في حياتنا ومجتمعاتنا وعالمنا الواسع, ثمة ظواهر غريبة يحتار الناس في تفسيرها, وتضطرب كلمة الخبراء والمختصين في معرفة أسبابها, والوقوف على حقيقتها وكيفية نشأتها, ففي العالم الغربي تقام كليات تتفرع عن علم النفس تحت مسمى "البارابسيكولوجيا" لدراسة تلك الظواهر وتحليلها وتفسيرها, أما في أوساطنا نحن المسلمين فثمة اتجاه عريض يميل أصحابه إلى تفسير كثير من تلك الظواهر الغريبة تفسيرا يرجعها إلى عالم الجن, وليست هذه أحاديث عابرة يتداولها الناس, أو حكايات يتناقلونها بينهم, بل هناك من يكتب ذلك ويوثقه, في كتب تباع في الأسواق, وتعرض في المكتبات, في هذه الحلقة من هذا التحقيق أعرض لبعض لتلك الظواهر, قارنا ذلك بنموذج "إسلامي" ينحو منحى تفسير تلك الظواهر بإرجاعها إلى عالم الجن, على أن أورد في مقال قادم تفسيرها وتحليلها من وجهة نظر بارابسيكولوجية.
علاقة الجان بالظواهر الغريبة
من بين عشرات الكتب المعروضة على الأرصفة, وعند باعة الأكشاك, استوقفني الكتاب التالي بعنوانه الرئيسي "الشفاء بالقرآن من شر الإنس والجان" وعناوينه الفرعية: عالم الجن والشياطين على ضوء القرآن والسنة, تجربتي في إبطال السحر وطرد الشياطين, التفسيرات المختلفة للظواهر الباراسيكولوجية, وهو من إعداد وتأليف محمد عيسى علي المغربي, والعنوان الأخير هو ما يستحق العرض والنقد, وهو في الوقت نفسه نموذج ظاهر لتفسير تلك الظواهر بإرجاعها إلى عالم الجن.
يذهب الكاتب إلى أن الجامعات في الدول العظمى أصبحت تتعامل مع الظواهر الخارقة كعلم مستقل, وأصبحوا يقسمونها إلى عدة أنواع وهي: ـ
*الاستشفاء ويعتبر أهم مجالاتها قديما وحديثا.
*التنبؤ بالمستقبل.
*السيكوكينيزيا ( تحريك الأشياء بقوة التركيز الذهني ).
*التخاطر ( التلباثي ) .
يقسم الكاتب الاستشفاء إلى نوعين من العلاج, أحدهما هو العلاج الديني الذي يعتمد على قدرات المعالج وتقواه الدينية, سواء في طرد الأرواح الشريرة, كأمراض السحر والصرع والحسد, وهذا العلاج قديم جدا, أما النوع الثاني, فهو كما في قصة جوانا الروسية وقدراتها العجيبة, وقدرات الكثير من الأشخاص في العالم.
يتناول الكاتب تحت عنوان نماذج من المعالجين من ذوي القدرات الخارقة قصة المعالجة الغجرية الروسية جوانا والتي ظهرت ـ كما يقول ـ في كل وسائل الإعلام العالمية, خصوصا بعد قيامها بمعالجة رئيس الاتحاد السوفيتي ليونيد برجينيف, فقد كان الزعيم السوفيتي يعاني من ورم يصيب فك الحنك, ويأكل النسيج العظمي, ويلتهم عصب الأضراس, مولدا ألما لا يطاق وصعوبة في التكلم, وانحلالا في الجسم, لقد قامت جوانا بتدليك مكان الوجع بواسطة أصابعها, وإذا به يستعيد صحته حتى يشفى, وقد كان الأطباء العالميون قد سجلوا لها أفلاما وثائقية خصوصا خلال المؤتمرات الدولية التي كانت تعقد في الاتحاد السوفيتي منها مؤتمر الباراسيكولوجي عام 1979, ثم قامت السلطات السوفيتية بفتح معهد طبي تطبيقي تحت إشرافها, تعالج جوانا الأمراض العصبية والعظمية والدماغية المستعصية والتي لا يرجى شفاؤها, يقول الكاتب أنه بعد أن قرأ كتابها بعنوان : "أصغي إلى أصابعي" والذي تتحدث فيه عن قصة حياتها وعن طريقتها في العلاج, استوقفته سطور قليلة منه.
