د. أمحمــــــد زغــــوان
كلية الآداب واللغات والعلوم الاجتماعية والإنسانيـة
قســــم الأدب العربي
جامــــعة د.مولاي الطــاهر-ســــعيدة-
حجـــــــــاج الشاعرية ومتاحـــاته
في قصيدة " ألا أين الرجولة ..يا لقومي " *
لمفدي زكريا
سؤال الحرية لا يتعدد بين السياسة والدين والثقافة، فالحرية لا تتجزأ فلا تكن تمارس إرادتك الحرة هنا، وتقبل باستعبادها هناك، وهذا المعنى الذي يتفق مع الحكمة المأثورة : '' حرّروا الحرية تحرّر لكم كل شيء ''، لأن أخوف ما يخافه العقلاء على الأمم الخوف لأنه رديف العبودية، ومن ذا الذي يحمي الخوف غير الخوف ؟، وحين يقول ت . س . إليوت بملكيته السياسة وكاثوليكيته الدينية وكلاسيكيته الأدبية هو يعرب عن حال من الاتساق والتناغم بين هذه الأقانيم، تقابلها حال مرضية من اللاتناغم حين يعرض الأديب موقفه في سوق النخاسة للتمليك أو الاستئجار، ويضع له ثمنا من عالم الأشياء، يرقص لكل عريس، ويصفق لكل رئيس، فتراه ليبراليا هنا، واشتراكيا هناك، وديمقراطيا مرة، وديكتاتورا أخرى، والسلطة عبر تاريخها لم تكن تحفل إلا بالبيدقة الثقافية حيث يتم استئجار تلكم " الماركات " المقلدة من أنصاف المثقفين وتلميعهم ليخرجوا بالنهاية أشبه بأحجار قطعة شطرنج: هامش المناورة فيها محدود، وحيز حركتها مغلوق، لأن قواعد اللعبة تقتضي نوعا من البرمجة المسبقة تتوزع الأدوار فيها بين لعب دور فيل، أو حصان ، أو قلعة، أو...
وترتيب القضايا بوضعها ذاك في عالم القيم تنم عن فهم مغشوش، ونظر عليل ربما تختزله تلكم القالة الممجوجة التي ترفع لأحد مصلحي الشرق العربي حديثا '' الشرق في حاجة لديكتاتور عادل '' فحضر الديكتاتور ولم تحضر العدالة، فمن بداهيات العقل أن النقائض لا تتعاين، فالعدالة غير العبودية، والعلم غير الجهل ، والحق غير الباطل، وإلا استوت الأنوار والظُّلَم.
وبين هاته الثنائيات الرأسية يتحرك الفكر الإنساني منفتحا على ذاته الكامنة في أفكار الآخرين عنه، فنسبية الحقيقة هي من يتوجب علينا أن نفاعل مقبولاتنا ومفروضاتنا الموروثة عن محيطنا من منطلق صواب وخطأ في الحدود الإنسانية المتسالم عليها والتي تبقي دوما على مساحة الحوار والنفس الودي، والبحث عن الأرضية المشتركة التي ينطلق منها الجميع باحثين عن الحقيقة الإنسانية التي تتشخص من خلال النقص الإنساني الكامن فينا من خلال معرفتنا المسبوقة على الدوام بجهل منسوخ بعلم, وسعينا الدءوب نحو تحصيل الكمال، ونهمنا الأبدي لمعرفة المزيد.
وبالمناسبة قد يكون هذا الآخر هو الوجه الخفي مني، أو هو المرآة التي أبصر فيها نفسي، والعكس أيضا يصح، فهاته ثنائية حلقية متكاملة لا متناقضة أشبه بالعملة بوجهيها، والمرء لا يبصر إلا بعينين، ولا يسمع إلا بأذنين، ولا يتحرك إلا برجلين... وهذه التوليفة بأجزائها وأقسامها تنتهي بالنهاية إلى كائن واحد رغم تركيبتها وتعقيداتها، فالجزء الآخر من الأنا، هو من يستلفتني إلى النقاط المعتمة في بعضي الآخر الذي هو مني وأنا منه، ولهذا قال الشاعر : إذا مات بعضك فابك بعضا = فإن البعض من بعض قريب
نقدم بهاته الفرشة بين يدي هذه الوريقات لنخلص إلى أن إشكالية السلطة (الأنانية ) والمثقف ( الآخر )، لم تقم العلاقة بينهما على العدل والإحسان فيما اطرد من أحوالهم، وإنما كانت العلاقة دوما متوترة، وسبب ذلك ــ بتصورنا ــ أن السلطة تحكمها المصالح والأغراض الدنيوية المتقلبة، وأن تعاطيها العلاجي يكون من نفس الزوايا الملتهبة المؤسسة للحقد والكراهية، أما الأفكار فتحكمها المبادئ والقيم، والسلطة يغلب عليها المزاج الإيديولوجي الذي ينضح بالنفس التعصبي المتبرم من سماع الرأي المختلف وإن كان المخالف شريكا في المواطنية، وقسيما في السقوف : سقف الأرض، واللغة والدين... ولهذا قيل الإيديولوجيا هي السجن الذي يأسر عقولنا، والثقافة : هي المحيط الذي تنشأ فيه تلك العقول، وإن استمرار العلاقة التنافرية بين السلطوي المتغول، والفكروي المتثقف قائدة حتما إلى فقدان الأنا الجمعي لوعيه بذاته وهي حالة من المشاعرية الشبيهة بصورة اللامنتمي التي عبر عنها " كولن ولسن "، أو كما وصفها عبد الله القصيمي وضعية الفرد العاقّ والمتمرد كما تصفه سيمون دوبوفوار حيث يشعر بآلام لا تطاق لانخلاعه عن السيّاق الحاضن الدافئ، لكنه مع ذلك يحتمل الوحشة والإقصاء، ليكون نفسه لا أحدا سواه.
