التوازن في الشخصية الاسلامية
تأليف: حسين الشامي
الاهداء
تعلمت من أخي العلاّمة الشهيد الشيخ حسين معن ـ كيف يكون الاسلام الهم الدائم في حياة العاملين ... فطويت المسافات أسعى، وحسبي إني على ذات الطريق.
وتعلمت ـ ومنه أيضاً ـ كيف يكون الفكر ينبوع عمل وحركة جهاد لشوط طويل، كان قد قضاه بخطوات واثقة وصبر جميل إلى أن لقى ربه ... وبقيت وحدي أحثُ الخُطى في دربه اللاحب الطويل وما زلت، فباعدني عنهُ شوط المسير ... وبيني وبينه تموت المسافة.
أجل انها أفكار للتامل والحركة والعمل تعلمتها منك يا أبا سجاد يوم كنا ننهلُ من نمير الأب المعلم والشاهد الشهيد الامام محمد باقر الصدر (قدس).
وهي منك أقدمها اليك تعبير عن المحبة وبعض الوفاء ... ويقني انك ترضى وحزني إني لا أسمعك.
أخوك
حسين
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَعبَادُ الرّحمـن الذينَ يَمشُونَ عَلَى الأرض هَوناً وإذا خَاطَبَهُمْ الجَاهلون قَالُوا سَلاماً * وَالذينَ يَبيتُـون لرَبهمْ سُجَّداً وقيَاماً * والذينَ يَقُولُون رَبنا اٌصْرفْ عَنَّا عَذابَ جهنَّم إنَّ عَذَابَها كان غَرَاماً * إنَّها سَاءَتْ مُسْتَقَراً * والَّذينَ إذا أنفقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَم يَقْتروا وَكانَ بَيْنْ ذلك قَوَاماً).
الفرقان / 63 ـ 67
(مُحَّمَدٌ رَسُولُ اللهِ والَّذينَ مَعَهُ أشدَّاءُ عَلى اٌلكُفَّار رُحَماءُ بَينهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتغُونَ فَضْلا من الله وَرضْواناً سيمَاهُمْ في وُجُوههم منْ أثَر السُّجُودِ ذَلك مَثلُهُمْ في التَوْراة وَمثَلُهُمْ في الإِنْجيل كَزَرْع أخْرج شَطْئهُ فَازَرَهُ فَاستغْلظَ فَاسْتَوَى على سُوقِهِ يُعْجبُ الزُّرَّاع لِيَغيظَ بِهِمُ اٌلكُفُّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصّالَحِاتِ منْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً)
الفتح / 29
* * *
المقدمة
يواجه العاملون في حياتهم الحركية فترات قد تطول أو تقصر تختلف في معالمها الاجتماعية والسياسية عما اعتادوه طوال الأعوام السابقة. وذلك عندما تشتد ظروف المواجهة والعمل السياسي. مما يفرض عليهم التعايش مع الظروف الجديدة بكل ما تحمله من معاناة ومصاعب. كما هو الحال دائماً في ساحات العمل وخصوصاً في ساحات الهجرة التي تشغل منطقة كبيرة في مسار التحرك الاسلامي.
وكان هذا هو بالضبط ما واجهناه في سنوات هجرتنا الطويلة، عندما فرضت علينا الاجواء السياسية والظروف الصعبة أن نغيّر مواقع التحرك، وان ننطلق في صراعنا السياسي من ساحات اضافية جديدة، تختلف في وجوه عديدة عن ساحتنا التي تكونت فيها الشخصية، تبلور فيها الفكر، ونضج فيها الفهم السياسي.
صحيح ان ساحات الهجرة كانت توفر لنا جو الأمن الذي فقدناه هناك في العراق. لكن هذه الميزة لم تشكل بالنسبة لنا امتيازاً اجتماعياً أو سياسياً، بحيث تسكن اليه النفس وتسترخي فيه الأعصاب، لأننا لم نكن نبحث عن اجواء هادئة لتقضية الوقت ولم نرد الابتعاد عن مسرح العمليات الملتهب. لم نكن كذلك. بل كنا نبحث عن المناخ المناسب الذي نستطيع من خلاله استثمار الوقت للدرجة القصوى، لنختصر المعاناة على الذين بقوا هناك داخل الحدود والسجون والخوف. وكنا نريد الدخول إلى مسرح العمليات في قوة جديدة وباستعدادات مناسبة تنسجم مع طبيعة المواجهة الصعبة.
ولا اشك مطلقاً في موضوعية هذا الوصف ودقته. يكفي ان اقول ان الكثير من مجاهدي الحركة الاسلامية عندما هاجروا عن العراق باشروا في تطوير وتصعيد مشروع العمل الجهادي منذ اليوم الأول، ولما تسترح أقدامهم بعد من تعب الرحلة، ولم تسترح أبداً حتى فارقوا الحياة شهداء سعداء مرضيين.
ولقد قدر لي أن أرصد الكثير من هذه الحالات بحكم العمل وفي نفس الوقت أتعذب بذكرياتها وما أزال، فمن ذا الذي يستطيع أن ينسى اخوة كراماً مجاهدين كانت الحياة عندهم زهيدة من أجل عقيدتهم وأمتهم.
وعلى هذا النمط من الظروف ومن اجواء العمل الاسلامي المتلاحق الخطوات، طوينا الثمانينات، مثلما طوينا من قبل سنوات طويلة في خط التغيير الفكري والاجتماعي مع الاوساط الجماهيرية المسلمة بمختلف فئاتها وشرائحها.
