ألوان السما السبعة

 

لقد سما الجسد الترابى

من العشق حتى الأفلاك

و حتى الجبل بدأ فى الرقص وخف

بن الرومى

 

كانت هذه الكلمات الجميلة هى التى بدأت مع الأفان تتر"تتر المقدمة" مع ظهور مشاهد للرقص الصوفى و الذى يعرف حالياً برقصة التنورة ، على صوت موسيقى تحملنا إلى أفاق حالمة تصل بنا لأبعد مدى .

و تلك الكلمات الطيبة هى للشاعر الصوفى و مؤسس المولوية "مولانا / جلال الدين بن الرومى" و مولانا هو لقب مثل البك و الباشا .

و المولوية هى جماعة صوفية و لها بيت فى القاهرة هو "بيت المولوية" و هو ما تم به تصوير العروض الراقصة الموجودة فى الفيلم ، و هم ينادون بالحب و العشق فى الله وتوحد الجسد مع الروح لتصل إلى الحبيب الأعلى ، و ذلك من خلال الرقص ،وهناك اقوال كثيرة للشاعرالصوفى "بن الرومى" نذكر منها "هناك طرق عديدة للوصول إلى الله و قد إخترت منها طريق الرقص والموسيقى" ، ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن "المولوية" و "بن الرومى" بل حديثنا سيكون حول فيلم "ألوان السما السبعة" و الذى بدأ بالأبيات الشعرية التى بدأنا بها حديثنا معاً ."ألوان السما السبعة" (إخراج سعد هنداوى - 2007)

بدأ تتر المقدمة بمشاهد شبه رسوم متحركة ، لراقص من راقصى المولوية ،  بالملابس الأصلية لراقصى المولوية ، و ليست ملابس التنورة المزركشة بألوانها المبهجة ،وهى ألوان قوس قزح و التى سنفهم إلى ماذا ترمز أثناء تجولنا فى الفيلم ، مع خلفية موسيقى تسمو بالروح و الجسد كما يفعل الراقص المولوى ، ثم نرى مع بداية الفيلم مشاهد الإزدحام فى شارع الأزهر بالقاهرة وقت إقتراب موعد الإفطار فى شهر رمضان ، ونشاهد سيدة جميلة "حنان" (ليلى علوى) تترك سيارتها ليركنها لها المنادى و تنزل لتذهب على قدميها إلى أحد المطاعم تتناول الطعام مع صديقتان ، و تذهب بهم إلى عرض التنورة ، و تحدث قصة حب تربط بينها و بين "بكر"(فاروق الفيشاوى) راقص التنورة ، و تتداخل الأحداث تعرض لنا خلفية كلاً منهما وأبعاد الشخصيات ، المادية و الإجتماعية و النفسية لكلاً منهما ، و يعرض لنا شخصيات تشترك معهما فى الأحداث مؤثرة فى السياق الدرامى للفيلم ، و الفيلم به رؤية فلسفية عميقة ، سنتجول مع شخصياته من خلال الأحداث ،  ونتناول بالتحليل الشخصيات ، ثم نتناول معاً الرؤية الفلسفية ثم نتحدث عن التكنيك السينمائى فى ذلك الفيلم .

أولاً : القصة :

كما ذكرنا بدأ الفيلم ب"حنان " تتجه إلى "الحسين" لتناول وجبة الإفطار فى رمضان فى أحد مطاعم الحى العتيق ثم تتوجه مع صديقتان لها إلى حيث"بيت المولوية" حيث راقص التنورة "بكر" و نراها فيما بعد تذهب يومياً لمشاهدة الرقص ، حيث ينبه إبن "بكر" أبيه لذلك الأمر ، و يظن "بكر" أنها معجبة به ، ويرغب فى الدخول فى مغامرة معها ، و سرعان ما تتحول المغامرة إلى عشق وحب بينهما ، و حين يسألها ماذا تعمل تخبره بوضوح أنها (عاهرة) وهنا نجده يرفضها ، على الجانب الأخر نجد علاقة "حنان" بأسرتها ، فقد فقدت الأب و كانت ترغب فى إمتلاك فانوس فى رمضان ، و لمن يرى الأمر بسيط أقول إن الأمر جد خطير أن تغتال بهجة طفل فى أوقات الفرحة ، فقد كانت ترى الأطفال يحملوا الفوانيس و هى لا تحمل فانوس مثلهم ، و نرى كيف تعطى أمها المال ، ورغبتها فى الهجرة لتبدأ حياة جديدة ، بعيدة كل البعد عن ماضيها ، و نرى الشخص الذى يقابلها فى كل سفارة تتجه لها ، هذا الذى يحمل الأمل دائماً برغم أنه تم الإستغناء عنه من الشركة التى كان يعمل بها ، و أراه رمز كمصدر أمل فى الحياة ، ثم علاقتها بالشخص الذى يتكفل بكل مصارفيها وهو رجل أعمال مسافر دائماً و حين يحضر لمصر فهو يرغب فيها ليقضى معها ليالى العشق بالقاهرة ، و هى تتهرب منه و حين تقابله و يجلسا معاً ، تسأله هل تتزوجنى فيكون رده ضحكات ساخرة ، و تهرب منه ولا تقضى معه الليلة التى يرغب فيها ، و يتصل بها فى نوع من الإستعطاف يقول لها يا ريت تيجى تأخذى هديتك لتكون أخر مرة نتقابل فيها ، وتذهب له و يفتح لها فى منتهى الأدب ، ثم يجعلها ترأه فى أحضان عاهرة أخرى ، ليثبت لها إنه كما إشتراها يستطيع شراء غيرها ، و فى اللحظة التى تستلم فيها خطاب الهجرة نجد "بكر"يوافق على الزواج منها ، وهنا نرأها تقع فى حيرة بين رغبتها فى الهجرة و بدأ حياة جديدة فى مكان جديد لا يعرفها فيه أحد ، و بين رغبتها فى الإرتباط بإنسان أحبته حقاً و أحبها و نسى كل ماضيها ، ووافق أن يبدأ معها حياة جديدة ، فهو يرغب فى حبها و ليس فيها فقط كأنثى ، فهو يريدها زوجة ، فأى شئ تختاره "حنان" ؟ ، سنرى ذلك معاً فى النهاية .

