دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

لرّتيب السابع: 
المنزلُ الجديد (مقارنة بسائر المنازل الأخرى التي استأجرتها وزوجتي طيلة سنوات الزواج البالغة إلى حدّ اللحظة ما يناهز العشرين عاما) فسيح الغرفِ.. مفتوحٌ على فضاءات تنعـتقُ خضراءَ – و صفراءَ جرداءَ في موسم الحصاد- في المدى.. و المنزلُ ضيّقٌ.. المنزلُ ردهة و مَمَرٌّ وغرفةُ صالون و ثلاث غُرَفِ نومٍ، و مَطبخٌ فسيح.. كلّه في الطّابق العلويِّ.. ومع ذلك فهو ضيّقٌ، (إنّ الفساحة ينبغي أنْ تكون في العمقِ والذّاكرة. ينبغي أنْ تُعاشَ في الدّاخل).. تُسيّجُ المنزلَ حديقة أنيقة، سامقةُ الأشجارِ.. و في داخلِ المنزل أرى قبحا صموتًا.. ههنا فهمتُ ما تفضّل به باشلار في "جماليات المكان"حيث قال:" عندما نسكن بيْتا جديدا وتتوارد إلينا ذكريات البيوت التي عشنا فيها من قبل، فإنّنا ننتقلُ إلى أرض الطّفولة غير المتحرّكة، غير المتحرّكة كالذكريات البالغة القِدَم.. إنّنا نريح أنفسنا من خلال أنْ نعايش مرّة أخرى ذكريات الحماية... ونظرا لأنّ ذكرياتنا عن البيوت التي سكنّاها نعيشها مرّة أخرى كحلم اليقظة، فإنّ هذه البيوت تعيش معنا طيلة الحياة"..
في البيت الجديد الفسيحِ شبه الباذخ الذي تعكف زوجتي على جعله نظيفاً على كامل فترات اليوم، لا أنتمي.. زوجتي أيضا لا تنتمي.. كنتُ أحسُّ بالتفتّت.. أحيانا كثيرة أحلمُ ببراعة ذاكرة، ببيتنا الحقير الذي ولدتُ فيه :" حين نحلم بالبيْت الذي ولدنا فيه، وبينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرطُ في ذلك الدفء الأصليّ، في تلك المادّة لفردوسنا المادّيّ "..
إنّ المنزلَ في داخلي.. وبما أنّ له تصميمًا آخرَ مُبايِنًا للجمالِ والنّظام تماما، فإنَّ لِفـَوْضاه وقُبْحِه دورا في صناعة قسطٍ، لعلّه الأهمّ، مِنْ حضوري في الحياة.. إنّ محتوياتِ الرّوح وتركيبة مزاجِ النفسِ لا يمكنُ أنْ تكون صِرْفاً من بصماتِ كآبتنا القديمة أو ذعرِنا الأوّل، أو ذبذبات الأنسِ الخافتة.. أنا أسمع صوتَ أمّي في خشخشةِ الحطبِ الذي تتلحّسُه النّارُ فيدندِنُ ترنيمةَ الاضطرام. أنا أسمعُ مِنْ بعيد مِنْ غياهبِ الوقتِ النّازحِ في الغيبةِ، عجينَ دقيقٍ يموءُ في جفنةٍ تُقْرَعُ بلطافةٍ، فآنَسُ، تُداخلني ألوانٌ من جذلٍ جارح.(عُذْرًا، عليّ أنْ أخلعَ أثوابًا عن راهنيّتي حتّى تغطسَ ذاكرتي في نهرٍ الذّاكرة المقدّس لتتطهّرَ فتحْـيا طقوسَ الذّكْرى..) أليس هذا ما يُسمّيه محمود درويش:"حضرة الغياب".. هذا قِطافُ فاكهةِ الآفِلاتِ.. كيف تقطفُ الذاكرة الوقائعَ الذّائبةَ وقد انحلّتْ في تفاصيلِ الوقتِ المتلولب؟ !