دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

authentication required

هل الجسد حياديّ؟
دام ذلك ساعة أو ما يزيد عن السّاعة ،حتّى خرّ الأبناء صرْعى الإعياء و النّوم. ذبُـلوا.. حينها تبادل الكبارُ النّظراتِ . مسحوا آخر الضّحكات و قطرات العرق وبعض الزّبد الملفوظ في حواشي الشّفتيْن.. استلقى الجميعُ في الغرفة الواحدة _ غرفة الاحتفال بالنّسيان رقصًا.. قالت الأمّ الكبيرة و هي تتأهّب لأن تنخمد::
هيّا إذنْ، لنبْك الآن ..
حين يجوعُ المرءُ و يعجز عن أن يتدارك لحظتَه الهزيلة ، عليه أن يرقص ثمّ يُتوّج رقصَه بالبُكاء. كذلك كان فرجاني بكامل عناصر أسرته، حين يتواتر جوعُهم و يبيتون نهب قرَصاته وقهره، يُحْيون حفلةَ يلوغِ الجوع شأوَه الأقـسى.. عندها لا يكون أمام الجوع من خيار سوى أن يَخْسأ.. كان يجدر أن يتمّ إسكاتُه كما تُسكِتُ زانيةٌ لقيطها تفاديا لصوتِ الفضيحة. كان على الجوع أن يفْنى بطريقة ما، أن ينهزم بعنفٍ... ولم تكن هزيمة الجوع لتحدثَ لو لم تمتلك أسرة الفرجاني تلك الإرادة الفذّة، تلك الرّوح التي تتدجّج بمهارة عالية في رغبة القهر. يمكن للإنسان أن يتخيّل أنّه يقهرُ قهرَه حين يمضي إلى الزاوية المقابلة، حين يقتحمُ منطقة الذّعر و يواجه الخرابَ من الدّاخل. إنّ الرّقصَ على هذه الشّاكلة ضربٌ من ضروب مواجهة عنف العالم بقيمه الرثّة و أشيائه الصّدئة و بشَـره الأخسّاء.. في مثل هذه المحنة، تكون الحركاتُ و الرّقصاتُ عندئذ حالة دفاعيّة، شكلا من أشكال الجنون. ويتّخذ الجنون مشهدَ التمرّد أسلوبًا في قهر الاستسلام و الرّكون إلى الضّعف.. هكذا يواجه العنفُ الدّاخليّ كلّ إمكانيّة سقوط الكائن الظّاهر. يتمّ ذلك فقط، حين يمضي الكائنُ لضرْب ضعفِه من داخل ضعفه ذاتِه.. لقد مضت أسرة الفرجانيّ إلى الجوع حيث يُقيم، وتمرّدت عليه بالرّقْص، فنشأ النّسيانُ أو التّناسي، وسقطت سلطة الأشياء المسطّحة. و ألْغِي الجوع و نُبِذَ في النّسيان( و لو بشكلٍ مؤقّت).. 
السّؤال كيف أمكن لأجساد جائعة أن ترقص؟ ! كيف أمكن لجسد راقصٍ أن ينْسى أو أن يجتهد في النّسيان؟ ! أيكون الجوع و الألمَ مرحلة خارج دائرة الجسد أو يكونان من متعلّقات الباطن؟ إذا كان الأمرُ كذلك فإنّه بإمكان الجسد أن يكون حياديّا.. يبدو أنّ الجسد في هذا المقام، حياديّ، يبدو أنّه حضرفقط، بوصفه ترجمانا لحركة الجوع و الألم في الدّاخل. ولذلك أمكن له أن يرقُص. وكان رقصُه علامة تعاطف مع صراخات الباطن الكتيمة.. و هي ليست صراخات جوع صرفة بل صراخات قَهْر و لولاهما_ الرّقصُ والجسدُ (الرّقصُ بالجسد و الجسد بالرّقص) ما حدث النّسيان، و ما نام الأطفالُ جوعى في لحظة نسيان .. هل يجوز القولُ إنّ الجسد غلب النّفْسَ و الرّوح فيما هو يتفاعلُ معهما على نحو إيجابيّ راقص؟ 
غير أنّ النّفْسَ و الرّوح بعد أن هدأ الجسدُ تيقّظتا لتستوعبا القهرَ و قد تعرّى.. ذلك ما يُفسّرُ انتباهَ الأمّ بعد نوبة الرّقصِ إلى أنّ المقام في جوهره مقامُ بُكاءٍ. وهو ما يُفسِّر كذلك أنّ مرتبة القهرِ كانت أعلى و أشدّ من مرتبة الجوع و من الأداء الرّاقص الأليم.. إنّ القهر هو ألمُ الألم.. إنّ القهرَ هو الألمُ حين يتحوّل إلى وعي استيعابيّ تحليليّ دون انتظار نتيجة حاسمة تبلْوِرُ فلسفة المنطق بغايةِ إيجاد تفسير و لا تبرير لما يَحدُثُ..
________ 
سيف الدّين العلوي 

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 80 مشاهدة
نشرت فى 11 فبراير 2018 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

580,240