لا أريد من خلال هذا الحديث أن أستعرض تجارب الماضي في كلام عن فصول المحنة الرهيبة والمآسي المروعة التي عاشها الشعب العراقي بكل قطاعاته، والمسيرة الجهادية الدامية للحركة الاسلامية. فلست بصدد تسجيل الذكريات عن أحداث الماضي، لكنني استندت في هذا الحديث الخاطف على أساس ان القيمة الحقيقية للفكر الحركي انما تتحد في ضوء التجربة العملية. فالتجربة تخرج الفكرة من اطارها النظري المجرد لتحولها إلى واقع عملي ملموس يتعامل معه الحركيون ميدانياً على الأرض من خلال الموقف والحدث.
وعلى هذا فان الفكر الحركي يتكون عبر تجربة الحركة ومعاناة العاملين، ضمن الدائرة العامة للفكر الاسلامي واصوله وقواعده مما يجعله بعيداً عن الترف وعن النزعة التجريدية. لأن ملامجة وخطوطه الرئيسية تجمعت في فترات زمنية عديدة كانت حافلة بالتعامل المباشر مع الناس والهيئات والاحداث والوقائع، وهي مصادر كبيرة وروافد صافية تثري الفكر الحركي اذا ما درست التجربة برؤية واضحة وروح موضوعية ونظرات ناقدة.
وعلى ضوء هذا أود أن أشير إلى ان هذه الدراسة ـ وغيرها ـ تجمعت في سنوات عديدة على امتداد عقد الثمانينات، وكانت منطلقة من وحي الميدان العملي لتلبية حاجة رأيتها أيامذاك موجودة في الساحات التي تحركت فيها. انها ليست بحثاً نظرياً كتب في جو هاديء ـ مع تقديري لأمثال تلك الابحاث وقيمتها الفكرية ـ بل هي نتاجات مرحلة عشتُ أحداثها ووقائعها بالتفصيل. وقد وجدت أهمية اعادة كتابتها من جديد أملا في أن أقدم مساهمة مخلصة في مجال الفكر الحركي في حياة العاملين وتجاربهم.
وقد وقع اختياري في البداية على هذه الدراسة التي تحمل عنوان (التوازن في الشخصية) لما فيها من أهمية تمس حياة العاملين للاسلام في كل فترة من فترات العمل، لا سيما في ظروف المحنة. فالموضوع يتحرك على منطقة واسعة من حياة الانسان المسلم تشمل دائرته الداخلية المتعلقة بالنفس وأهوائها وأنفعالاتها، وكذلك المحيط الذي يتعامل معه. فهو يغطي تفكير الانسان وسلوكه بكل التفصيلات الكثيرة والمعقدة المتفرعة عن التفكير والسلوك.
إن سعة المساحة التي تندرج تحت عنوان (التوازن) تجعلنا نسير في أكثر من اتجاه في حياة الانسان المسلم من أجل أن نعطي في النهاية الصورة المتزنة للشخصية الاسلامية كما أرادها الله تعالى وهي مهمة صعبة وشاقة، لا لأن اعطاء المنهج الاسلامي في هذا الاتجاه عملية مطولة في ضوء التعقيدات الحياتية والاجتماعية والسياسية، بل لأن تحقيق التوازن الشخصي من أصعب المهمات التي يواجهها الانسان. فرغم وضوح الطريق الذي رسمه الاسلام، إلا أن المسلم تحركه رغباته وأنفعالاته النفسية فتحيد به عن طريق الطاعة والحق، وتدخله في مسارات تبتعد عن المنهج الاسلامي في المشاعر الداخلية وفي السلوك العام مع الآخرين.
وحين تطرح هذه المسألة للبحث فاننا نحاول أن ندرس الموضوع من أبعاده الحركية المرتبطة بالانسان وعلاقته بمجتمعه، باعتباره يحمل رسالة الاسلام، ويتحمل واجب التعامل مع هذه الرسالة بما أمرت به احكامها وتعاليمها الربانية.
وبعبارة اخرى، اننا نحاول أن نستقريء المنهج الاسلامي لنقدم الصورة التي يجب أن يكون طبقها الانسان العامل وهو يمارس دوره الرسالي وسط الامة، ويواجه أهواء النفس وتحديات الميدان السياسي والاجتماعي.
للوهلة الاولى قد يشير عنوان (التوازن في الشخصية) إلى معادلة ثنائية الاطراف يراد تحقيق التكافوء بين طرفيها حتى لا يحدث خلل في الموازنة، فيكبر الأول على حساب الثاني، وبذلك تختل الموازنة وتفقد الشخصية توازنها.
إن هذا الفهم الرياضي لتوازن الشخصية لا يمتلك قيمة علمية موضوعية، لأن الأتزان في مجال الشخصية لا يأخذ بُعداً ثنائياً، لأن الانسان كيان متعدد الابعاد يتوزع على اتجاهات ومجالات عديدة تغطي كل آفاقه، سواء ماانكشف منها عبر الممارسة والاحتكاك مع المجتمع، أو ما خفي في داخل الذات.
إن إتزان الشخصية عملية تسير في أبعاد مختلفة تشمل كل حياة الانسان وميادين تركاته، وعليه أن يعطي لكل بعد من هذه الابعاد حقه الطبيعي، ليجعل شخصيته قائمة على الاسس السليمة وفق ما رسمه الاسلام، وما أراده من الانسان في علاقاته مع الله.. ومع نفسه وفي سلوكه الخاص وفي علاقته بمجتمعه.
وعلى هذا فان حديثنا عن توازن الشخصية يتوزع على الاتجاهات الثلاثة التالية:
1 ـ التوازن في اطار الشخصية.