تقول جوانا في كتابها : "لقد نجحت في علاج أمراض القلب وعرق النسا والتهاب عضلة القلب, والبروتستات والأمراض النسائية المزمنة ومرض تشمع الكبد ـ اليرقان الطفيلي ـ وقرحة المعدة وحالات العقم وعنة الذكور…
أما طريقة علاجها فتتمثل في أنها تقوم بتمرير أصابعها على مكان الألم عند الشخص المصاب فيشعر فورا أن هناك حرارة تنبعث من أصابعها إلى مكان الألم, وما هي إلا دقائق حتى يختفي الألم تماما.
يتساءل الكاتب عن السر وراء قدراتها الخارقة التي تمكنها من علاج تلك الأمراض المستعصية, فبعد أن يستبعد المعجزة والكرامة يقوده تركيزه واهتمامه بقصة حياتها وخصوصا طفولتها إلى الظفر بالإجابات على كل ذلك.
تقول جوانا عن طفولتها : "إن والدي كان يفهمني ويقرأني كالكتاب المفتوح فقد عرفت في إحدى المرات بانتشار كلام عني في القرية بأنني ساحرة, وجئت إليه مستغيثة..
وتقول أيضا : " كنت أتشاجر دائما مع أمي عندما تسألني أين تذهبين في الليل؟ حيث كنت أحيانا أنهض في منتصف الليل وأذهب إلى مكان ما وقد اعترفت أمي بأنها سارت خلفي لتراقبني في إحدى المرات ورأتني حين خرجت من البيت.. وبلغة ما بدأت أتكلم موجهة كلامي لشخص ما, بالرغم من عدم وجود أي شخص هناك, وقد ترددت أمي قليلا قبل أن تقرر التعرف على ما كان يدور , وما هي اللغة التي كنت أتكلم بها, ومع من كنت أتكلم.. لانها كانت تخاف أن تفزعني.. ولكنها سألتني وأنا أكون ـ كما قالت ـ قد أجبتها في ذلك الوقت بكل هدوء ( ألا ترين هذا الرجل المسن ذا اللحية البيضاء؟ إنه أبي, ولكنه في هيئة أخرى .. وأحيانا أخرى يزورني ونتحدث طويلا ولكن بصمت وكثيرا ما كان يحضر لي مرتديا ملابس براقة فضية اللون.
يستخلص الكاتب من تلك الفقرات أن سر تلك القدرات الخارقة لجوانا هو جني واستمع إليه وهو يقول : " إذن هي ليست كرامة ولا معجزة ولا تنجيما أو سحرا, إن الذي يشتغل بالعلاج القرآني والرقية الشرعية الإسلامية يصادف الكثير من الجن الذين يملكون قدرات خارقة, لقد كان هذا الجان يسكنها منذ طفولتها, وهو الذي يظهر لها دائما على هيئة أبيها الذي توفي وهي طفلة صغيرة, وهو الذي يعالج المرضى من خلالها, وكانت أمها على علم بذلك, وهو على مستوى عال من العلم وخصوصا في الميدان الطبي, ومن المعروف لدى الكثير من الناس أن عالم الجن متفوقون بقرون عديدة على الإنس.
يؤخذ على الكاتب وهو يتحدث عن الظواهر الباراسيكولوجية تداخل العلمي بالخرافي, فما يعده من المقررات في العلوم الباراسيكولوجية ليس كذلك, فالاستشفاء سواء منه الديني أو الخوارقي ليس من القضايا المقررة علميا وإنما يخالطها كثير من الادعاءات المبالغ فيها, ويلابسها العديد من ألوان الكذب والتهويل, كما أن الكاتب يخلط بين المعجزات والكرامات وتلك الحكايات والروايات, ويتخذها ذريعة لتمرير تلك الادعاءات وإشاعة هاتيك الافتراءات من الدعاوى الكاذبة التي تتصدى لمعالجة الأمراض المستعصية, وثالثة الأثافي ما ذهب إليه الكاتب من تفسير قدرات المعالجة جوانا بإرجاعها إلى أسباب جنية, وتحديدا إلى ذلك الجني الذي كان يسكنها منذ أن كانت طفلة, لماذا لا يكون تفسير قدراتها بأنها تقوم بالمعالجة بالطاقة, وهي طريقة شائعة ومعروفة, أما أن يذهب به الخيال الجامح إلى عالم الجن هكذا فتلك أحاديث تنسجها المخيلة الشعبية وتستعذبها كثيرا, وتسعى إلى ترويجها, وإشاعتها في الناس.