إننا عندما ننفي جزءا منا على قاعدة خلافية نمارس نفي أنفسنا عمليا، فالكل ما هو إلا منظومة من الأبعاض بالنهاية. وحينها نجد المجتمع بكامله ينحدر نحو هاوية فقدان الثقة بالنفس المتولدة عن الروح الصدامية النافية للآخر المختلف فكريا عنا، مثلما نحن نختلف عنه، وإقرارنا له بحقه في التعبير عما يراه حقا له، هو في الوقت ذاته موقف اعترافي منا بحقنا نحن أيضا في التعبير والتحرير والتفكير، مما يشيع جو التآلف والمودة والثقة، وفي القالة العمرية ترجمان هذا المعنى عندما يقول لمنتقديه " لاخير فيكم إن لم تقولوا ولا خير فينا إن لم نسمع.
إن أمة تفقد ثقتها بنفسها يتهددها الخطر الماحق في وجودها ككل، ومن علامات ذلك أن ترى أهلها يزايدون على بعضهم بعضا في الوطنية والمجتمعية والثقافة، ويتناكرون بينهم، ولا يرعوون عن تبادل مفردات التخوين والعمالة والجهالة، عوض التغافر والتعانق وترك المساحة للرأي الحر السمح في حقل البناء والإنشاء والعمارة دون وصاية على أفكار الناس ومعتقداتهم، وإن ذياع هاته المهاترات لا ينشأ إلا في ظروف التراجع، وفترات التقهقر وتلكم متلازمة يثبتها التاريخ، ويدلّ عليها واقع المجتمعات.
إن هاته التوطئة هي ظلال للقصيدة، أو هي الجانب المسكوت عنه الذي لم تقله لغتها، ولم يفصح عنه منطوقها وبإمكانك أن تستحضره من قراءة أبياتها، وسعيك إلى كشف ما تحتها من معاني، فالرجل كان يمتلك رؤية لم يشأ أن يبيع فيها أو يشتري، غنّى للبيضاء في أعراسها، وأتى عليه حين من الدهر وجد نفسه يبكى العرس في البيضاء، وأعرب عن ذلك بمخالفته السلطة القائمة يومها في توجهاتها، ورفضه تبني خياراتها، ولم ينافقها ــ أيضا ــ على حساب قناعاته، وآثر الفراق على الاختراق، واختار خندق المعارضة وهي أعلى درجات الوطنية ، قال بعض الساسة: المناضل المثالي هو من إذا وصل حزبه إلى سدّة الحكم عاد معارضا له، فمن يملك الأمر لا يبصره، ومن يبصره لا يملكه، وحب السلطة وإدمانها يعمي ويصم، وشأن الناس أن يتكاثروا عند المغنم، ويقلوا عند المغرم، ولهذا يكثر في محيطهم المتزلفون والمتملقون، وحارقو بخور الثناء والمجد.
في القصيد الذي بين أيدينا يحاجج الشاعر ابتداء بالشباب فهو المستقبل الذي يصنع في مخابر الراهن وتجاربه، وأجوائه ، وبالتالي لن يكون المستقبل غير الحاضر، كما أن الراهن الذي نعيش في محيطه وسياقه ما هو في الحقيقة إلا الابن الشرعي للماضي، ويتسق هذا مع حكمة المعري : هذا ما جناه علي أبي = وما جنيت على أحد.
رأى المعري أن حاضره هو ثمرة ماضيه الموروث عن أبيه، ولما لم يكن راضيا عن واقعه وراهنه قرر في لحظة بئيسة أن يقطع هاته الاستمرارية ويمنع تلكم الصلة بالإضراب عن الزواج فلا يكون منه خلف في مضاددة للحكمة العربية القائلة '' من خلّف ما مات ''، ونحن نلتقط هذه الرمزية لا بمستواها البيولوجي ولكن بمستواها المعنوي الحضاري والثقافي، فاستمراريتنا الحضارية التي بمعنى الحضور في الحياة، وفي ساحات المشهد العالمي تكمن حكمتها في تنشئة أجيالنا المتقدة العزائم، العالية الهمم، حتى نعطي لوجودنا معنى يتفق مع المكانة والمنزلة، وعلى هدي هذه المعاني يستهل الشاعر مفدي زكريا دعوته للقائمين على الشباب وأموره فيقول :
<!--حجاج الشباب
دعُوا الأَمـْجـَاد تَحتضِنُ الشَّبَابَـا ** وتُوقِظ في ضَمِيرهُم الصَّوابَــا
وتَنْسِفْ من مَدَارِكِهِمْ شكوكًا ** وتكْسحْ عن عقولهم الضَّبابـَـا
وتسمُ الروحُ فِيهمْ والحــَنايـَــــا ** وتلبَسْ مِن أصَــالتهما إهَابَـــا
إذَا ذُكرَ الشَّبَـــابُ....رأيت فيه ** رَجَاء غدٍ....إذا قَرَأَ الحِسَــابَـــا
وأُشربَ من عَقِــيدَتــه مَعِينــا ** وأُلـهِمَ مِن أصَـــالته اللَّبَــــابَـــا
الشباب نصف الحاضر وكل المستقبل ودم الحياة في الأمة، ومصدر الفاعلية والعطاء فيها، تاج رأسها، ومودع عزها، موقعه من الجسم الجمعي موقع القلب من الجسد، هو المضغة التي إن صلحت صلح بصلاحها الجسد كله، وإن فسدت فسد بفسادها الجسد كله، فهو أس الرموز السيادية في الأوطان، وشعار الكرامة ومضمونها الذي يحفظ ويصان.