2 ـ التوازن في الدائرة الاجتماعية.
3 ـ التوازن في مجال العمل الحركي.
وقد شعرت بأهمية هذه المحاور وحاجة الانسان العامل اليها في حياته العملية، مما يدفعني إلى التأكيد على ضرورة تأمل تجارب العمل الاسلامي يمختلف مستوياته وساحاته ومواقعه، ودراسة هذه التجارب دراسة موضوعية ناقدة من أجل إثراء المسيرة الاسلامية من أبعادها المختلفة. وترشيد الخط الاسلامي في خطواته العملية من قبل العاملين للاسلام.
أسأل الله تعالى أن يحقق من وراء هذا الجهد خدمة للعاملين من أجل الاسلام، وأن يتقلبه خالصاً لوجهه الكريم.
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)
حسين الموسوي الشامي
شوال 1411 هـ
لندن
الفصل الأول .. التوازن في إطار الشخصية
تمثل نفس الانسان الاطار الاساس الذي يحدد معالم شخصية الانسان، فهي التي تجعل منه شخصية متزنة تتفاعل مع المحيط الاجتماعي بمرونة وحركية ونجاح وهي في مقابل ذلك قد تجعله انساناً مضطرباً مرتبكاً يتحرك بوحي الانفعالات والمشاكل النفسية، فيعتزل الحياة، ويتهرب من المجتمع. أو انه يبادل الحياة والناس نظرة عدائية متشائمة.
ودائرة النفس من المجالات الواسعة التي خضعت لدراسات مطولة من قبل الاختصاصين في علوم النفس والتربية والاجتماع. ورغم سعة النتاج الفكري في هذه الحقول، إلا أن النفس تظل عالماً غامضاً يصعب فك اسرارها، لأن الحل الحقيقي بيد الانسان نفسه. فلقد وهبه الله سبحانه من العناصر الذاتية ما يمكنه أن يجعل من نفسه شخصاً سوياً سوياً متوازناً. وحدد له سبحانه خطوات الطريق القويم ليسلكه في استقامة وهدى. حيث بين له أبعاد كل حركة فيه وكل خطوة من خطواته، وترك له حرية الاختيار، فأما أن يتملك الارادة ويسلك نهج الهدى، واما أن يفقدها فيضيع في الضلال (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)(1).
ولا تكفي الارادة وحدها لأن تخلق من الانسان شخصية متوازنة، بل لابد من منهجية دقيقة يسير على ضوئها في علاقته بالله تعالى ومع نفسه ومع محيطه. وكل ذلك فصله الاسلام في تعاليمه، ووضعه أمام الانسان ليربي نفسه وليجعل منها كياناً متوازناً يعيش الحياة والرسالة (وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه)(2).
___________________________________
(1) سورة الدهر: 3.
(2) سورة الانعام: 153.
وفي هذا المنهج التربوي الاسلامي نلتقي اولا مع الخطوة الاساسية الأولى، وهي علاقة الانسان بالله تعالى. فالايمان به سبحانه هو المرتكز الأكبر في الشخصية الاسلامية وهو المقياس الذي يحدد مدى استعداد الانسان المسلم لتحقيق النجاح الشخصي مع نفسه ومجتمعه. فكلما ارتفع في هذا المقياس كلما أقترب من الصورة المثالية للشخصية المتزنة. وقد وردت الكثير من الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة التي تبين قيمة الايمان، وأثره في الشخصية وفي الحياة وما يترتب عليه من نتائج كبيرة على المستوى الفردي والجماعي.
(ولو أنهم آمنوا واتقّوا لمثوبةٌ مِنْ عِند الله خيرُ)(1)
(فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلُهُم في رحمة منهُ وفضل ويهديهم إليهِ صراطاً مستقيماً)(2).
وعن الامام علي عليه السلام: (المرءُ بايمانه)(3)
وعن الامام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين). قال: هو الايمان. وفي قوله تعالى: (وأيدَّهم بروح منه) قال: هو الايمان. وفي قوله تعالى: (وألزمهم كلمة التقوى). قال: هو الايمان(4).
ان الايمان هو القاعدة الاساسية التي يقام عليها البناء الشخصي ولذلك حرص الاسلام على تربية الانسان تربية ايمانية صحيحة ليصنع منه الانسان الرسالي الذي تعيش الرسالة في أعماقه، ويمارس دوره في الحياة وفق خط تصاعدي لا إهتزاز فيه. فهو يريد الانسان ان يكون سوياً مستقيماً مع نفسه ومع غيره، وهذا ما لا يحقق إلا بالتوافر على الرصيد الايماني الضخم الذي يمنح الانسان قوة الثبات وقدرة الصمود
___________________________________
(1) سورة البقرة: 103.
(2) سورة النساء: 175.
(3) غرر الحكم: 15.
(4) اصول الكافي 2: 13.
أمام الاهواء والاغراءات الذاتية.
فالايمان هو الذي يجعل الانسان متزناً يواجه الحياة بقوة وتتحول عنده المتاعب والمعاناة إلى متعة في سبيل الله فيعطي لها وعي وارادة لمواجهة كافة الظروف والتحديات الصعبة.
(ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)(1)
فالايمان شرط اساسي لتحقيق حالة العلو والنصر والغلبة، وعدم الانهيار امام الهزات الطارئة.
ويصف الامام الصادق عليه السلام المؤمن بقول:
(ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثماني خصال: وقوراً عند الهزاهز، صبوراً عند عند البلاء، شكوراً عند الرخاء، قانعاً بما رزقه الله، لا يظلم الأعداء، ولا يتحامل للاصدقاء، بدنه منه في تعب والناس منه في راحه، إنَّ العِلمَ خليلُ المؤمن، والحلمُ وزيُرهُ، والعقل أميرُ جنوده. والرفق أخوهُ، والبرّ والدهُ)(2).
