ماهر مهران في أوجاعه المتوحشة:

عنْدمَا تَصلُ الأوْجاعُ حَدَّ الافْتراسْ
عاطف محمد عبدالمجيد
مَنْ يقرأ دواوين ماهر مهران الخمسة يجد شيئين واضحين تمام الوضوح ، أول هذين الشيئين هو أن هذا الشاعر انتهج لنفسه قاموسا ولغة يخصانه و لاينازعه فيهما أحد ،أما الشئ الثاني فهو التصاقه بأرضه التصاق الباب بالحائط ، حتى أن القارئ لشعره يشتم رائحة طين الأرض وعرق الفقراء الكادحين التي تفوح من بين ثنايا سطوره الشعرية . وهنا لابد من التأكيد على أن هذا الشاعر مهتم ـ إلى أقصى حد ـ بأرضه /مسقط رأسه في صعيد مصر على الرغم من هجرته إلى القاهرة واستقراره بها منذ سنوات.
بالفعل مَن يقرأ قصائد ماهر مهران في ديوانه الخامس(أوجاع متوحشة) الذي صدر مؤخرا يشعر وكأنه يعيش هناك على الأرض التي نبت فوق ثراها هذا الشاعر ومع ناسه الذين يكتب عنهم ، وهذا ما يحسب للشاعر في وقت نجد فيه كثيرين يهتمون بما يُسمَّى بالقصيدة اليومية ، أو باليوميات ، وكتابة الذات ، بالطبع ليس هذا مرفوضاً لكننا في عصر يحمل أجنةً للعديد من القضايا الهامة جدا والتي يُعدُّ تركها والدخول في عالم الذات ـ المنفصلة عن عالمها ـ نوعاً من الترف الغير مقبول والغير مبرركذلك.
لقدانفصل ماهر مهران عن ذاته وراح يرتدي سروال الفلاح الفقير الكادح الذي يطحنه العمل والكد في الحقل ، وحمل الفأس مع المغلوبين على أمرهم وبدلا ًمن أن يحرث في أرض بور ، استخدم معوله في حراثة أرض الشعر لكي يبذر فيها ما قد يتعهده بالرعاية والاهتمام ، حتى يُؤتي ثماره ، وربما يزيد.
وانظر ـ بداية ـ إلى تلك الصورة الحية التي ينقلها لنا عبر قصيدته الأولى من الديوان ـ هو لا يُسمِّي أغلب قصائد الديوان لكنه يضع لكل واحدة منها رقما ـ :
واقف في طريق طويل/
شبه الحياة../
لا الخطوة واخداني لـ بدايته /
ولا قادر أوصل منتهاه/
واديني/
ع أغوص قوي في الرمل /
ع أغوص أنا والحمل/
لا إيدي متشعلقة ف قشة/
ولا رجلي تحت منها حصاة!!
إنها صورة لا يدركها ولا يفهم مفرداتها الحقيقية ومغزاها سوى ذلك القروي الذي رضع رضعاتٍ مشبعاتٍ من ثدي الأرض طيناً وماءً.
ولنتحرك معه ببطء حين يُسلِّط كاميرا قلمه ناحية هزائمنا المتكررة ـ التي ربما تكون قد وصلت بنا إلى مرحلة التعود الروتيني ! ـ والتي نُصاب بها كل حين نتيجة لواقع متأزم وأوجاع كادت أن تصل إلى حد الافتراس:
نضحك
ونلعب
وناكل الحياة دي أكل..
وقبل الفجر ما يشقشق
نرجع كل ليلة
بـ هزيمة شكل!!
ولننتقل إلى مشهد آخر يصور فيه الشاعر فجاعة الفقر الذي يتعاطاه الكثيرون هناك في البعيد دون أن يعرف طريقهم أحد ، وإذا عرف فلا يفكر في الوصول إليهم رغم مسئوليته عنهم ، يقول الشاعر في قصيدة كميش ـ وهي من قصائد الديوان الطويلة (معظم قصائد الديوان قصيرة) ـ :
لا ليه صحاب
ولا عنده لمة
كل حلمه محتاج لـ تكوة
أو حتى ضروة
أو عصاية يسند عليها
أو حضن دافي في دفاه يعيش
لكن تملي نلقى زمانه
يكشر في وشه
وبعلو صوته يقول مفيش!!
أليس هذا أمراً غريباً ومثيراً للضحك المُبكي ونحن نسمع عن أناس (هبروا ) المليارات على مرأى ومسمع من الجميع ولا أحد يلوم عليهم ولا يعتب ولا حتى (دياولوا)؟!
وبعد أن أسرف ماهر مهران في وصفه وتصويره للفقر المدقع ولأصحابه الذين وقَعوا معه اتفاقية دائمة حَوَّل زاوية الرؤية إلى هؤلاء الذين يمتصُّون دماء الشعوب وينهبون أموالهم ويرحلون إلى هناك بكل غال وثمين ، ونحن نجلس هنا لا نفعل شيئاً سوى مصمصة الشفاه والحوقلة:
طول ما أنت
ما ع تستعفي علينا
وتعمل دراكولا
وتنزل في دمنا مص
يبقا قول ع الدنيا