تلك هي الدافعية المبدئية التي ينطلق منها الشاعر في تحديد موقفه من قضية مصيرية على درجة من الخطورة والأهمية كونها تتعلق ببناء الأجيال، وتشييد صرح الأمة، وأعلى درجة الوطنية أن يصدق الرائي أهله، ولا يكذبهم، ولا ينافقهم فهم جميعا تحت سقف مواطنية واحدة، وأن هذا السقف إذا سقط لا يفرق بين رأس ورأس، وكبير وصغير، والمهم من هذا كله أن يقول الشاعر ما يعتقد أنه حق، ويرى فيه الخير والصواب.
يبدأ الشاعر القصيد بسرد تقريري توصيفي تصالحي متسالم عليه اجتماعيا لا ينكره عاقل، ولا يختلف عليه اثنان بل هو من الأصول العامة التي تتآلف ولا تتناكر في أعراف الأمم والشعوب، مما يعني أنه يمهد للبناء عليه، فهو في هذا المقام أقرب إلى التقديم منه للعرض المعلن عن الموقف، فهو يفتتح القصيد بفعل أمر غير حقيقي ـ كما يقول أهل البلاغة ـ يثبت من خلاله مبدأ عاما مقررا عند الجميع كقناعة، وهو في ذلك كله يلتمس ألا يحال بين الشباب وبين الحاضنة التي يفترض بها أن تتولاه بالرعاية والحماية لينشأ ماجدا من صلب أماجد، ولربما نخاله تمثل قول من قال ولو من باب توارد الخاطر : وينشـأ ناشئ الفتيان منـا ** على ما كان عوده والداه
ما دان الفتى بحجى ولكن ** يعــوده التدين أقــربوه
ولقد قالت العرب في أمثالها الابن نسخة من أبيه، وهذا الشبل من ذاك الأسد، وليس في عالم المتمثلات الأسد وحده، ففي ذلكم العالم توجد الضباع أيضا، وشبل الضبع من ذاك الضبع أيضا متى أجرينا المفاهيم على عيار المخالفة، وموازنة القضايا بمقابلاتها، فالشباب لن يحصد غير ثمار ما زرعه سالفوه على قاعدة : غرسوا فأكلنا، ونغرس ليأكلوا وهنا نرى من الفائدة بمكان تقديم فرض من الفروض التي يمثل بها مالك بن نبي لاستيضاح هذه القاعدة ويمحوره بالصورة التالية:
المحور الأول: محور واشنطن موسكو حيث أن نسبة المولود على هذا المحور من '' التعليم وحدود الرعاية الصحية في طفولته مثلا حيث الرعاية منذ الحضانة، وكذلك الضمانات الاجتماعية قبل الولادة، فتقدم للأم ما يمنح الجنين أفضل الظروف، لذا تتحقق له نسبة من الحظوظ في التعليم وفي الرعاية الصحية بوصفه طفلا، ثم في العمل رجلا فوق 90٪، وهذه هي نسبة الأشياء في المحور الشمالي الذي أطلقنا عليه محور واشنطن ـ موسكو.
الآن لنأت إلى الفرض الثاني : فإذا قرر الطفل أن يولد على محور طنجة ـ جاكرتا، وقبل أن نتساءل عن اسمه ولونه وإمكانياته الجسمية والعقلية قبل أن نتساءل عن هذا كله، فهو قبل هذا كله يقع مباشرة بمجرد ولادته تحت قانون الأعداد الكبيرة، كما يقولون، أو كما يسمونه القانون الإحصائي، وسيكون له في محور طنجة ـ جاكرتا من الحظوظ 40٪، في التعليم، أما الرعاية الصحية فأقل من ذلك 25 ـ 30٪، أما في العمل فيكفي أن نقول : إن بلدا مثل الهند فيها 85 مليون بطالة، لذا فالحظ في العمل سيكون أقل من 20٪، ونضيف ( إلى أنه إذا ولد في الهند سيكون له 25٪، من الحظ ليكون منبوذا، لأن 85 مليونا من المنبوذين يعيشون في الهند ، أي ربع السكان، وهذا يعني أن 25٪، من مواليد الهند سيكونون منبوذين بطبيعة الحال '' (1).
إن التنشئة الطبيعية للفرد تقتضي توفير ظروف طبيعية له منذ نعومة أظفاره : تربية وتعليما وصحة وتغذية، وترفيها... وجملة مفردات
العيش الكريم، والحياة الإنسانية الشريفة، فالعظماء يسلكون طرق العز منذ الصغر ومن أيامهم الأولى، وفي الحديث الشريف: يولد المولود على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه.
هاته المعاني الإنسانية الخالدة فهمتها الشعوب والأمم ونظّرت في ضوئها لثقافة التنوير والإحياء التي انقدحت عنها حركة البعث العلمي الحديث، فلقد نقل عن شارل ديغول مقولته المشهورة: " أعطني تعليماً جيداً أعطيك بلداً حراً "، وينسب للإمبراطور اليابانى هيروهيتو قوله بعد هزيمة اليابان المشلّة بفعل قنبلتي " هيروشيما ـ وناغازاكي " : لقد هزمنا على مقاعد الدرس قبل أن نهزم فى ساحة الحرب "، فتوابع الحدث لا ينبغي تجريدها عن سوابقه، وفي الأمثال الشعبية المصرية " قدّم السبت تلاقي الأحد ".