________________________________
(1) سورة آل عمران: 139.
(2) اصول الكافي 2: 39.
بين الايمان والعمل
لا ينحصر الايمان في جو نفسي معزول عن الحياة، بل هو الدافع الأكبر للتحرك وسط الحياة وللتفاعل الواعي والهادف مع أجزائها ومفرداتها. مع الناس والمواقف وهذا ما نقرأه في الكثير من النصوص الاسلامية التي قرنت الايمان بالعمل في علاقة عضوية متداخلة.
(إنْ الذينَ آمنوا وعملوا الصالحات لهْم جنات)(1).
___________________________________
() سورة البروج: 11.
(وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكُم عندنا زُلفى إلاّ منْ آمن وَعَمِلَ صالحاً)(1).
(ومنْ يأته مؤمناً قد عَمِلَ الصالحات فأولئك لهم الدرجات العُلى)(2).
وعن الرسول (ص):
(الايمانُ عقدٌ بالقلبِ، ونطقٌ باللسان، وعملٌ بالاركانِ)(3).
وعن الامام علي (ع):
(الايمانُ والعملُ أخوان توأمان ورفيقان لا يفترقان، لا يقبلُ الله أحدهما إلا بصاحبه)(4).
وعن الامام الصادق (ع):
في قول الله عزّ وجل: (ومنْ يكفرُ بالايمان فقد حبط عملهُ)قال: (كفرهُم به، تركُ العملِ بالذي أقرّوا به)(5)
وعنه أيضاً (ع):
(ليس الايمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الايمان ما خلص في القلوب وصدّقته الاعمال)(6)
ان هذه النصوص تبين لنا الترابط العضوي بين الايمان والعمل، مما يكشف عن الدور الكبير للعمل في الحياة الايمانية، فالانسان لا يكون مؤمناً ما لم يقترن ايمانه بالعمل الصالح. وبذلك فان الايمان لا يأخذ قيمته الايجابية وصفته الصحيحة فيما لو
___________________________________
(1) سورة سبأ: 37.
(2) سورة طه: 75.
(3) أمالي الطوسي 2: 64.
(4) غرر الحكم: 55.
(5) المستدرك 2: 274.
(6) تحف العقول: 272.
تجرد عن العمل. إذ سيتحول إلى قيمة مهملة، كما مرّ في حديث الامام علي عليه السلام.
وفي مقابل ذلك فان العمل لا يكون إلا من خلال الايمان، فهو أيضاً يصبح قيمة سلبية مهملة فيما لو فقد صاحبه الجانب الايماني، لكنه يتحول إلى قيمة كبيرة إذا ما سبقه الايمان، وكان منطلقاً من قلب مؤمن بالله تعالى.
وهكذا فان الاسلام يريد من الانسان ان يحقق التوازن في مجال العلاقة مع الله تعالى فيكون مؤمناً به ايماناً صادقاً خالصاً، وفي نفس الوقت عاملا في سبيله بصدق واخلاص، من أجل أن تكون شخصيته اسلامية صالحة تنفع الاسلام والمسلمين، وترتفع في هذه الاجواء الايمانية نحو درجات التكامل.
ان الاسلام يعتبر ان اي اختلال في هذه العلاقة من شأنه أن يضعف محصلتها النهائية، ومن ثم تفقد الشخصية روحيتها الاسلامية، بل انها تبتعد عن منهج الاسلام فيما لو فقدت أحد العنصرين (الايمان أو العمل).
وعندما نطبق هذا المفهوم الاسلامي على الواقع، فاننا نستطيع ان نكتشف الآثار السلبية لاختلال التوازن في هذه العلاقة. فلو ان المسلم تحرك ميدانياً ودخل ساحة العمل بدون الرصيد الايماني المطلوب فانه لا يكون عاملا للاسلام، لأن اعماله ستكون صادرة من رغبات ذاتية يريد من ورائها أن يُلبي حاجة النفس واهواءها، وإن كان مظهرها اسلامياً. وهو سيصطدم حتماً بالمصلحة الاسلامية، لأن هذه المصلحة لا تحقق رغباته الذاتية، مما يجعله يتجاوز مصلحة الاسلام ويُسيء إلى العمل الاسلامي إرضاءً لرغباته وأهوائه. وبذلك بدل أن يكون عنصر عمل صالح، فانه سيتحول إلى مصدر إفساد وازعاج داخل الوسط الاسلامي أو المجتمع بشكل عام.
وقد ابتلي واقعنا بالكثير من هذه الحالات، لاسيما في أجواء العمل السياسي، حيث تبرز الذات الشخصية بشكل مؤثر على الانسان العامل، فيسقط ضحية الاغراء، وينسى دوره الرسالي المطلوب، وينقلب إلى أنسان يتخذ من جو العمل الاسلامي عنواناً يخفي تحته رغباته وتطلعاته الشخصية.
وربما تتعاظم عنده هذه الحالة فيكون هدفه الذات وليس الاسلام، وذلك عندما يضعف الجانب الايماني في داخله، ويقترب من الدرجات المتدينة، وهنا سيصبح عنصر ضرر فادح في جسم التحرك الاسلام ومجتمع المسلمين.
ان مثل هذه الحالات هي من الكثرة بحيث لا يخلو مجتمع أو حركة اسلامية منها، لأنها لا ترتبط بالاعتبارات الاقليمية أو القومية أو ما شاكلها. انها تتصل بالجانب النفسي للانسان أينما كان ومتى كان.
