authentication required
المشهد الثاني:

 

خلفٌ وسلفٌ، سلفٌ وخلفٌ: صورة يكتمل نسيجها وتستحيل واقعاً يفرض نفسه منذ الأيام الأولى من انطلاق كلّ سنة دراسية جديدة، فتستفيق الذاكرة على وقع خطى المعلّم السابق، شكله، نبرته، عاداته، سلوكياته، تصرفاته، طريقة تعامله مع طلابه، بعض صفاته وما تتميَّز به أقواله من لوْكٍ وإعادة لألفاظ مميزة مثيرة ومفردات محددة تجدّ مستقرها في أذهان الطلاب، فيُعرف هذا بكثرة حديثه واستطراداته المملة أو فضوله السخيف، ويرتبط اسمه بكلمة يكررها على مسامعهم بشكل متتابع، أمَّا الثاني فينقش اسمه في الذاكرة جراء كثرة جلوسه على (الماصّة) طاولته أو جرَّاء خروجه المكثف.. بينما الثالث قد اتفقوا على أنه متشدد متصلب لكونه في نظرهم عنيفاً عبوساً متجهماً.. فيقلّ الإقبال عليه ويضعف التعلق به وينعدم الالتفات حوله أو يكاد.. ونقيضاً لهذه الخصوصيات والسمات المنفرة التي اتصف بها بعضهم وتفرَّد بها بعض ذوي الطباع الغضّة من المعلمين في تعاملهم مع طلابهم، نجد المعلم البشوش الحازم في لين، لا تغادر البسمة ثغره ولا تعرف القسوة لقلبه طريقاً، لين الطبع دمث الخلق، ممتع خطابه، شهد حديثه، متزنة أحكامه، عادلة مواقفه، سلسة أساليبه، مقنعة حجَّته، محكمة وسائله، ناجعة أساليبه، يستهويك حواره.. فهو لا يترك غير الأثر الطيب في نفوس طلابه في حضوره أو غيابه.. ملامحه هذه قد انتقشت في الذاكرة ولن تمحى إلى الأبد.

 

ها هو حامد يستشرف غده: هل سيعود إليه رجل الأمس ذاك الذي أعجب به وتعلّق به تعلّق الابن بأبيه، فارتسمت ملامح محياه بمخيلته وغدت لا تفارقه؟ ها هو اليوم ينتظر أن يعود إليه ذاك الرجل الخلوق المعطاء ليواصل معه ما انتهى إليه بالأمس بعد إجازة قاربت أيامها ربع السنة.. فهو في شوق ولهفة شديدين، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، وإذا به يجد نفسه في قبضة رجل ذي بأس شديد، غابت عن محياه الابتسامة وحلَّت محلها الكآبة والتجهم، لا يفتأ لسانه عن ترديد: اسكت أنت، اخرج أنت، اجلس انت، اسمع وأنت ساكت يا.. يا... يا.. (أسماء مفزعة مخزية ونعوت وصفات محرجة) حامد هذا الطالب الذي ظلّ أمسه مشرقاً وتعطّشه لمقاعد الدراسة مقنعاً وتشوفه لمرأى معلمه "أبي نواف" مبرراً ستقلب له الساعات القادمة ظهر المجن منذ الوهلة الأولى، منذ الاحتكاك الأول، منذ وقوع بصره على معلّمه الجديد "أبي سلمان" واصطدام سمعه بصوته الصاخب المنفر وأوامره الزاجرة في غير لين أو رفق.

 

لنلق نظرة على الحالة النفسية التي أصبح عليها حامد.. لا نشك أنَّ رغبته في الجلوس بعيداً عن موقع معلّمه بالفصل ستكون جامحة.. سيحاول أن يتوارى عن ناظريه خلف طالب مديد القامة، يحجب عنه مشاهدته.. سيلجأ إلى الانطواء حول ذاته، ستقلّ حركته، ستنعدم إسهاماته واستفساراته أو تكاد.. سيُطوى في النهاية كطيّ السجل للكتاب، وسيُنسى وهو الموجود جسماً وفكراً وحواس كما نُسي أو أهمل غيره..

 

أصبح حامد.. بين كان.. وأصبح.. كان يتّقد حيوية ولا يلقى سوى التحفيز والتشجيع يوم أن كان بين يدي أبي نواف الأمينتين ذي القلب الرؤوف، تذكي فيه نظراته الهادئة المحمَّلة دفئاً وحباً جذوة الحماس ليتلقّي بكل تلقائية ورغبة شهد توجيهاته ولينهل من علمه بقلب مفعم بالطمأنينة والأنس.. فأصبح بين عشيّة وضحاها وكأنها البارحة ليلة الفصل والقول الفصل بين يدين قاسيتين لا تلينان وقلب لا يكترث صاحبه ولا يعطف ولا يلين.. قلب "أبي سلمان" الذي أربكه وأرهبه منذ اللحظة الأولى، لحظة الصد والمنع وإلجام الأفواه.

 

أينهض حامد من كبوة لم يساهم في ولادتها ويلتقط أنفاسه من جديد؟ أم تراه يستسلم لواقع عسير سيفرض عليه قيوداً من حديد، فيركن إلى الخمول واللامبالاة والانطوائية؟

 

هل يحقّ لنا أن نقول: "هذا ما جناه عليّ معلّمي وما جنيت على نفسي؟"..

 

فإلى متى يظلّ مصير العديد من أبنائنا الطلاب رهين الاختلاف البين بين الخلف والسلف..؟

 

وإلى متى يظلّ الاختلاف بين السلف والخلف.. من المعلمين.. قائماً وعميقاً؟ اختلاف في السلوكيات.. اختلاف في المواقف.. اختلاف في الطباع والأمزجة، طلابنا الأبرياء هم ضحيته.

 

  • Currently 35/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
12 تصويتات / 475 مشاهدة
نشرت فى 13 أغسطس 2007 بواسطة madaa22

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

33,520