يا رحمن يا رحيم
واستنا تخرب مالطة
ويسود الهزار والهجص.
إنها قمة الكوميديا المحشوة بقمة التراﭽيديا ، وكأنه يؤكد هنا على فكرة الصراع بين الخير والشر ـ من زاوية أخرى ـ لكنه صراع من نوع آخر، صراع بين فئتين غير متكافئتين ، فكيف تكون النهاية؟!
حقيقة لا نعثر لدى الشاعر على إجابة لهذا السؤال، ربما لأنه يود أن يتركنا لندرك بأنفسنا طبيعة النهاية ، أو ربما لأنه يئس من الحصول على حل لهذا الصراع ، أو ثمة شئ آخر لم نصل بعد لتوصيفه.
أحيانا ـ قد يكون ذلك من قبيل الفانتازيا ـ يحاول الفقير الذي لا حيلة له أن يتخلى ولو قليلا عن حقيقته( الفقرية ) وأن ينسلخ من عالم الواقع متجها إلى عالم الأحلام ، ولقد حُمد الرب على أن جُعلت الأحلام مجانية ، لا يُدفع لها أي مقابل .حقا إنها لكارثة لو فكر أحدهم يوما في تخصيص الأحلام وإلغاء مجانيتها!
غير أن الواقع المرير لا يترك لهؤلاء لحظات سعيدة ـ بعض الشئ ـ يرتاحون فيها قليلا من عناء الواقع المتوحش ، بل يحاول جاهدا أن يغتال أحلامهم البسيطة ، ولهذا فهم أصبحوا يترددون كثيرا قبل أن يطرقوا باب الأحلام حتى لا يصابوا بيأس قاتل إذا ما كان الأمر غير ما يتوقعون. لهذا نجد الشاعر يدعو هؤلاء إلى عدم التردد الذي يقتل الأحلام بداخلهم :
إعند وزاحم وعافر
وعديها بانسجام
وإياك تفتح شبابيك صدرك
لريح التردد
دا ياما التردد
قتل جوه مننا أحلام!!
هؤلاء هم الفقراء كما يصورهم لنا ماهر مهران في ديوانه (أوجاع متوحشة) وكما يراهم بعض منا ويرصد تحركاتهم ولكننا لا نفعل حيالهم شيئا ، أما الشاعر فقد ابتعد عنا لكي يعيش معهم قلبا وقالبا ليجسَّدهم لنا على صفحات ديوانه هذا عَ لَّنا نشعر بهم شعورا حقيقيا وعسى أن ينتبه إليهم من قد غفل عنهم كثيرا . وقد يكون ذلك بمثابة الثورة التي بدأها الشاعر لكي يُغيِّر أنماطا لا يستسيغها ولا يقبلها ، لكنه في مقابل ذلك عليه أن يقدم الكثير حتى يحصد ما يريد.وإذا ما استمر الشاعر على هذا النحو فسوف يقدم الكثير بالفعل وسوف يحفر له اسما بارزا ومتفردا في عالم الشعر ولن يكون بذلك واحدا من سلال الأسماء التي تمر أمام أعيننا قصائدهم وتسمعها آذاننا ثم لا نتذكر منها شيئا بعد قليل .لهذا عندما يبرز صوت له خصوصيته وسط ركام من تلال الكتابات المتشابهة لابد وأن نصغي إليه بغية أن نكتشف ما لديه من كنوز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
**الكتاب:أوجاع متوحشة (2008) .
**الشاعر:ماهر مهران.
**الناشر: دار اكتب

mahermohran

ماهر مهران

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 105 مشاهدة
نشرت فى 8 أغسطس 2012 بواسطة mahermohran

الشاعر : ماهر مهران

mahermohran
هنا صوتُ المهمشين والبسطاء والمقهورين ، وهنا شاعريةُ ُالدفاع عن حق الناس فى العيش بعدل وكرامة وحب وإنسانية ، هنا صوت لايشبه الآخرين من حيث التناول والمفردة وتركيبة الجمل الشاعرة ، هنا شاعرٌ اضطهده الجميع لحدة موقفه ، فهو مستقلٌ منذ بدأ الكتابة ، لم ترض عنه الحكومات ، ولم »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

24,818

نبذه صغيرة

شاعر من شعراء العامية المصرية التي يتميز بحسه المرهف وكلماته الجميلة التي تناقش واقعنا العربي والمصري والانساني  الذي نعيش فيه فهو كثيراً ما كتب وتطلع للتغيرات التي سوف تحدث وسوف يحدثها هذا الشعب المصري العظيم وبجانب شعره  بالعامية  المصرية كتب روايات تغوص في الواقع المصري وتكشف الغامض والمهمل والمهمش في صعيد مصر كما انه كتب العديد من المسلسلات الدرامية  .