وهذه الحالات من الكثرة بحيث ان لها درجات متفاوته الشدة والضعف. فهناك من يسقط اسيراً لها على طول خطه العملي، وهناك من يضعف لفترات قصيرة ثم يكتشف نفسه فيعود إلى صوابه، وهناك بينهما درجات مختلفة.
ان العاملين للاسلام هم موضع ابتلاء بصورة يومية، لأنهم يتعاملون مع الحياة بكل ما فيها من اغراءات وتطلعات والسعيد من راقب نفسه وميّز بين ما هو اسلامي وبين ما هو ذاتي، وسخّر كل طاقاته وجهوده من أجل الاسلام ومصلحته، وعمل مخلصاً ابتغاء وجه الله الكريم.
هذه هي الخطورة التي تهدد الانسان العامل حين يضعف عنده الجانب الايماني، وفي مقابلها يقف النموذج الآخر، الانسان الذي يؤكد على البناء الايماني وحده ويترك العمل.
في هذا الخصوص لا بد من القول ان هذا الاتجاه، يعبر عن فهم خاطيء للاسلام، لأن معنى الايمان لا يتحقق بدون العمل، كما اشارت إلى ذلك الآيات القرآنية والاحاديث الشريفة الورادة عن الرسول وأهل بيته عليهم السلام.
فمثل هذا الانسان يتصور انه يسلك طريق الصلاح، لكنه في الحقيقة يسير في طريق آخر. فالله تعالى لا يريد من عبده أن يعيش العزلة، وأن ينقطع عن الحياة والناس. انه كانسان، يحمل رسالة كبيرة، وهو خليفة الله في الأرض، وعليه مسؤولية النهوض باعباء الرسالة والخلافة.
لقد جاء الاسلام رسالة انسانية عامة شامة، ولابد من نهوض المسلمين باعبائها، لتأخذ مكانها المطلوب في الحياة. ولا يمكن تصور الاسلام يحكم الحياة من دون أن يحمل رسالته ابناؤه.
وإذا كانت الحالة السابقة التي تتمثل في ضعف الجانب الايماني تشكل خطراً على العمل الاسلامي، فان ترك العمل والابتعاد عن ميدان الحياة هي حالة خطر أخرى. لانها تستفرغ من الاسلام رسالته الحقيقية وتحول الانسان إلى رقم مهمل في الحياة لا يؤثر فيها ولا يتعامل مع مفرداتها الكبيرة والكثيرة. انها تلغي المهمة التغييرية التي يتحلمها الانسان المسلم في حياته وسط مجتمعه وفي مواجهه اعداء الاسلام.
ومما يلفت النظر ان العديد من العاملين للاسلام، يقعون ضحية هذا الفهم الخاطيء في مرحلة من مراحل العمل. فعندما تطول بهم المحنة أو عندما يواجهون العقبات الكبيرة التي تعترض طريق المسيرة يصابون بانتكاسه كبيرة تفقدهم توازنهم، فيبتعدون عن أجواء التحرك ويتعزلون ساحة العمل، على اساس أن لا جدوى من العمل وان الميدان السياسي يُفقد الانسان طهارته ويلوث نفسه فيبعده عن الله سبحانه وعن الاسلام وعن الطريق المستقيم، وان من الأفضل الانقطاع عن مداخلات التحرك، والابتعاد عن الساحة، ليحافظ الانسان على ايمانه ونقاوته وطهارته.
وقد يبرر البعض مواقفه هذه بالقول ان الظروف الاجتماعية والسياسية لا تساعد على المضي في المسيرة وانها فتنة يجب الابتعاد عنها في انتظار الاجواء المناسبة التي لا تلوث الانسان ولا تسلبه تقواه وايمانه.
لقد عشنا هذه الحالات عن قرب وعاشها كل العاملين في سبيل الله في الساحات الاسلامية، وفي فترات زمنية مختلفة. حيث يترك بعض العاملين مواقعهم الحركية ليعيشوا العزلة في زوايا منقطعة عن الحياة في واقعها العملي والسياسي.
ويعتقد هؤلاء انهم يحققون بذلك ايمانهم، لكنهم في الحقيقة ينقصون من هذا الايمان، لأنهم يشطبون على توأمه الآخر، وهو العمل كما في حديث الامام عليه السلام:
(الايمان والعمل أخوان توأمان، ورفيقان لا يفترقان، لا يقبل الله أحدهما إلا بصاحبه)..
أو انهم يكفرون بالايمان كما في حديث الامام الصادق عليه السلام عن قوله عزّوجل (ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله). قال: (كفرهم به، ترك العمل بالذي أقرّوا به). إن الاسلام يرفض أن يكون الايمان مجرداً عن العمل كما أنه يرفض العمل الذي لا يستند على الايمان، انه يريد تفاعل الاثنين معاً لانهما يرتبطان في علاقة عضوية متلازمة. فالاسلام يريد الانسان أن يكون مؤمناً عاملا في نفس الوقت حتى يصبح الانسان الداعية الذي يتحرك في الحياة من أجل خدمة الاسلام ومصالحه، وخدمة المسلمين ومصالحهم.
البناء الثقافي
من المقومات الاساسية في شخصية الانسان، المستوى الثقافي الذي يمتلكه ومع تطور الحياة وتنوع اغراضها أصبح للثقافة دور أساسي في حياة الانسان، بحيث أنه لا يستطيع أن يواكب حركة المجتمع ما لم يتمتع بحصيلة ثقافية مقبولة.