ثم نعرض للشخصية الثانية فى الفيلم "بكر" ، راقص التنورة ، و هى شخصية برغم بساطتها الظاهرية مركبة أكثر من "حنان" نراه فى رقصه الذى إحترفه بشكل برع فيه بشدة ، و حين يتقابل مع "حنان" يقص  عليها قصة عشقه لذلك الأمر ، حيث كان يذهب مع أبيه إلى المسجد فى صلاة الجمعة فكره الذهاب للمسجد حيث كان الإمام يذكر دائماً النار فشعر بأنه سيذهب للنار و خاف من الذهاب للمسجد ، وكان يرى أبيه فى وقت المولد يرتدى أشيك الثياب و يذهب لحلقات الذكر فى المولد ، و حين إقترب منه فى إحدى المرات أمسك أبوه يده بقوة و هو فى عالم أخر ليس على الأرض ، وهذا كان وصف "بكر" لذلك الأمر، و قد أحب "بكر" ذلك الموضوع و ساعده عم "إمبابى" (حسن مصطفى) ، الذى أدخله إلى عالم رقصة التنورة ، ثم نراه حين يذهب لأحد المطاعم الشيك مع"حنان" يتشاجر مع شخص لإنه كان ينظر لها ، وحين تعترف له "حنان" بأنها عاهرة يرفض البقاء معها ، حتى يكتشف أنه عاهر أكثر منها ، فهى قد دفعتها الظروف لذلك الأمر ، أما هو فقد باع جسده لقاء بعض الحلى الذهبية من إمرأة عجوز ، و إن كنت غير مقتنع بإختيار تلك الفنانة فى ذلك الدور فطريقة أداءها أشعرتنى بالتعاطف معها ، و كان يجب على المخرج إختيار شخصية تجعلنى لا أتعاطف معها ، ويكون أداءها أكثر حدة من الأداء الهادئ لتلك الفنانة ، والتى جعلتنى أتعاطف معها ، بل جعلتنى أبحث لها عن أسباب لما تفعله ، ثم نرى علاقته مع زوجته (سوسن بدر) ، و التى إنفصل عنها لمجرد شكه فى تصرفاتها دون وجود دليل ، و علاقته مع عم " إمبابى"(حسن مصطفى) الذى أذاه بشدة حين قال له إنى أنفذ رغباتى و لا أفعل ذلك مع الأحلام (مثلك) ، لنرى بعد ذلك عم "إمبابى"يقف على المسرح و يتوجه بالإنشاد إلى }الله{ ، و يتحرك حركة دائرية بسيطة فهو لثقل وزنه وعشقه للأكل لا يستطيع الرقص ، ثم علاقته مع إبنه"سعد"(شريف رمزى) ، و الذى يرغب بشدة فى أن يرقص بالتنورة ، و يرفض أبوه ذلك تماماً ، و نرى علاقة الشاب بأمه(سوسن بدر) ، و علاقته بالفتاة صديقته التى لا ترغب سوى فى إمتلاك الذهب ، و حين يرأها تقبل شاب أخر تحت السلم و القبل كانت بدء الطريق لإلتحام الأجساد فى المنور،يثور عليها و يضرب الشاب الذى معها و لغباء"سعد" يدير له ظهره و بعد أن كان هو المنتصر إنهزم حيث ضربه لينصرف الشاب بعد أن يلمس جسدها بمعنى لنا لقاء أخر ، تقترب من "سعد" ترغب فيه فقد أصبح جسدها كله رغبات ترغب فى إطفاءها ، فالأمر بالنسبة لها ليس سوى "كائن حى" تفرغ فيه رغباتها ، و نرى صاحب الفرن(أحمد راتب) الذى يظن "سعد" أنه على علاقة بأمه يأتى ليتزوجها فهم يرغبوا فى الحلال ، و الأم غير الفتاة ، فالأم تفعل ما تفعله من نفسية ترغب فى الشعور بأنها ما زالت مرغوبة من الرجال دون فعل ما يشين ، أما الفتاة فتفعل ما تفعله من شبقية لا تنتهى .