ذلك يكونُ عن طريق الفقْدِ الذي يُفْضي إلى مقارنةٍ بالحواسّ: أنا لا أسمعُ الآن، في منزلِ الكهولة الثّانية (من سنّ الثلاثين إلى سنّ الخمسين تقريبا، في اعتقادي) خشخشةَ الأحطابِ العازفة، ولا مُواءً في جفنةٍ تقْـرَعُها يدٌ تنْحتُ إيقاعَ العُمْرِ الأوّل، ولا نقيق دجاج ينتشرُ في الأرض، بُعيْدَ إسفارِ الصّبْحِ.. أنا لا أشمّ رائحةَ الشايِ تُحمحِمُ في غرفتي و تغلغلُ تحت المُلاءةِ. لا أسمعُ حوافرَ أتانٍ والدي تُوقِّعُ الفوضى.. ما يجعلُ الإنسانَ في بؤرةِ مقارنةٍ عجيبة، هو أنْ يكون ملتَقَى أصواتٍ وافدةٍ من أفولٍ ممعنٍ في أفوليّتِه، وأصواتٍ تتوافدُ لامعةً بلحظتِها، وكلّ منها مختلفٌ عن الآخرِ، نقيض له.. ذاك يدفعني إلى أنّي أشكُّ في سلامةِ حواسّي، إلى درجةِ أنْ يتبادرَ إليّ أنّ أذنيَّ ليستا تينكَ اللّتيْن سمعتُ بهما كلّ حكايا تاريخِ سَمَاعي الطفوليّ و الشبابيّ، و أصواتًا غير التي أسمعها الآن. و ذلك ينطبقُ على أنفي الذي يشمّ روائحَ لا يفقَه لها طعْما. و كذلك على عينيّ و يديّ و لساني.. إنّني لا أذوقُ الآن ما كنتُ أذوق بالأمْسِ، مع أنّي لم أفقدْ الحواسّ لأنّني أتوجّه إلى سوقِ المدينة.. 
المسافة عامرةٌ بالإنْس (بكسْرِ الهمزة والشارع عَاجٌّ بالحركةِ، راشحٌ بالضجيج.. و لكنْ) لماذا يلوحُ لي أبيضَ خاوياً، و أخرسَ؟ لماذا كانتْ جورج صاند، وقد جلستْ بجوار طريقٍ رمليّ أصفرَ، و ترى أنّ الحياة تمضي، تقول" أيّ شيءٍ أجملُ مِن الطّريق؟ إنّها صورة ورمزٌ لحياة نشطة متنوّعة".. لعلّها كانتْ تُحِسّ بمتعةِ الارتحال.. يعني أنّها كانتْ تمتلك حواسّ حيّة يافعة، ورؤية غائصة على استيحاء دلالات الأشياء النّائية. وبما أنّي لا أشعرُ بحواسّي التي لم أفقد، وبما أنّي لا أجد لذّة في استنباط دلالات الطرقات، ولا أستوحي منها إلاّ لوحة غربة الكائن الذي ينقرض في سذاجة مبتذلة، فهذا يعني أنّ الرتابةَ تسيحُ في الدّواخلِ وأنّ الخواءَ والخِرْسَ ليسا في الشارعِ .. لا صلة لي بالطّرقات التي أجتابُ. لا يتناهى إليّ إيقاعُ الترنّحِ في الخطوات.. عادة ما أكون في الشوارع غافيا(لستُ نائما، بلْ إنّي أرى ولا أبصرُ). وإذا تيقّظتُ، فثمّة أمرٌ جليلٌ حدثَ: (وجهٌ أعادني وهو يمرُّ، إلى وجهٍ قديم غابر.. وجهٌ قديمٌ غابِرٌ مَـرَّ، أحالني على حادثة غيرِ حادثةٍ في الزّمن كنتُ أرومُ نسيانَها.. عطرٌ شَكسَ أنفي، فتناهتْ إلى مسامّي ذكرى رائحةِ غُـصّةٍ أو فَرحٍ ما.. أنثى بها مكنون حُسْنٍ، ذكّرتني بنساءٍ قديماتٍ كان الحُبَّ معهنّ أنقى .. وجهٌ عُدوانيّ أيقظ وترا دفينا.. مِثْـلُ هذا الوجوه تملأ فراغاتِ الوجود أمامي في شوارع المدينة التي أتسكّعُ في سوقِها وأتلافى الاصطدامَ بوجود وجوهها،فيما أنا أذهبُ إلى السّوق)..
------- 
سيف الدّين العلوي
مقطع سرديّ من رواية قيد المراجعة

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 31 مشاهدة
نشرت فى 27 يوليو 2017 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

561,559