ولا نريد هنا أن نسرد الأدلة على ضرورة المستوى الثقافي للانسان المسلم، باعتبار ان ذلك من البديهيات التي يعرفها الجميع، لكن ما نحاول دراسته في هذا الموضوع هو صلة الثقافة بالتوازن الشخصي، والنظرة الخاطئة من البعض حول التعامل مع الثقافة والتي تشكل خللا في الشخصية وذلك من خلال المشاهدات الميدانية لمثل هذه الحالات.
في البداية لا بد من التعرف على نوعية الثقافة التي يحتاجها الانسان الرسالي في حياته العملية والاجتماعية، وهو يمارس دوره كعامل في سبيل الله تعالى.
ان مهمة العاملين للاسلام تتمثل في تغيير الناس على اساس الاسلام، وهذه مهمة تتسع آفاقها لتشمل كل شرائح المجتمع، ولتحتك بكل الظروف والمؤثرات الاجتماعية والفكرية والسياسية. مما يفرض على العاملين ان يمتلكوا ثقافة واسعة بسعة ميدان العمل الاسلامي اذ لا يمكن ان ينجح الاسلوب التغييري ما لم يستند على تصورات مسبقة حول المجال الذي يستهدفه فاذا كانت التصورات تحيط به من كل أبعاده، أمكن للاسلوب أن يأتي متكاملا. أما اذا عانى من قصور الاحاطة فان من الصعب أن يوفر عناصر النجاح المطلوبة، وان يبلغ هدفه بالشكل الصحيح.
ولا نقصد بالاحاطة التوافر على دراسة كافة الجزئيات والتفصيلات في حياة الناس وفي مجالات الحياة، لأن ذلك هدف كبير لا تتيح الظروف للانسان العامل ان يحيط به لكن ما نقصده هي أهمية التمتع بمستوى ثقافي عام يعين الانسان على فهم الحياة في مجالاتها السياسية والفكرية والاجتماعية. كما ان من الضروري إلى جانب الثقافة العامة، إمتلاك المستوى التخصصي في حقل من حقول الحياة.
واضافة إلى ذلك، فان طبيعة الحياة الاجتماعية تفرض على الانسان ان يحتك بمفرداتها وحركاتها، والمطلوب منه كانسان رسالي ان لا يمر على الاشياء دون أن يرصد كل موقف يمر به وان يدرس كل ظاهرة يواجهها وان يتفكر في كل جزء من أجزائها، من أجل أن يجعل الموقف والحدث والظاهرة مصدراً من مصادر ثقافته فيحيط بظروف الامة وعوامل التأثير فيها، ونقاط قوتها وضعفها. وبذلك يمتلك رصيداً من الثقافة العملية أو ما يصطلح عليه بالحس الاجتماعي.
إن الترابط بين الثقافة وبين الخبرة الاجتماعية من المسائل الاساسية لنجاح مهمة الانسان الرسالي. فلا يكفي أن يمتلك رصيداً ثقافياً حول المجتمع، بل ان هذا الرصيد قد يسبب له إرباكاً واضطراباً في تحركه ما لم يمتزج بالحس الاجتماعي اذ ان المفهوم النظري لا يكفي وحده لأن يجعلمن الشخصية الحركية شخصية مؤثرة ناجحة في عملها.
ولقد بينت لنا تجارب العمل أن العديد من العاملين فشلوا في مهمتهم التغييرية واصيبوا باحباط نفسي كبير، لأنهم وجدوا ان ثقافتهم الواسعة لم تحقق أثراً عملياً والسبب الحقيقي هو ضعف الحس الاجتماعي عندهم، حيث كانوا يفكرون ويعملون وفق ما يختزنونه من رصيد نظري حول المجتمع.
وإلى جانب هذه الحالة هناك من يتمتع بحس اجتماعي جيد لكنه يفتقر إلى الثقافة العامة، ويبرر ذلك بان العمل الاسلامي مع الناس لا يحتاج إلى مستوى ثقافي كبير، لأن عامة الناس لا يمتلكون مثل هذا المستوى.
ان هاتين الحالتين وإن كانتا متعاكستين إلا انهما يمثلان خللا في فهم الدور الرسالي والابعاد الحقيقية للثقافة، الأمر الذي يجعل من الشخصية غير متوازنة في المجال الثقافي.
كما ان هناك حالات اخرى تندرج ضمن ظاهرة الخلل هذه. حيث نجد ان بعض العاملين يميلون الى حقل خاص من الثقافة ينسجم مع طموحاتهم الخاصة وولعهم الفكري، فيجهدون أنفسهم للتثقف في هذه الاتجاهات التي لا تخدم التحرك الاسلامي ولاتمس واقع الحياة العملية، انما هي من باب الترف الفكري.
ان الداعية إلى الله لا بد أن ينطلق في تحصيله الثقافي من تقديره لحاجة التحرك الاسلامي إلى الثقافة وليس من خلال ما يحب ويكره.
ولقد ورد في أحاديث أهل البيت عليهم السلام ما يعالج حالات الخلل، وما يحدد منهج الثقافة للانسان المؤمن، بما يخدمه ويخدم رسالته. ومن خلال تلك الاحاديث يمكن أن نقدم اسس الثقافة الصحيحة التي يحتاجها الانسان المؤمن لبناء شخصيته الرسالية، وبالشكل الذي يساهم في تحقيق توازنها:
1 ـ لا ينفصل التحصيل الثقافي عن الجانب الايماني، فبدون الايمان تتسرب إلى نفس الانسان الاهواء والنزعات الشريرة، فتجعله يحيد عن الهدف الصحيح من وراء التحصيل الثقافي. حيث يصبح العلم وسيلة دنيوية لخدمة الذات. وهذه من المخاطر الكبيرة التي يواجهها الانسان في حياته الثقافية.
