سؤال أساسي هل الأقصى بحاجة لنا؟ أم أننا نحن بحاجة إليه.. ليفكر كل واحد في ذلك بطريقته ولكن وفي كل الأحوال وأمام أي من الإجابتين فإن طريقة تعاطينا مع تهديدات اليهود للأقصى وبيت المقدس بل وكيان الأمة العقدي والفكري والنفسي.. هي طريقة أقل ما يقال عنها لاتتناسب مع حجم القضية ونوعها وواقعها.

 وسؤال آخر هو هل المشكلة مع اليهود الصهاينة تأتي تحت عنوان الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي بدأ البعض يحاول تسويقه؟ وبهذا التخصيص البارد البليد الذي يسقط الجانب الديني والجانب القومي؟ أم تحت عنوان الصراع العربي الإسرائيلي الذي يسقط الاعتبار الديني والإنساني؟ أم هو صراع يشمل هذا وذاك وما هو أهم الحضارة كلها؟

 إن تهديدات العدو للمسجد الأقصى ومساعيه لتهويد القدس وفلسطين وتآمر (أكرر: تآمر وألف تآمر) أمريكا والغرب معه على ذلك التهويد والتهديد كل ذلك لم يعد مجرد سوء ظن في أبناء العمومة، ولا مجرد هرطقات كهنوتية يخترعها المتدينون المتطرفون عندنا، ولم يعد مجرد كلام في كلام.. بل أصبح اليوم أجلى من أية حقيقة سياسية وصار عملاً وإجراءات ملموسة لا يعمى عنها إلا من يريد فقط دس الرأس في الرمال والكذب على النفس أو المانكفة لمجرد تبرير السكوت وتبرير ما هو أقبح من السكوت: التطبيع مع العدو والتطبيل له والسعي في هواه وصالحه.

 لقد عادت القضية اليوم لحقائقها الأساسية ورجع الكل للمربع الأول واجتمعت أشتات الصورة فالقضية من حيث أطرافها وفلسفتها وأحداثها دينية صميمية.. قد لانريد هذا ولكنه الواقع الذي يجب أن نعترف به ونعمل على أساسه.

فالمتوقع على هذا الأساس أن تزيد الاعتداءات على الأقصى، وأنه يصير عنوان المرحلة القادمة من حيث عدد المحاولات وجديتها لعدة أسباب منها أن العدو يعتبر السيطرة على الأقصى ثم هدمه ثم بناء الهيكل المزعوم على أنقاضه كلها في نظرهم انجازات استراتيجية خاصة في هذا الظرف الذي يرون فيه الأمة بمؤسساتها الشعبية وبأنظمتها الرسمية بلا حول ولا طول ويرون الفلسطينيين على أكثر من مشرب وبالتالي فهي الفرصة التاريخية التي لا تفوت ولا تعوض، وستزيد الاعتداءات والمحاولات من قبل اليهود ليذكروا أنفسهم عبر العالم أن عنوان المعركة هو الهيكل وليجتمعوا عليه بعد أن أصبحت الهجرات اليهودية من فلسطين بدل إلى فلسطين وبعد أن فقد المشروع الصهيوني مبررات في نظر اليهود أنفسهم وحلفائهم (الأوروبيين) بعد الانكفاء والفشل الذي يعانيه، وستزيد كذلك لأجل استباق تصاعد المد الإسلامي والمقاومة الإسلامية واتجاه الرأي العام والوعي العام نحو الإسلام.. وسوف تزيد المحاولات لأسباب موضوعية أخرى..

ولكن ما هو المطلوب؟

أما الأنظمة فإن المستجير بها كالمستجير من الرمضاء بالنار، وحتى لو أرادت أن تفعل شيئاً فإن ضروراتها وأوضاعها لا تمكنها من فعل شيء.. يبقى دور الشعب.. وهنا يطلب الإبداع، وهنا يسأل عن دور العلماء الأجلاء الذين لم يعد يقبل أن يكونوا إلا في المقدمة ويأتي دور المؤسسات المدنية والفكرية والخيرية والدعوية من نقابات وبرلمانات وبلديات وجمعيات.. ودور الحركات الإسلامية والأحزاب السياسية والنخب النشطة فلم يعد مقبولاً أن يختلفوا على سفاسف ومصالح فالكل في الهم شرق - كما يقال.

أما أهل فلسطين فإن لم توحدهم المصالح والأهواء ووحدة المصير والعدو فلا أقل من أن يوحدهم الأقصى وهو الحصن الأخير.. بارك الله في أولئك الذين احتشدوا بعشرات الألوف داخل الأقصى وفي الميادين العامة لنصرته.. إنهم أساتذتنا في الوطنية والتضحية.. وأما أهل الداخل الفلسطيني (فلسطيني 48) وهم الخندق الأول المتقدم فما قصروا ولكننا قصرنا نحن معهم.. هل تعلم أخي القارىء أن هؤلاء ليس لهم من يمثلهم في جامعة العرب أو في منظمة المؤتمر الإسلامي ولا حتى في السلطة الفلسطينية. 