والشاعر يطرح بدوره في هاته الأبيات برنامج عمل يهدف لبناء جيل التغيير المنشود، والنصر الموعود متجاوزا به خطاب الأمنيات، ويمكننا التأشير هنا تحت حزمة من المفردات الأشبه بالكلمات المفتاحية تنقدح من خلالها سياقات ومسطرات لمضامين لا حصر لها، والكتاب يقرأ من عنوانه ـ كما يقال ـ : [ الأمجاد / الشبابـا / توقظ / ضميرهم/ الصوابــا / شكوكا /عقولهم / الروحُ / أصـالتهما / غد/ قرأ الحسابا / عقيدته معينا/ اللبابا ]، وهي بمجملها تشي بتوجه عام يتغيى إرادة العافية الاجتماعية، والسلامة الثقافية حتى تتيقظ ضمائر الشباب عقيدة ، وفكرا، وموقفا... فمجد الأمم ارتبط بشبابها، فهو سن العطاء والبذل والتضحية، وفي الحديث النبوي المشهور '' استوصوا بالشباب خيرا، فإنهم أرق أفئدة ، وإن الله بعثني بالحنيفية السمحة فحالفني الشباب، وخالفني الشيوخ ''، فالشاعر يربط بناء الأمجاد بالشباب وهو ما يثبته الواقع العملي، ويبرهن عليه التاريخ فكل الثورات والنضالات عبر المنحيات التاريخية كان الشباب وقود معركتها ، وملهم روحها، وهذا السر في تركيز الشاعر على دور الشباب وضرورة العناية به، وتحصين منابته الثقافية، وتجذير صلته بأصالته لينشأ الجيل يقظ الضمير مستنير الفكرة عقلائي الطرح ، يلتمس نماذج القدوة والاتساء على أساس من لبّ خلفيته الثقافية التي تتيح له أن يميز سداد رأيه من خطئه على هدي الكتاب الذي يفتح الأعين : أعين البصائر على الآي في الآفاق والأنفس، فيثمر ذلك كله نسفا للشكوك، وإزاحة لضباب العقول، وسموا بالروح مما يولد لدى الشباب فخرا بالأصالة وتأكيدا لهوية الانتماء والاعتزاز بالأنا الجمعي بعيدا عن السطحية والقشرية التي تلامس ظواهر الحقائق وأشيائها دون جواهرها ولبابها، فلا يكفي كما يقول مالك بن نبي أن نقول الصدق إذا كان المخبَر لا ينبئ عن المظهر، ولا الشعار عن الدّثار، فلا نقل : 2+2 = 4 ، ويرى غيرنا أنها ثلاثة ومع ذلك يأكل مما ينتج ، ويلبس مما ينسج، ويفاعل حياته العامة بنمطية تطرد فيها كل عناصر القوة ، والتجدد سعيا إلى سحب الانتصارات والنجاحات على كل مفاصل الحياة، والتنافس حتى على التحسينات مع أنها مجرد جزئيات في حياة الفرد والجماعة. بينما لا نزال نراوح مكاننا مترنحين بين أحسن التنظيرات التي تنسخها تباعا أسوأ التطبيقات التي تنحدر فينا عن ثقافة التصلب والجمود التي شانَها القرآن الكريم '' )إِنا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ23((الزخرف).
إن الاستثمار الحقيقي عند المجتمعات الحية يكون في الشباب فهو رأس مال الخير فيها، على سواعده ينهض الحاضر، وتشاد صروح الغد، وهم عدتها التي تلجأ إليها لأجل كشف الحساب كلما ادلهمت الخطوب، وإلا كانت أمة بلا رصيد يتوقع لها حالة إفلاسية يتحول شبابها فيها عبئا على الأمة، وجزءا من المشكلة عوضا أن يكون جزءا من الحل، فمن يشرق بالماء، ويمرض بالطعام يترجم عن وضع غير طبيعي ما يرى عاقل معنى لاستمراره.
<!--حجاج التاريخ
وَعَنْ مَــاضيه ـــ لم يَقْطَعْ طريقًا ** وَيلتحق المظـــَـاهِرَ والسَّرَابــَا
ومَنْ لم يَـرْعَ لــلأجـــدادِ عهــدًا ** فيجحد صَــانِعي الأجْيالِ خَابـَــا
ومَن يَذبحْ كَرَامَتـــَــه ويَهْـــــدَرْ ** ذِمَامَ بُنـــاةِ صَرحِ المجْدِ... ذابـــــــــا
وفي الأرحامِ... والأصْلاَب مِنَّا ** ومنكم حُرمــَـةٌ كملتْ نِصــَابــا
وفي التاريخ ...موعِظَة وذكرى ** إذَا مـا الحرُّ للحُسْنىَ استجابا
إن من فات تاريخه وماضيه تاه، وفاقد الذاكرة الذي يرهن حركته داخل سياق الآني والراهن مريض أدعى لإثارة الشفقة والعطف، وأنسب مكان له هو مشافي الأمراض العقلية، لأنه يفقد بفقدان ذاكرته القدرة على بناء الخبرة الماضية التي تتيح له الاهتداء وتحديد الوجهة في ضوء التجارب السابقة، ومن لا يعرف البداية يجهل النهاية حتما، فأقرب مسافة بين نقطتين هو الخط المستقيم، ونقطة البدء هي الأصل لنقطة النهاية، إذ لا معنى لوجود مسبوق بعدم في عالم الأشياء والأوضاع، والشاعر في تقرير هذا المعنى يتوسل بالفعل الناجز بمعطى الحضور انطلاقا من توظيف دلالة حرف ( لم ) وما ينضمر فيه تلميحا من إشارات مثل الجزم: ومنه جزم الشاعر من خلال المتاح لغة بحرص البعض على نفي الحاضر ليكون مسخا