لقد حرص الاسلام على تنفية النفس من كل شوائب الذات. وفي مجال التثقيف الشخصي أكدت تعاليم الاسلام على ضرورة الانطلاق من القاعدة الايمانية الحقيقية فيكون محفز الانسان على زيادة ثقافته نابعاً من احساسه العميق باهمية الثقافة من أجل خدمة الاسلام والمجتمع الاسلامي، كوسيلة من الوسائل التي تحتاجها الدعوة إلى الله.
يقول الرسول (ص):
(يا ابن مسعود، من تعلّم العلم يريد به الدنيا وآثر عليه حُب الدنيا و زينتها استوجب سخط الله عليه، وكان في الدرك الاسفل من النار)(1)
ويقول الامام علي (ع):
(وإياكم أن تطلبوه لخصال أربع: لتُباهوا به العلماء، أو تُماروا به السُّفهاء، أو تراؤوا به في المجالس، أو تصرفوا وجوه الناس إليكم للتروس)(2).
وهكذا فان المنطلق الاول لكسب الثقافة هو موضع ابتلاء كبير للانسان، ويأخذ هذا المنلطق شكلا منحرفاً فيما لو فقد الاساس الايماني الذي يستند عليه. فمن غير التوافر على البناء الايماني الصحيح، فان الاهواء الذاتية ستدخل في المنهج الثقافي لتجعله محاولة ذاتية تخدم الشخص ولا علاقة لها بالاسلام والحياة الاسلامية.
2 ـ اعتماد الثقافة التي تمس الواقع وتحقق للانسان قوته الاجتماعية بابعادها المختلفة. فليس كل مجال للمعرفة فيه فائدة للبنية الفكرية للانسان، فهناك مجالات
___________________________________
(1) مكارم الاخلاق: 528.
(2) الارشاد: 111
يتساوى فيها الانسان سواء عرفها أو جهلها، فهي خارجة عن دائرة الحياة العملية وعن نطاق الثقافة البناءة، بحيث لا تصلح إلا للترف فحسب.
عن الامام الكاظم (ع) قوله:
(دخل رسول الله (ص) المسجد فاذا جماعة قد أطافوا برجل. فقال: ما هذا ؟ فقيل: علاّمه. فقال: وما العلاّمة ؟ فقالوا له: أعلم الناس بانساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية والاشعار العربية فقال النبي (ص): ذاك علم لا يضرُّ من جهله ولا ينفع من علمه. ثم قال النبي (ص): إنما العلمُ ثلاثةٌ آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سُنةٌ قائمة. وما خلاهن فهو فضل)(1)
وعن الامام علي (ع):
(واعلْم انه لا خير في علم لا ينفع، ولا ينفع بعلم لا يحقُّ تعلّمهُ)(2)
فلا بد للثقافة من منهجية يعتمدها الانسان، فيحدد حاجاته للتحصيل العلمي سواء ما يتصل بدوره التغييري أو مهمته الاجتماعية والسياسية. فمن العبث أن يتجه في المجالات الثقافية لأجل تحقيق رغباته النفسية والتي لا علاقة لها بحركته وواقعته.
وهذا ما عبر عنه الامام علي عليه السلام بقوله: (الفكر في غير الحكمة هوس)
ويشير هذا الحديث إلى تهذيب الاتجاه الثقافي للانسان فلا فائدة في كسب الثقافة، اذا ما فقد الانسان الحكمة، انها ستتحول إلى مجرد معلومات ارشيفية يختزنها في رأسه دون أن ينتفع بها أحد، ودون أن يعكسها على الواقع العملي.
___________________________________
(1) اصول الكافي 1: 32.
(2) نهج البلاغة: 910.
3 ـ وقد ينساق الانسان في اتجاه واحد من الثقافة بحجة انه لابد من التخصص في ميدان محدد، على اعتبار ان الاحاطة بالمعارف الانسانية عملية صعبة أو مستحيلة ولذلك يقضي مثل هذا الانسان عمره في اتجاه واحد متوسعاً إلى درجة الترف.
ان التخصص منهج علمي وهو مطلوب في الحياة الثقافية لكن التخصص لا يعني الاستغراق في المجال الثقافي المحدد، والدخول في تفصيلات وآفاق جزئية تبتعد عن واقع الحياة، وبالمستوى الذي يستهلك كل جهوده الفكرية، فلا يستطيع أن يثقف نفسه في المجالات الاخرى من الفكر والثقافة.
ان سوء فهم التخصص يفرط من الطاقات الفكرية. لاسيما وان البعض تطرف في مفهوم التخصص، حتى صار يجهل المجالات الثقافية الواسعة مما هي خارج دائرة تخصصه. ولعل البعض لم يعد يفهم من الحياة إلا بمقدار ما يتصل بحقله الخاص. بل انه قد يحكم على الناس من خلال مستواهم الثقافي في هذا الحقل.
ولا نحتاج إلى أدلة لأثبات سلبية هذا التوجه. فهو يعزل صاحبه عن الحياة والمجتمع، لأنه لا يستطيع ان يتفاعل معها ومع الناس إلا في حدود تخصصه، وهو ما يلتقي مع عدد محدود من ابناء المجتمع بطبيعة الحال.
ان التخصص مسألة متفق عليها، خصوصاً وان الاحاطة بالمعرفة من كل جوانبها عملية غير ممكنة. لكن التخصص لا يعني الابتعاد عن الآفاق الثقافية والانسانية الاخرى، إذ لا بد للانسان من ثقافة عامة بالمستوى المعقول.