في هذا السياق فإن على (فلسطيني 48) أن يتعودوا التظاهر والاعتصامات وتنسيق جهودهم والانخراط في العمل السياسي وتحريك الرأي العام الإسلامي والعربي والمحلي باتجاههم وأن يشكلوا مؤسسات على هذا الأساس تنظم حراكهم وأهدافهم ومصالحهم.. سوى - بالطبع - المؤسسات الحالية التي قامت على أساس أنهم أقلية ذات مطالب خدمية.. فقط.

آخر الكلام.. لقد بات واضحاً أن المعركة لها عنوان واحد هو بيت المقدس من جهتنا والهيكل من جهتهم وأن المصالح وملفات التفاوض لن تجلب أمناً حقيقياً.. وأن الشعوب هي صاحبة الكلمة الأخيرة، وأن (فلسطيني 48) هم نجم المرحلة القادمة.. وأن الإسلام هو الذي يقول كلمته فهل نقول لبيك يا أقصى؟!

هل يهدمونه؟

يقف المسجد الأقصى وحيداً عرياناً معزولاً.. لو كانت له عينان لبكى دماً إذ أن أشباح الهدم تتهدده. والنصير يخذله، والمرابطون فيه مشغولون بالتقاتل من أجل السلطة، والعالم لا يعيره عشر معشار الاهتمام الذي أولاه لتماثيل بوذا.

التهديد هذه المرة جاد وليس لمجرد تهيئة العالم العربي والإسلامي حتى يتقبل الفكرة. «هناك خطر» - يقول تساحي هنغبي وزير الأمن الداخلي الاسرائيلي - ويضيف «لدينا اثباتات تؤكد مخاوفنا.. هناك نيات حقيقية تنتقل إلى الصعيد التنفيذي وليس أفكاراً فقط». هنغبي هذا ليس مسئولاً فلسطينياً ولا حمامة سلام، بل إنه متطرف صهيوني اعتبر السماح بدخول اليهود لساحات المسجد الأقصى العام الماضي واحدة من أهم انجازاته كوزير. 

قد يكون من قبيل اضاعة الوقت التذكير بفضائل الأقصى. جميعنا يعرف أنه ثاني مسجد بني في الأرض بعد المسجد الحرام «وبينهما أربعون عاماً» كما يقول الحديث النبوي الشريف. ولا يعرف على وجه الدقة من بناه أول مرة، لكن الذي رفع قواعده هو النبي سليمان عليه السلام، كما رفع أبو الانبياء إبراهيم قواعد المسجد الحرام.

ثم أعاد بناء الأقصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لدى فتح القدس، وأنفق الأمويون مبالغ طائلة، لدرجة أنهم خصصوا خراج مصر بأكمله لمدة سبع سنوات لاتمام بناء قبة الصخرة بالشكل التي هي عليه الآن، ولم يكن ذلك نوعاً من البذخ المغالى فيه بقدر ما كان دليلاً على توقير الحرم القدسي، والمعرفة بفضل تلك البقعة المباركة، وجلب الوليد بن عبدالملك لنفسه تهمة مؤرخين متشيعين بأنه فعل ذلك لتحويل الحجيج من مكة المكرمة إلى الصخرة!

ويبدو أن جهات ما في "إسرائيل" تعتبر أن هناك لحظة تاريخية ينبغي اهتبالها - حسب ما يقول غير (شون سالمون) زعيم جماعة أمناء الهيكل المتطرفة. فالمد اليميني الصهيوني بلغ أوجه. اتضح ذلك في حشده لسلسلة بشرية ضمت نحو مئتي ألف يهودي متطرف، واتضح في تجمع حاشد عقد بمدينة القدس المحتلة يوم 29 يونيو الماضي، وفيه ألقى الحاخام المتطرف (افيغدور نبنزال) خطاباً أهدر فيه دم شارون قائلاً إنه «دن رويف» وتعني أنه يجب أن يلاحق ويطارد ويقتل.

وهي العبارة نفسها التي لفظت يوما ما ضد رابين، وقادت أحد المتطرفين الصهاينة إلى قتله محتمياً بفتوى حاخامية. فشارون بانسحابه المخادع من غزة وتفكيك مستوطناتها إنما يتنازل (في رأي اليمين) عن أرض "إسرائيل".

على الطرف الآخر من المعادلة هناك فلسطينيون يتقاتلون، كسروا حرمة الدم الفلسطيني التي كانت قائمة حينما كان الصراع محصوراً بين فتح من جهة والقوى الوطنية والإسلامية من جهة أخرى.

أما وقد انتقل سرطان الخلاف إلى داخل تنظيمات فتح نفسها، لم تعد هناك حرمة لشيء.. اختطاف ومحاولات اغتيال واحراق مقار واستعراض قوة بالسلاح واتهامات تتطاير هنا وهناك لدرجة استفزت الرئيس عرفات أحد طرفي الخلاف، فصرخ في وجوه الصحفيين المتجمعين في مقره داعياً اياهم إلى الالتفات للخطر الذي يحيق بالقدس والذي شغلهم عنه الصراع الشخصي الذي تدور رحاه.