شائها كونه نسخة مقلدة، وفيها ما فيها من قلب للأوضاع والقوانين، وحينها يغدو الحاضر لفظا مجردا من معناه، ونفيا في معنى الحضور، ومن آثار ذلك وجود النفسية المنهزمة داخليا، فلا أحد يركب ظهر أحد إلا أن يحني أحدهما للآخر ظهرا، هاته الجرثومة الفاتكة هي التي حذر منها فيلسوف الحضارة في حديثه عن قابلية الداخل لاستعمار الخارج، ومنشؤها عقدة النقص، فالجسم لا يصاب بالفيروسات إلا إذا كانت عنده قابليات واستعدادات تؤهله للإصابة والعدوى، ويحسن هنا التمثيل بما أورده مالك بن نبي كمثال يتساوق والعرض الذي نحن بصدده ومؤداه : '' كان في أوائل القرن السابع عشر سفير لملك إسبانية كارلوس الخامس، وكان سفيرا في المملكة التي نسميها اليوم ( المملكة المراكشية ) كان يكتب تقريرا دبلوماسيا حسب مصطلحات العصر لملكه فيقول: " مولاي... إن الأمور تجري هنا في مراكش كأنما الله يريد أن يهيئ لك السبل " طبعا هو أيضا يفقد هذا المصطلح الذي نحن صنعناه , لكن لماذا صنعنا مصطلح القابلية للاستعمار لأن التاريخ صنع مصطلحا قبلنا أطلقه على أوضاع معينة تحت اسم الاستعمار فكان من واجب المسلمين أن ينتبهوا إلى أن الاستعمار هو مجرد بذرة صغيرة حقيرة , ما كان لها أن تنبت و تِؤتي أكلها لو لم تهيأ لها التربة الخصبة في عقولنا و نفوسنا '' (2).
وإن تعجب من أمس فعجب اليوم أعجب ! حين نرى المغاربيين عاجزين عن تشكيل لوبي عربي في فرنسا يحسب له حساب في الانتخابات الفرنسية وهم كثرة متكاثرة تصل إلى حدود ستة ملايين، يزحمون الأرض من كثرة ، ولا يغنون في أمر جلل، فهم ألف كأفّ، وردّ البعض سبب ذلك إلى تلكم القابلية التي لا تزال تكبل أرواحهم، وأنهم لا يزالون يتصرفون كمستَعمَرين ( الأهالي )، فهم مجرد أعداد كبيرة، أو يمكن اعتبار ذلك ــ على رأي مالك بن نبي ـــ حالة تكديسية تطبعها السلبية والغثائية التي حذر منها النبي ( صلم ) وهو يستشرف مستقبل الأمة بعده من وراء ستر رقيق، بينما الجالية اليهودية هي دون المليون ومع ذلك لها فاعلية وفعالية تجعل الساسة الفرنسيين يحسبون لمواقف رضاها أو سخطها ألف حساب كلما حان موعد الانتخابي، فيسترضون ، ويخطب ودّهم ، ويتقى سخطهم وغضبهم.
وربما مثل الشاعر في أبياته لهاته القابلية من خلال توظيف الفعل المضارع لأن له ما يشبه تلكم القابلية والتأثر بغيره من الحروف إلى الحد الذي يحول دلالته من معنى الحضور والآن إلى عالق دلالي قابع في الماضي، في حين لا نرى للماضي ولا المستقبل مثل هذا التأثر والقابلية لأن لهما معنيين غير متحصلين في الراهن، فالماضي كتلة صلبة لا يتعامل معها إلا من حيث استدعاؤها ورصد فاعلية تأثيراتها في الحاضر، أما المستقبل فهو غد متأمل لا يتوصل إليه إلا من خلال إنجازات الحاضر التي هي فاعلة في عمقه إيجابا أو سلبا، على اعتبار أن الحاضر ثمرة لمراكمة من المنجزات الماضية، ونفس الشيء يقال عن المستقبل، فالمرء مثلا في سن الكهولة يرى أنها توليفة مركبة تركيبا مزجيا تتداخل فيه سنون الصبا، مع اليفاعة، والشباب، وهي مراحل لا يمكن القفز عليها بحال، وهنا لا نتحدث عن الطبيعة والنمو الجثماني فقط، وإنما ينصب حديثنا عن الظلال المصاحبة لهذا التجلي في الثقافة والتنشئة والتربية التي تلقفها الأجيال من أيامهم الأولى.
يستحضر الشاعر هنا منظومة مفرداتية تحوي مقاربة مضاددة تقوم على خطين متقابلين ضمن مجموعات يطرح من خلالها المشكلة، ويردفها بتصور محدد المعالم يضعه ضمن إطار مبادئ عامة تشابه معنى النفي والإثبات في المنهج القرآني : ( لا إله ) نفيا + ( إلا الله ) إثباتا.
المقــــــاربة الضرار:
<!-- م1 . [ المظــــاهر /السرابــا / الجحد ] : في هذا المستوى المقابل نجد أنفسنا أمام حالة متشنجة تمتح بالمظاهر الزائفة التي
تنطوي على السراب الخادع الذي يخلص بنا إلى وضع عقوقي جحودي يصادم التاريخ والأجداد، والبناء... ويعرب الشاعر عنها نسقا على حركية الحدث والفعل في المجموعة الثانية
<!-- م2. [ لم يرع / خابـــا / لم يقطع ] : إن التقصير في مراعاة عهد الآباء ، والعجز عن تفعيل نقط القوة في ثقافتنا يقع
تقصيره على رؤوسنا، ويرهن مصير أجيالنا، ويزرع في محيطها خيبة وانسلاخ، وقطيعة فظيعة مع الذات والانتماء عاصفة بالأمة وذاهبة بريحها.
