هو عندي أحسنُ من القمر". عظيم الهامة، ضخم الرأس، واسع الجبهة، أكحل العينين وليس بأكحل، أهدب الأشفار، مستقيم الأنف، أقنى أي طويل في وسطه بعض ارتفاع، مع دقة أرنبته (ما لان من الأنف)، واسع الفم جميلُه، من أحسن عباد الله شفتين وألطفهم ختم فم، أشنب (مُحَدَّدُ الأَسْنانِ مع بَياضُ وبَريقُ) مفلج الأسنان بعيد ما بين الثنايا والرباعيات، إذا تكلم رُئِيَ كالنور يخرج من بين ثناياه. وكان في صوته صهل (بحة). من أحسن عباد الله عنقًا، لا ينسب إلى الطول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه يتلألأ في بياض الفضة وحمرة الذهب، وما غُيِّبَ في الثياب من عنقه فما تحتها فكأنه القمر ليلة البدر، بعيد ما بين المنكبين (عريض أعلى الظهر)، سواء البطن والصدر، عريض الصدر، من لُبَّتِه إلى سُرَّتِه شعر يجري كالقضيب، أشْعَر الذراعين والمنكبين، كَتِفاه عريضان عظيمان، ضخم الكفين ممتلئة لحمًا، غير إنّها ألين من الحرير، وأبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك. مرتفع الأخمصين، أملس القدمين ليس في ظهورهما تكسر، سشن الكفين والقدمين ليس بالطويل البائن ولا بالقصير.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا مشى أسرع حتى لكأن الأرض تطوى له، ليس فيه كسل، شديد الحركة، قوي الأعضاء غير مسترخ في المشي، وإذا التفت التفت معًا بجميع أجزائه، فلا يلوي عنقه يمنة أو يسرة، وعلى أعلى كتفه الأيسر خاتم النبوة، وهو خاتم أسود اللون، ويبلغ حجمه قدر بيضة الحمامة. رائحته أطيب من المسك، وعرقه كأنه اللؤلؤ، عن أنس خادمه قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَال (أي نام) عندنا، فعرِقَ وجاءت أمي بقارورة فجعلت تَسلُتُ العَرَق، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أم سُلَيم ما هذا الذي تصنعين؟ " قالت: "عَرَق نجعله في طيبنا وهو أطيَب الطيب"، وكان صلى الله عليه وسلم إذا صافحه الرجل وجد ريحه، وإذا وضع يده على رأس صبي فيظل يومه يُعرَف من بين الصبيان بريحه على رأسه. يقول جابر بن سمرة: ما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقًا فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرقه، وقد كنت صبيًا، فمسح خدي فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جونة عطار.
ويمتاز صلى الله عليه وسلم بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، لا ينطق إلا حقاً، ولا يقول إلا صدقاً، لم يجرِّب عليه قومه كذباً قط، قبل الرسالة ولا بعدها. وكان أعدل الناس، وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم أمانة صلى الله عليه وسلم.
وكان كلامه صلى الله عليه وسلم بَيِّن فَصْل ظاهر يحفظه من جَلَس إليه، وكان يُحَدِّث حديثاً لو عَدَّه العادُّ لأحصاه، ويعيد الكلمة ثلاثاً لِتُعقَل عنه، لا يُحَدِّث حديثاً إلا تبَسَّم وكان مِن أضحك الناس وأطيَبَهم نَفسًا، كثير التبسم، ولا يضحك إلا تَبَسُّماً، وكان إذا ضحك بانت أضراسه من غير أن يرفع صوته. طويل الصمت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، من رآه هابه، ومن خالطه أحبه.
قال خارجة بن زيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، كان ضحكه تبسماً، وكلامه فصلاً لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم؛ توقيراً له واقتداء به.
وكان صلى الله عليه وسلم حليماً لا يعجل، ولا يعاقب على السيئة بالسيئة، لم تعرف منه زلة، ولم تحفظ عنه هَفْوَة، يعفو عند المقدرة، ويصبر على المكاره، لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبراً، وعلى سفه الجاهل إلا حلماً، وكان أبعد الناس غضباً، وأسرعهم فيئاً.
وكان صلى الله عليه وسلم جواداً سمحاً سخياً ندياً، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ما سئل شيئاً قط فقال : لا. وكان أشجع الناس، لم يحفظ عليه فرة، وفر عنه الكماة والأبطال غير مرة في أحد وحنين، وهو ثابت لا يبرح، صابرٌ لا يتزحزح، لم يولِّ دبره لعدوٍ قط.
وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خِدْرها، وإذا كره شيئاً عرف في وجهه. وكان لا يثبت نظره في وجه أحد، يخفض طرفه، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة، لا يجابه أحداً بما يكره حياء وكرم نفس، وكان لا يسمي رجلاً بلغ عنه شيء يكرهه، بل يبهم، ويقول: (ما بال الرجل أو ما بال أقوام؟).
وكان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعاً، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويعمل بيده، و يَفْلِي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، بعيداً عن الكبر، يمنع الناس عن القيام له كما يقومون للملوك، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجلس في أصحابه كأحدهم، وكان – بأبي هو وأمي - لا يدع أحدا يمشي خلفه، ولا يترفع على غيره ولو عبده أو أمته في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أف قط، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره، ويدعو فيقول: " اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين".
عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم فأتوه فخلوا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال: (نعم) قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً قال: فدعا بصحيفة ودعا عليا ليكتب - ونحن قعود في ناحية - فنزل جبرائيل عليه السلام فقال: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 52)، فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ثم دعانا، فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، وهو يقول: {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}(الانعام 54).
وكان صلى الله عليه وسلم أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخَّابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح.
وصفه هند بن أبي هالة فيما يرويه عنه الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ـ لا بأطراف فمه ـ ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لايذم شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً ـ ما يطعم ـ ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها ـ سماحة ـ وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام.
وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره.
يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره. الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن، إذا انتهي إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوي، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، يتعاطفون بالتقوي، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب.
كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صَخَّاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه. قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رءوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا. لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، يقول: "إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه "، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ.
وعلى الجملة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كامل الوصف، منقطع النظير، وهذا سبب نجاحه في دعوته وسرُّ اجتماع القلوب عليه.
وهذه الخلال والخصال التي ذكرتها إن هي إلا غيضٌ من فيض وقطرة من بحر، والمقام لا يسمح بالتفصيل، وإنما أردت التمهيد للبحث فحسب.
ساحة النقاش