التخاطر (التليباثي) والجلاء البصري
يعرف التخاطر على أنه انتقال أفكار أو رسائل من دماغ إلى آخر مع تباعد المسافات بينهما, وتكثر الوقائع المندرجة تحت هذا المسمى, كما تتعدد وجهات النظر التفسيرية لهذه الظاهرة, وقد ذكر الكاتب منها ثلاثة, الأولى: وجهة النظر الشيوعية في الاتحاد السوفيتي (سابقا) التي ترى أن هذه الظاهرة عبارة عن انتقال الأفكار, وهي تموجات إلكترومغناطيسية لا غير, ويتجنبون أي حديث عن الروح والنفس, أما التحليل الأوروبي والأمريكي فانه يتحدث عن قدرات الروح واللاشعور والطاقة النفسية, أما الهنود فيربطون التخاطر بقوة الإرادة ويعتبرون العقل البشري شبيها بجهاز راديو بمقدوره إرسال الأفكار واستقبالها, ومثلما في الراديو (المذياع) يتوقف على كمية الموجات التي يتقبلها فان الراديو البشري ينشط كذلك وفقا لقوة الإرادة التي يملكها الفرد.
يورد الكاتب حادثة تمت تحت إشراف طبيب أكاديمي هو "ويسلس كيشام", أما المريض فهو من عائلة غنية أرستقراطية, أصيب خلال التزاحم في أحد ملاعب كرة القدم, حيث سقط على الأرض فاقدا الوعي, وحينما عاد له وعيه كان قد فقد عقله, وكان كل ما يستطيع القيام به التلعثم ببعض المقاطع من الكلمات, وقد شرد بصره , وكانت تنتابه نوبات عنف يجلس بعدها جامدا في مقعده لمدة ساعات يحدق في الفضاء دون أن يتكلم. وقد لجأت عائلته إلى الأختصاصيين في جميع أنحاء أمريكا, وأجمع الكل على أنها حالة ميؤوس منها, لأنه أصيب بمرض يسمى خبل الشباب أو الجنون المبكر, وقد استقرت العائلة آخر الأمر على أحد الأطباء وهو الدكتور ويسلس كيتشام الذي اختبر كل وظائف جسده فوجدها طبيعية من الناحية الجسدية, لكن استجابته كانت منعدمة. ولم يكن قادرا على الإجابة على أبسط الأسئلة, وقد قبل كيتشام أن يقوم يتمريضه على أن تطلق العائلة يده لمدة عام, ولم يكن أمام العائلة من سبيل آخر, كما أن المال لم يكن يشكل عقبة في سبيل العلاج الطويل.
وقام هذا الطبيب باستصحاب مريضه إلى نيويورك وعرضه على اختصاصيين في المخ الذين احتفظوا به في المستشفى وأغلقوا عليه حجرة مبطنة لمدة أسبوع أجروا خلالها كل تجاربهم, وأبقوه تحت ملاحظة دائمة, ثم هزوا رؤوسهم أسفا يرددون نفس التشخيص السابق: حالة ميؤوس منها, وأثناء رحلة العودة خطرت للطبيب الفكرة التالية: لماذا لا نجرب ذلك الرجل الغريب.. إدجار كايس؟
وبالفعل اتصل بكايس وحدد معه موعداِ, ولم يكن المريض معه, وأغمض كايس عينيه وكتب الطبيب اسم المريض على ورقة, وخلال لحظات أصبح كايس في حالة غيبوبة خفيفة, وقرأ عليه عنوان المريض, وبقي كايس صامتا لحظات ثم بدأ يتكلم: آه, نعم نعم أنا معه الآن, ثم اندفع يقول رغم أن أحدا لم يعرض عليه أية معلومات عن حالة المريض: إن النار تشتعل في مخه, هناك تشنجات تجعل لون مخه أحمر, وخلال زمن قصير إذا لم نفعل شيئا سيحول إلى مجنون.
لقد اندهش الطبيب لدقة التشخيص كخلل عقلي واحتمال تدهور حالة المريض, وحينما سأله عن العلاج, جاءت الإجابة واضحة وقوية ومحددة, وهو اسم دواء غير معروف إلا قليلا وذهب الطبيب إلى الصيدلية, وحصل على الدواء, وبدأ يعالج الشاب مباشرة, وبعد أربعة أسابيع كان المريض قد عاد إلى حالته الطبيعية.
يتساءل الكاتب بعد إيراده لهذه الحادثة, ترى من أين لكايس هذه القدرة؟ كيف استطاع أن يشخص حالة المريض؟ إذا لم يكن هناك من يوضح له الصور ويعطيه الإجابة الدقيقة والدواء النافع سوى شخص من عالم آخر يملك قدرات فائقة على عالم الإنس!! إذا التفسير الذي يقدمه الكاتب لهذه الظاهرة هو وقوف الجن خلفها, لكن ماذا يقول علماء الباراسيكولوجي في تفسير هذه الظاهرة؟ هذا ما يكون أحد موضوعات الحلقة القادمة بإذنه تعالى.