<!-- م3. [يلتحق / يذبح /يهدر/ذابا ...] الشباب على عفوه وصفوه لا ينفك تتربص به الغيلان الساعية بالسوء، لأن
الخصم المهيمن ثقافيا يعلم ابتداء أنه مركز القوة في أي مجتمع، والحلقة الأضعف في ذات الوقت، وإن لم يجد من محيطه التحصين اللازم، والتطعيم الكافي يكون عرضة للاستلحاق والاستلاب، ومن مظاهر ذلك وعوارضه أن ( يقطع ) الشباب حبال الوصل بجذوره ، و( لم يرع ) عهد الأجداد حالفته الخيبة وقادته إلى ( يذبح ـ يهدر ...)، وهي أفعال دالة على أحداث مفتاحية لأفق واضحة معالمه، معروفة عواقبه فهو إذا التحق بالآخر فقد بمثل هذا الاستلحاق أناه الحضاري، وذاب في كيمياء غيره، وانطلت عليه خدعة المظاهر، واستلبه السراب، ويكون أشبه بالبوق ينصب الصوت له، وهو من غيره، والشاعر يستحضر مصادق العبرة والعظة في التاريخ ـ مثلما سيأتي بيانه ـ، وشأن العقلاء الأحرار الأخيار الاتعاظ بغيرهم، وديدن الحمقى والأغبياء الاعتبار بأنفسهم.
المقــــــاربة الأصل:
<!-- م1 [الأرحام/ الأصلاب/ حرمـــة ] تستحضر هذه الألفاظ بمعانيها الحكمة النبوية في الحديث القدسي في الثقافة
الإسلامية أن الرحم استعاذت بالله من القطيعة ( قطيعة الرحم )، فألقى الله في روعها أني اشتققت لك اسما من اسمي، فأنا الرحمان، وأنت الرحم، أما يكفيك أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك "، وعليه فلأرحامنا حرمة يجب أن ترعى، وعهد يجب أن يحفظ، وإلا كنا أبناء عاقّين ناكثين، فالأجيال يفترض أن تتكامل وتتواصل في دورة الحضارة لا تتجافى وتتقاطع ما دام المصير واحد، والله تعالى يمتدح مثل ذلكم التواصل الرسالي الفاعل )ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) (آل عمران.
<!-- م2 [ المــاضي/ الأجـــداد / التاريخ ]
الماضي جزء منا، وأجدادنا ينبضون بعروق الحياة فينا، وحركتهم في التاريخ المتوارثة
جيليا بعتمتها وإشراقها، وقوتها وضعفها تشكل المعامل التاريخي ، فسحب التجربة التاريخية يعني أن الأفكار لا تسبح في فراغ افتراضي بل في وسط يؤسس لمرحلة بعدية هي الحاضر .
<!-- م3 [ عهــد / صــانعي الأجيال/ بنـــاة / مجد ]
لا يعلم إلى اليوم أمة على وجه الأرض لا يزال زخم التاريخ حاضرا فيها
بقوة، وفاعلا فعلا نشطا كالأمة العربية، والشاعر يطرح هاته القضية بكثير من الفخر بالماضين والعادة تجري بأن يفخر الناس بمآثر آبائهم الأقدمين، وفي نفس الوقت هناك دعوة لاستلهام تجربتهم الطويلة التي تأخذ شرعيتها ـ في رأي الشاعر ـ من النجاحات الماضية فهم بناة صرح، وصناع أجيال، وبيننا وبينهم عهود يفترض أن تلتزم على قاعدة من قال : نبني كما كانت أوئلنا = تبني ونصنع مثلما صنعوا .
<!-- م4: [موعظة / ذكرى / الحر /الحسنى / الاستجابة ] ويخلص إلى أنه في حياة الأمم مقامات للعظة، وأخرى للقدوة فالحر من يحسن الاستجابة في مستوييها : تلافي نقاط الضعف، والإفادة من نقاط القوة.
<!--حجاج الأخلاق والحاجة إليها
هِي الأخلاقُ...في الدُّنيا دَليلٌ ** إلى دَرْبِ العُلَا تحــدو الشَّبَابــا
هِي الأخلاق مُعجزةُ البـَـرايــَـا ** عَلَى هـَامَـاتِهـا تَطـَأُ السَّحَــابـَا
وتبْنِي صــرحَ عِـزَّتـهـا شُعوبٌ ** فتحْدِثُ في الدُّنَا.. العَجَبَ العُجَابَا
((وليس بعامرٍ بُنْيـــانُ قـــــــومٍ ** إذا أخـــلاقُهم ...كانتْ خَرَابـــَا))
يقرر الشاعر في هذه القطعة من القصيد حقائق لا يختلف عليها ولو من حيث النظرية لأنها لبنات أساسية يقوم عليها بناء الأمم والثقافات، ويستقيم بها اجتماعهم وعمرانهم، وأصاب من قال في هذا المعنى :
إذا الورود خلت من طيب نفحتها ** فلا تزاحم بها في الأرض بستانا.