الرؤى الفلسفية الخاصة بالفيلم :

الفيلم ذو رؤية فلسفية عالية و لم يحقق النجاح التجارى الذى يستحقه ، و لكنه على المستوى الفنى فيلم متميز ، و سنتحدث عن الرؤى الفلسفية الخاصة بالفيلم من خلال منظور خاص جداً .

أولاً كانت هناك تلك الأشعار التى بدأ بها الفيلم و هى تعبر عن التوجه الصوفى إلى الله ، و مهما فعلت فهو سيقبلك ، بمجرد إتجاهك إليه .

ثم كانت الكلمات الطيبة ل"حنان" و التى قالت فيها فى نهاية قوس قزح بيكون الكنز ، و كما نعرف كلنا إن فى القصص الأوروبية إنه فى نهاية كل قوس قزح هناك جرة الذهب ، أما قوس قزح فهو التنورة ، التى يحاول بها الشخص السمو بروحه فوق رغباته ، ليحصل على الكنز ، و من الغريب حقاً إن كل من فى الفيلم حصل على امنيته ، كما لو كانت هناك عصا سحرية تحقق لهم أمانيهم ، فنجد "بكر" عاد ل"حنان" ، و "حنان" هاجرت إلى نفسها الحقيقية طفلة لطيفة و سترتبط ب"بكر" ، وتركت ماضيها خلفها ، "أم سعد" تزوجت لتستقر بحياتها أخيراً ، "سعد" رقص التنورة التى يرغب فيها ، ثم نرى الملاك الحارس"عم إمبابى" يقوم بتعليم "سعد" الرقص بالتنورة فهى حياته التى يقضى فيها جل وقته ، و هو يرغب فى تلقينها للشباب و كما فعل مع "بكر" فهو يفعل مع "سعد" .

التكنيك السينمائى للفيلم :

أفلام المخرج "سعد هنداوى" لها سحر خاص، فهو لا يترك تفصيلة واحدة تمر دون توضيحها ، فهو يبدأ بأفان تتر غامض يخلب اللب فيجعلك تشعر بأنك ستطير بالفيلم، ثم يأخذك لأرض الواقع فى زحام القاهرة قرب إنطلاق مدفع الإفطار فى منطقة "الحسين" فى حى"الأزهر"،ثم يطير بك إلى رحاب رقصة التنورة ، ليجعلنا نكتشف شخصيات الفيلم كلها كل ذلك فى أداء متناغم بين الصوت و الصورة و إستخدام المونتاج برقة عالية و إيقاع لا تشعر معه إلا بما يريد أن يصل بك إليه ، و من خلال سيناريو محكم لم يترك تفصيلة واحدة دون تغطيتها ،و كان يتجول بنا فى لوحات تشكيلية رائعة فهو بصحبة مدير فنى مميز وهوالفنان"صلاح مرعى" ، وكان تتر الفنان "عطية أمين" من أروع ما قدم ، فتحية إلى كل صناع تلك القطعة الفنية الرائعة ، فما بين تتر"عطية أمين" وسيناريو"زينب عزيز" وموسيقى"تامر كروان" وتصوير"رمسيس مرزوق " ومونتاج "رباب عبد اللطيف" كل هذا التناغم من خلال رؤية مدير فنى متميز هو الفنان الكبير "صلاح مرعى" ، بقيادة المايسترو"سعد هنداوى" .

و لكن أروع شئ كان فى الفيلم لم يكن من عمل صناعه و لكنهم ساهموا فى إظهاره بشكل لم يسبقهم إليه أحد ، وهو"بيت المولوية" ذلك المنزل الذى له قصة كبيرة سنعرض لها فيما بعد والذى تم الإنتهاء من ترميمه منذ فترة وبه صالة رقص للمولوية ، أما الملابس الأصلية لرقصة المولوية فهى مثل الفيلم لها رمزية لكل شئ ، فالرداء الأبيض يرمز للكفن والطاقية البنى العالية ترمز لشاهد القبر ، ليكون الراقص فى رقصه فى محاولة للسمو بالروح الباقية فوق الجسد الفانى لمحاولة الوصول إلى أعلى المراتب .

أصدقائى لعلنا معاً قمنا بإلقاء الضوء على فيلم قلما يتم صنع مثله الآن بتلك الروح الفنية العالية ، و بالرؤى الفلسفية المتميزة فيه ، تحياتى و نلتقى قريباً معاً فى فيلم أخر .

محمد أحمد خضر

0020123128543

[email protected]

 

 

 

المصدر: بنت النيل
  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 873 مشاهدة
نشرت فى 18 أغسطس 2010 بواسطة makarther

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

7,293