وليس وضع الخارج العربي والإسلامي بأفضل من الداخل الفلسطيني، فالجميع مشغولون بالتكيف مع وقائع جديدة وظرف دولي عاصف.. تراجعت الاهتمامات بالقضايا العامة لصالح الانشغال بترتيبات محلية قطرية تجعل السلطات العربية بمنأى عن النقد الأميركي على وجه الخصوص.

أما المجتمع الدولي فلم يعد بامكان أحد المراهنة عليه، بل إن القوى النافذة في المجتمع الأميركي قد تستحل لنفسها تشجيع السلطات الصهيونية على هدم الأقصى، خاصة وأن أجواء كراهية تخيم على المجتمع الأميركي اتضحت يوماً من مطالبة واحد من الكتاب بقصف الحرم الشريف في مكة المكرمة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة كنوع من الرد على هجمات 11 سبتمبر، ومن ثم فليس مستبعداً أن يعتبر هدم الأقصى (أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين) نوعاً من الانتقام المبرر من وجهة نظر اليمين الأميركي، وطريقة فعالة للكيد للمسلمين واذلالهم رداً على هتك نفر منهم لحرمة الأمن الأميركي.

هذا على مستوى النخب اليمينية صاحبة اليد الطولى في الإدارة الأميركية أما على مستوى دائرة القرار نفسها فإن هناك حالة من الشلل بسبب وضع جورج بوش الحرج من الانتخابات القريبة، وليست هناك قضية يزايد فيها الحزبان الديمقراطي والجمهوري على بعضهما غير دعم "إسرائيل".

في ضوء المعطيات السابقة تكون الإجابة على تساؤل هل يمكن لإسرائيل أن تنفذ جريمتها وتقلب الطاولة على رؤوس أصدقائها وأعدائها معاً؟ هي بنعم، إذ أنه ما الذي يمنعها من أن تفعل؟

فإذا كان التحذير الذي أطلقه وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي قبل أكثر من عشرة أيام لم يثر أي ردود فعل ذات بال. اللهم إلا بينا هزيلاً من منظمة المؤتمر الإسلامي كتبه أحد الموظفين باعتباره عملاً روتينياً وبيانات صدرت من المقدسيين المرابطين وهم عزل ولا يملكون غير أجسادهم يذودون بها عن الحرم القدسي الشريف.. ما الذي يمنع "إسرائيل" إذن من هدم الأقصى، وماذا يمكن أن يردعها؟

للأسف لا شيء!

أحد مواقع الدردشة الجادة ناقش هذه القضية، ويمكن اعتبار آراء من شاركوا عينة ممثلة للرأي العام العربي الذي سقطت الرهانات القريبة عليه.

كان هناك إجماع من المشاركين على أن شيئاً ذا بال لن يحدث. مجرد مظاهرات تنطلق من الأزهر.. تلتهب فيها الحناجر بالهتاف ضد أعداء الله الذين هدموا الأقصى، وتحرق أعلام إسرائيلية وأميركية لمدة أسبوع (في الحد الأقصى) بعدد من العواصم العربية، ثم تتحرك المجموعة العربية في الأمم المتحدة لاستصدار قرار يدين "إسرائيل"، وكالعادة تستخدم واشنطن ضده حق الفيتو فيتم الاكتفاء ببيان من رئيس مجلس الأمن.

هل يجرؤ الإسرائيليون؟ نعم.. وماذا يمنعهم خاصة وأنه ليس هناك نظام عربي على استعداد لخوض حرب يعرف أنها خاسرة.

التهديد جاد وصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية كشفت (نقلاً عن جهات الأمن الإسرائيلي) وجود مخططات لمتطرفين بتفجير المسجد الأقصى باستخدام طائرة بدون طيار يتم ملؤها بالمتفجرات أو عن طريق طائرة ملغومة يقودها أحد الانتحاريين من المتطرفين اليهود.

كما أن الاحتياطات الأمنية الإسرائيلية لن تحول دون ذلك - هذا إذا كانت تحاول فعلاً الحيلولة دون هدم المسجد - وعلى حد ما يقوله أحد زعماء كاخ (نعدم فيدرمان) فإن من يريد شن الهجوم على الأقصى لن يتبع الطريق الرسمي ويدخل من بوابة المغاربة مبرزاً بطاقة هويته، إنه يستطيع استخدام حيل كثيرة منها التخفي كعربي يريد الصلاة في المسجد.

أليس من العار أن الشرطة الإسرائيلية هي التي تحرس المسجد من مجموعة مجانين؟ أم أن هؤلاء المتطرفين اليهود يفعلون ما يعتقدون ونحن المجانين بحق لأننا ننتظر حتى نصحو يوماً على خبر هدم المسجد الأقصى؟

ربما نبكي كثيراً يومها.. لكن الأوان سيكون قد فات.. ودموعنا يومها لن تكون صك براءة من الذنب الذي نرتكبه بصمتنا.

المصدر: المركز الفلسطيني للإعلام
  • Currently 126/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
42 تصويتات / 365 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

2,273