يبدأ الشاعر بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات الحالة، واستمرارها في الزمن، وأن لا استثناء هناك يخرم هاته القاعدة العامة، ( هي الأخلاق ) فحادي الشباب إلى درب العلا هي الأخلاق إن اتخذت في الدنيا دليلا ومنهجا، فالأمانة خلق، والعدالة خلق، والحرية خلق، وحب الخير للخلق خلق، وإحسان العمل وإتقانه خلق، وتعلم العلم ونشره خلق ... هذه هي أعلى سقوف الخلق الإنساني في أمثل نماذجها، والتي تغدو الرافعة التي ينهض بها بناء الأمم وحضارتها، إنها معجزة الحق في الخلق أن تحيى الأمم بمقدار ما فيها من الأخلاق الحية، وتندثر وتتعثر في سيرها بمقدار ما تتنكب صراط الأخلاق، وقد ضرب القرآن الكريم أمثلة للأمم السابقة التي فنيت ودمرت تدميرا، ووقع تقصيرها في حق أخلاقها على أم رأسها، فأصبحت أثرا بعد عين كونها أجرمت وخانت بذلك روحها وحياتها وإنسانيتها التي تحيى بها، وقد يمدّ الله في أعمار الجاهليات بمقدار ما فيها من خلق وخير، ويمكِّن لها ما استقامت عليها حتى لو كانت تلكم الأخلاق نفعية مصلحية، تبقى أخلاقا وإن اختل فيها عنصر المقصدية، وكثيرا ما يردد الناس : " إن الله ينصر الدولة العادلة، ولو كانت كافرة على الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة مستدلين بقوله تعالى) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ117 ( [هود:]، فالله تعالى جده وصفهم بالمصلحين ، ولم ينعتهم بالصالحين فسنن الله في الإعمار والإنشاء لا تحابي أحدا، وإن الظلم سالب للصفة الإسلامية، وبينه وبين الشرك نسبا وتلازما، فإذا أردنا أن ننسب الشرك، لقلنا : إنه الابن الحرام للظلم منه انحدر، وعنه صدر )إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( [لقمان:13].، وما تراجعت الأمة الإسلامية إلى مواقع متأخرة حتى عن أمم لا دين لها، وما انحسرت أفكارها وأدوارها إلا بعد انفرط عقد الأخلاق بينها، فلم يعد لها اليوم في عالمنا صوت يسمع، أو موقف يحفظ، وعادت تشرعن للظلم والظالمين، وتدين الله بتزلفهم، وموالاتهم والله يقول: ) وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) ([ الجاثية ]. )لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 124( [ البقرة ]. إن المعيار الأخلاقي هو مصداق الشهادة بالحق للأمة أو عليها.
إننا لا ننتظر بناء ولا نهضة إن لم يفعّل عنصر الخير في الشباب حتى نبني إنسان الله المختار علما، أخلاقا، وآدابا، فالشعوب إن لم تسر فيها روح العلم والخلق الكريم، والسلوك القويم، سادت فيها ثقافة القطعنة، وتحولت إلى أسراب صراصيرية لا يجمع بينها لا انتماء ولا تعْلُقها حاجة ، ولا يربطها ببعضها رابط من خلق أو دين، فيشيع فيها من الفساد والضلال ما تفرق في غيرها، وما لا يوجد حتى في عالم الحيوان، فالإنسان بدون خلق حيوان غرائزي أناني، ومن خصائص الغريزة أنها عمياء بكماء، ولا بد لها من ضابط عقلي أو شرعي، وإن كان علماء الحيوان قد قالوا إن الإنسان أدون الحيوانات غريزة، وأنه لو وضع في ظروف الحيوان العادية لهلك لأنه أقلها تسلحا بالغريزة مقارنة بغيره من الحيوان، وعليه فالقلق لا يأتي من الطبيعة التي يتشاركها مع غيره من المخلوقات ولكن القلق من أن يكون أعزل الثقافة التي توفر له الجو الصحي الحامي الواقي، وربما تنبه المتنبي لهذا عندما أدرك ذلك بحكمته المعهودة في الإنسان: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ** ذا عفة فلعلة لا يظلم
فالعلة الحائلة دون الظلم قد تكون وازعا من خلق أو دين ، والاثنان يعاد بهما إلى طبيعة الثقافة المجتمعية، ولقد وجد الدارسون في علم الحيوان أن الأخير يتوافر على ما يشبه حالة عقلائية في حدودها الدنيا تتيح لكثير من الحيوان بناء الخبرة الماضية متى ما وقع في ظروف مشابهة فيتصرف على ضوء خبرته تلك، وإن كان محكوما بالحتمية البيولوجية، فلم يبق بعد هذا ما ينماز به الإنسان عن الحيوان غير الأخلاق، ويشهد لذلك واقع الناس حتى في أوضاعهم السالبة، فاللصوص مثلا يحتاجون إلى حد راتب من الخلق السوي للتعايش بينهم كالعدالة في قسمة المغصوبات، وحفظ الأسرار في محيطهم.. فالإنسان كائن أخلاقي بامتياز وهذا معنى ما يقال " يبقى في القرصان وقاطع الطريق، والسارق المتوحش، والمغتصب الناهب شيء بريء وبسيط ينتمي للإنسانية " .
ويخلص الشاعر في ذيل القطعة للاستشهاد بقول شوقي إن فساد الأخلاق سبب في خراب العمران، ومهلكة الأقوام، وهي نتيجة منطقية تتعزز بأرصدة الواقع وموازينه، وهي مما يتوافق عليه منطق العقلاء الأسوياء، فمن يعجز أن يعلو لا يعجز أن يسفل ، ولكل سوق بضاعته النافقة فيه، ولعل ما يقابل الإنسان النامي خلقيا إنسان الغريزة الذي لن يكون إلا حيوانا في إهاب بشري، تتيقظ فيه الغرائز المنحطة، ويجتمع له من اسمه : شر ويضاف إليه جار البهيمية فيعاد : ( ب + شر ) .