ظاهرة تحريك الأشياء عن بعد (السيكوكينيزيا)
يعرفها الكاتب على أنها تحريك الأشياء ورفعها عن الأرض والتأثير فيها دون أي اتصال مادي, وقد تفسر بأنها قدرة العقل على التأثير في المادة, أو التأثير على الأشياء المادية بالقوة النفسية المستمدة من الإرادة والتصميم والتفكير
دون واسطة, وهي قوة تظهر عند بعض الناس, وهي عكس التخاطر أو البصيرة, حيث المادة تؤثر على العقل, فهنا العقل يؤثر على المادة, وهي من أعجب الظواهر وأغربها إذ يمكن لمس تأثيرها بالعين المجردة.
من الوقائع والحوادث التي يوردوها الكاتب للتمثيل على هذه الظاهرة قصة السيدة الروسية ميخائيلوفا التي ولدت عام 1927, والتي شاركت في الحرب العالمية الثانية والتحقت بالجيش الأحمر عندما حاصر الألمان مدينة لينينغراد, والتي قال عنها أحد الكتاب السوفيات: "كانت السيدة ميخائيلوفا جالسة إلى مائدة الأسرة, وكانت على الطاولة على بعد ما قطعة خبز ركزت ميخائيلوفا ذهنها وحدقت في قطعة الخبز, مرت دقيقة ثم أخرى وطفقت قطعة الخبر تتحرك, انتقلت على دفعات متتالية, ولما وصلت إلى حافة الطاولة أخذت بالتحرك على نحو أكثر نظامية, أمالت ميخائيلوفيا رأسها إلى الإمام, وفتحت فاها, وكما في القصص الخيالية وثبت قطعة الخبز إلى فمها".
وقد تم تسجيل فيلم سينمائي لبعض التجارب التي أجرتها, ومنها تجربة أخرى حيث وضعت بيضة نيئة في محلول مملح في إناء زجاجي,ووقفت على بعد مترين وتحت أنظار الشهود فصلت صفار البيضة عن بياضها بقوة التركيز ثم جمعت بينهما من جديد.
ويقول الدكتور "ترلتسكي" أستاذ كرسي الفيزياء في جامعة موسكو عام 1968: "تبدو لي العروض التي قدمتها ميخائيلوفا طبيعية, فهل من الممكن أن توجد قوى لا هي بالكهرومغناطيسية ولا بالجاذبية وقادرة في الوقت نفسه على تحريك الأشياء كما في حالة هذه السيدة؟ بل أعتقد بصفتي فيزيائيا أن احتمالا كهذا وارد, كيف ترتبط هذه القوى بالإنسان وبدماغه؟ إن أبحاثنا العلمية لم تتقدم بعد بما فيه الكفاية للإجابة عن هذا السؤال".
وبعد إيراد الكاتب لهذه الحادثة وغيرها من الحوادث يقدم تفسيره لهذه الظاهرة, استمع إليه وهو يقول: " ومن خلال شخصية السيدة الروسية وشخصية يوري كلير وغيرهما الكثير, نؤكد مرة أخرى على أن هذه القدرات ما هي إلا حالات تلبس من الجن الذين لديهم قدرات تفوق قدرات البشر. سبق لي في الحلقة الثانية من هذا التحقيق أن حاورت أحد المحضرين للجن (ع.ط.ح), وقد صرح لي بأنه منذ باشر إتصاله بالجن وتحضيره لهم في عام 1978 ولغاية الأن بأنه لا يستطيع أن يطلب منهم تحريك أي شيء من مكان إلى مكان آخر, وقد حاول ذلك مرارا إلا أنهم لم يستجيبوا له, وإنني تعقيبا على هذه التفسيرات لتلك الظواهر الغريبة التي قدمها الكاتب الكريم, بإرجاعها هكذا إلى عالم الجن, لأتمنى على من يمتلك تلك القدرات بتحريك الأشياء عن بعد بواسطة الجان أن يتكرم بدعوتي لحضور هكذا جلسات.
لا ريب أن هذا المجال تختلط فيه الحقيقة بالخيال, وتكثر فيه الروايات والحكايات, ولو أن هناك حقا من يمتلك تسخير الجن, ويقدر على توظيفهم لكان أول المستفيدين من ذلك أجهزة المخابرات في العالم كله, الأمر الذي يوفر عليهم النفقات الضخمة, ويقلل جيوش العملاء والمخبرين الملحقين بدوائرهم.
ساحة النقاش