يقول الامام علي (ع):
العِلمُ أكثر من أن يُحاطُ به فخذوا من كل علم أحسنه)(1)
4 ـ واستكمالا للنقطة السابقة، فان التخصص يجب أن يخضع لمقياس الحاجة إلى حقل التخصص. فحتى لو ضمن الانسان استحصال الثقافة العامة، فان ذلك لا يبرر
___________________________________
(1) غرر الحكم: 42.
له ان يتخصص في حقل بعيد عن حاجة العمل الاسلامي أو الاجتماعي أو السياسي، لأن الاساس في تحصيل الثقافة هو تحديد الحاجة اليها والدور المطلوب منها سواء على صعيد الفرد أو الجماعة. وان الثقافة العامة ليست واجباً اسقطه الانسان فاصبح بميسوره ان يسلك اتجاهاً ثقافياً ينسجم مع هوايته ورغبته. ان الاسلام يضع قاعدة الفائدة من الثقافة كمقياس عام ثابت في توجهات الانسان الثقافية على مستوى التخصص او الاحاطة العامة بالمعارف والمجالات الحياتية.
يقول الامام علي (ع):
(أحسنوا النظر فيما لا يسعكُم جهلهُ، وانصحوا لانفسكُم وجاهدوها في طلب معرفة لا عذر لكم في جهله فان لدين الله أركاناً لا ينفعُ من جهلها شدةُ إجتهاده في طلب ظاهر عبادته، ولا يضرُّ من عرفها فدان بها حُسن إقتصاده، ولا سبيل لأحد إلى ذلك إلا بعون من الله عزَّ وجل).
ويقول الامام الكاظم (ع):
(أولى العلم بك ما لا يصلُحُ لك العمل إلا به، وأوجب العمل عليك ما أنت مسؤول عن العمل به، وألزم العلم لك ما دلَّك على صلاح قلبك وأظهر لك فساده، وأحمدُ العلم عاقبة مازاد في علمك العاجل، فلا تشتغلن بعلم لا يضُرك جهله، ولا تغفلن عن علم ما يزيد في جهلك تركه).
الفصل الثاني .. التوازن في الدائرة الاجتماعية
إهتم الاسلام كثيراً بعلاقة المسلم مع مجتمعه، فقد حدد في تعاليمه ومناهجه الالهية، الصيغ المطلوبة لهذه العلاقة التي تهدف الى تعزيز الرابطة الاجتماعية بين المسلمين وصناعة المجتمع الاسلامي المتماسك في علاقاته وأسسه وعناصره.
وقد رسم الاسلام خطاً تصاعدياً في هذا الخصوص، يبدأ من الانسان ثم ينتهي بالمجتمع وخلال هذا الشوط الطويل يتحمل الانسان المسلم المسؤولية الكبرى في توفير مستلزمات الحياة الاجتماعية المطلوبة. فالفرد لا ينفصل في تصرفاته وسلوكه عن المحيط الذي يعيش فيه. فهو وحدته الاسياسية. وقد تتحول هذه الوحدة إلى عنصر بناء أو ربما تصبح عامل هدم. وفي كلتا الحالتين يرتبط السلوك الفردي بالحصيلة الاجتماعية للمحيط الذي يعيش فيه.
في البداية نقف مع الانسان المسلم في علاقته مع مجتمعه لنتعرف على ملامح الانسان الذي يريده الاسلام في هذا الشأن.
لقد حرص الاسلام على موقع الانسان في المجتمع لذلك أكد على الترابط الميداني بينه وبين مجتمعه فالانسان لا يملك ان ينعزل عنه ويبتعد عن مجاله، انه جزء منه وعنصر فيه، وعليه يتفاعل مع ويسير في حركته عاملا ومؤثراً.
فالاسلام يحفز دائماً الحس الاجتماعي عند المسلم، ويضعه امام واجبه الكبير تجاه المسلمين. حيث يؤكد على الرابطة الوثيقة بينه وبينهم والتي لا يمكن أن تنقطع مادام الانسان يتمسك بتعاليم الاسلام واحكامه. بل ان الاسلام شدد على هذه الرابطة بقوة، بحيث اعتبر ان من يتخلى عن جماعة المسلمين يكون بمثابة المتخلي عن الاسلام.
فعن الرسول (ص): (منْ فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه) قيل: يا رسول الله وما جماعة المسلمين ؟.
قال: (جماعة أهل الحق وان قلوا)(1)
وعن الامام الصادق (ع):
(منْ خلع جماعة المسلمين قدر شبر خلع ربقة الايمان من عنقه)(2).
ان هذا التأكيد على ملازمة الجماعة، انما من أجل حفظ المجتمع الاسلامي كخطوة أولى، وعدم إفساح المجال امام محاولات التفتيت والاضعاف. وفي كل واحد من هذين الاتجاهين يمثل الفرد المسلم العنصر المؤثر بالدرجة الاولى سواء في عملية الحفاظ على الجسم الاجتماعي للمسلمين، أو في عملية الاضعاف والتفتيت.
وليس المقصود بملازمة الجماعة ان يساير الانسان المسلم مجتمعه في كل اموره وعاداته وسلوكياته. فهناك مظاهر تتعارص مع الاخلاق الاسلامية، لكن المقصود هو التعايش مع أهل الحق من المسلمين والتفاعل معهم وعدم تركهم أو الانعزال عنهم.
كما انه لا معنى لأن تكون العلاقة مع الآخرين باردة خالية من التفاعل الايجابي، فالحياة الا�
ساحة النقاش