<!--حجاج التوجيه والتربية
بُنـَـاةَ المجْــدِ... لا تكِلُوا لِفَوضَى ** شبَابًا , عَقْلُه أضحى يَبـَـابـــَـا
خُذوا بِيــد الشبـــابِ , وجَنِّبُوه ** مـَذَاهــبَ شَوهَتْ فِيه الإهابــا
ولاَ تـــَدَعوا الشَّبِيبَة لابــنِ آوى ** فَقـدْ أغرى الضَّيـاعُ بِهِ الذِّئـابــا
الشاعر بعد أن عرض أهمية الأخلاق، وأبدى الضرورة في الحرص عليها، وأعاد باعتبارها أس القيم، وربما لملم أطرف ذلك التمهيد وأودعه مضمون بيت شوقي القائل : (( وليس بعامر بنيـــان قـــــــوم ** إذا أخـــلاقهم ...كانت خرابـــا ))
لينتقل إلى مخاطبة من بيدهم مقاليد التوجيه والتربية، وصناعة القرار ، باعتبارهم أمناء الأمة على شبابها وبناة مجدها إن أحسنوا استثمار هذه الثروة البشرية ، وأحسوا عظم المسؤولية الملقاة على عاتقهم تجاه شعوبهم، فهم مطالبون بتحصين الشباب ضد تيارات الهدم، وتقوية جهاز المناعة الثقافية لديه ، فيجنبوه الفوضى وحصادها المر ذلك أن الشباب في حاجة ماسة إلى من يأخذ بيده أخذ الأب الحاني، والمربي الشفيق اتقاء لموجات التمزق والتفرق والتمذهب الذي يفرق ولا يجمع، ويخرب ولا يبني فينشأ بيننا جيل من بني جلدتنا يتحدث بلساننا ولكنه ضعف فينا، وقوة في الآخرين، والمسؤولية هي هي داخلية ابتداء ونحن مع القول القائل : داؤك فيك وما تشعر = ودواؤك منك وما تبصر.
والظاهر أن الشاعر يستحضر نماذج لهذا الشباب الذي يعيش انفصاما نكدا، وإرباكا فظيعا ربما ينحدر ثقافيا عن الفترة الكولونيالية بكل مخلفاتها وآثامها ويكفي التذكير بما قاله : '' الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفيلت: "إن الاستعمار الفرنسي هو أسوأ وأخبث ما يمكن أن ينكب به شعب من الشعوب" (3). وهو لا ينحى باللائمة على الشباب فهو عنصر حيادي منفعل بفواعل قبلية ماثلة في توليفة من الاعتقادات والعادات والمسلمات الموروثة اجتماعيا وثقافيا تحكم وضعه، وتبرمج وعيه ، وتقولب نماذجه ومثله وفق البيئة التي ينشأ فيها.
والمجتمع إن تخلى عن لعب دوره حيال أجياله، وتركهم طعمة للفراغ، وعرضة للإهمال، جاء من الأغيار من يخطط لهم، ويتسلل إلى عقولهم وقلوبهم وعقارهم ليملأ ذلكم الفراغ، فالطبيعة لا تؤمن بشيء اسمه الفراغ، فنحن يمكننا ملء قارورة فارغة بأي مادة سائلة ولو سامة وإمكانية التعبئة والملء متاحة بشكل سلس ويسير يتيحها الفراغ الذي عليه القارورة.
ولا تـــدعوا الشبيبة لابــن آوى ** فقـد أغرى الضيـاع به الذئـابــا
إن قوة الفرد من قوة جماعته، وضعفه من ضعفها، فالجزء قيمته من كله ولهذا فإن ترك الشباب لمصيره دون تفكير فيه، أو عناية بتربيته يجعله صيدا سهلا للذئاب المترصدة، وبالمناسبة فالذئب لا يفترس إلا الشاة الشاردة التي ساقها حظها العاثر بين مخالبه لأنها فقدت السلامة بمجرد انفصالها عن محيطها، وجماعتها، والأمة إن لم يكن لها عاصم من ثقافتها تشرد أبناؤها، وعاشوا التيه الثقافي والمنفى الإيديولوجي الذي يناسب وضع الشياه الشاردة في الليالي الشاتية حيث يغري ضياعها كل وحش طامع ، ولص غاصب.
ويجمع الشاعر إلى الذئب ابن آوى وهو فوق الثعلب ودون الكلب ـ كما تقول معاجم اللغة ــ وفيه شبه من الذئب وشبه من الثعلب، وربما أراد الشاعر التمثيل به لنماذج بشرية شأنها التآمر والمخاتلة جمعت بين خداع الذئب وقوته في افتراسه وضرواته، ومكر الثعلب ودهائه، وربما استعار الشاعر وصف ذلك من الجاحظ الذي يصف الذئب بعداوته للقطعان والثعلب بغدره وشراسته في التعطش للدماء، وهو بهذا التوصيف أقرب رمزية في الإشارة إلى التيار النفاقي منه لأي شيء آخر.
<!--حجاج القـــدوة والقيادة
فَليسَ بمُفْلـــِـحٍ أبـَدًا شَبــَابٌ ** مَتَى كــان الدَّليـــلُ لهُ الغُرَابـَـا
وملء الــدار(حَـرْكيـُّـونْ) بـُــهـْــمٌ ** يشيعُونَ الضَّـــلالَةَ و الـــكِذَابــَا
(مراكــزُ) في الجزائر ,شَيَّدُوهَا ** بصدرِ الشَّعبِ....تَكْتَسِحِ الرِّحَابَا
ومِنْ إشْرَاقَـةِ الإسلام صُـونــوا ** بِسـَاحَتِهـَـا الرسالةَ والكِـتَابـــَـا
ومن يَنْبُوعـــهَا, صبُّوا شَرَابـــًـا ** إذا الحـ
ساحة النقاش