العلاج بالأعشاب الطبية
لقد كان الإنسان الأول يلتمس البرء والشفاء في الأعشاب ، وكان جل اعتماده على الحدس والتخمين والتجربة والخطأ، فإما شفاء وإما فناء.
ثم علم الله سبحانه وتعالى الإنسان ما لم يعلم، فكان للقدماء المصريين وللعرب أكبر جولة عرفها التاريخ في ميدان النباتات الطبية.
ولايسمح المجال بسرد تاريخ استعمال هذه الأعشاب في العلاج، ولكن لا يمكن أن أمضي في حديثي عنها دون تحية لمراكب حتشبسوت التي جابت الأرض بحثا عن هذه الثروة، وتحية لعهد الرشيد وهو عهد التأليف والتجديد، يوم أسست دار الحكمة، وترجمت المصنفات اليونانية والسريانية والفارسية والهندية وتحية للطبري صاحب فردوس الحكمة، والرازي الذي درس الطب اليوناني دراسة متعمقة وله مؤلفاته في الطب الإكلينيكي ومن أشهر تلاميذه علي بن العباسي (توفى 944 م) وله مؤلفات في الطب تتميز بأنها أوضح من كتب ابقراط وأقل إطنابا من كتب جالينوس.
وتحية لابن سينا الذي تميز عن من سواه بما لم يتميز به غيره، فقد كان أول من مزج الطب بالفلسفة في بوتقة واحدة، فكان في طبه فلسفة، ولفلسفته طب، وبذلك كان يفضل على الأطباء بأنه كان فيلسوفا ممتازا، ويفضل على الفلاسفة بأنه كان طبياً ممتازا.
وأخيرا وليس آخرا تحية لابن البيطار وداود الإنطاكي اللذين لهما مراجع وصفت أكثر من ثلاثة آلاف عشب طبي وصفا دقيقا منها حوالي 1200 صنف لم يسبق لغيرهما وصفها، ومما يجدر ذكره وتسجيله أن اسم داود الإنطاكي وابن البيطار يرد تقريباً، في كل رسالة من رسالات الماجستير والدكتوراه في العقاقير كمرجع له قيمته العلمية. وأستطيع أن أقول إن العرب أماطوا اللثام عن كثير من أسرار هذه الأعشاب الطبية، وبذلك تهاوت أعمدة الغموض والحدس والتخمين لتحل محلها حقائق العلوم والتكنولوجيا الحديثة.
ومنذ أن اكتشف المجهر إلى اليوم ونحن نتعلم الجديد عن هذه النباتات وعما تحويه من جواهر وعناصر فعالة ويكفي أن أشير إلى أن أحد العلماء العالميين قال في مقدمة أحد أبحاثه عن النباتات الطبية " لو أن هناك علاجا فعالا للسرطان بأنواعه سيكون مركبا كامنا في نبات أو في كائن حي من الأحياء الدقيقة "يعني (الفطريات).
ونعيش اليوم صحوة عالمية تتجه شطر الأعشاب الطبية فقد شكلت لجنة بمنظمة الصحة العالمية من خبراء في هذا المجال لدراسة مستقبل هذه الأعشاب في الطب العلاجي (وأنا أشرف أن أكون عضوا بهذه اللجنة).
واهتمام منظمة الصحة العالمية نبع من واقع وليس من تكهن، ذلك بعد ما أثبتته الأبحاث العلمية من أن كثيرا من هذه الأعشاب تحوي مركبات علاجية هامة وكثيرا ما يصعب أو يستحيل محاكاتها أو تركيبها معمليا. هذا بالإضافة إلى أن كثيرا من المركبات العلاجية المركبة معمليا ما يثبت أن لها تأثيرات جانبية قد تصل إلى حد الخطورة.
وفي الولايات، المتحدة يوجد مراكز أبحاث كثيرة تهتم بجمع المعلومات عن هذه الأعشاب وتوفد علماءها إلى كثير من الدول الأفريقية لإجراء عمليات مسح للنباتات الطبية التي تنمو في هذه البقاع لدراستها وفصل عناصرها الفعالة.
ومرة أخرى- ومن سبيل التحدث بنعمة الله- أقول إن الله سبحانه وتعالى قد من على الشرق العربي بمملكة نباتية ربما لا مثيل لها في العالم وبيئة تشكل تباينا يلائم جميع أنواع وفصائل النباتات، فامتداد الوطن العربي من حوض البحر الأبيض المعتدل المناخ إلى حدود جنوبية حارة المناخ (السودان) إلى حدود شمالية شرقية باردة المناخ يعتبر تكاملا فسيولوجيا طبيعيا لا يتوفر في كثير من دول العالم.
والآن أسوق، بعض الأمثلة من الأعشاب الطبية التي كانت منذ عشر إلى عشرين سنة ينظر إليها على أنها أعشاب برية لا قيمة لها وأثبتت الأبحاث احتواءها على عناصر علاجية هامة، تم تصنيعها وإنتاجها كمستحضرات علاجية في السوق الدوائي المحلي والعالمي.
(1) الدمسيسة Ambrosia maritima
وصفها ابن البيطار وصفا دقيقا وذكر أن مغلي هذا العشب يفيد في الآلام المعدية المصحوبة بالتقلص. وقد تمكنا في كلية الصيدلة بجامعة القاهرة وعلى مدى خمسة عشر عاما من فصل أكثر من أربعة مركبات، وتعرفنا على صفاتها الفيزيائية والكيميائية والتركيب الكيميائي وتأثيرها على أجهزة الجسم المختلفة وعلى الجرعة الفعالة، وتبين أن لها تأثيراً رخوياً على العضلات وهي الآن تستعمل في علاج المغص الكلوي وتم تصنيعها في أحد مصانع الأدوية في مصر (تستعمل على هيئة حبوب وشايات) .
(2)1لخلة:
(1) الخلة البلدي Ammi visnaga
ورد وصفها في كتب ابن سينا وابن البيطار وذكر كلاهما أن مرارتها شديدة ولها فائدة كبيرة في علاج المغص الشديد.
أثبت المرحوم أ. د. إبراهيم رجب فهمي وتلاميذه في كلية الصيدلة جامعة القاهرة (1942) احتواء ثمار هذا النبات على مركبات مرة تم فصلها والتعرف على تركيبها الكيميائي وأطلق على العنصر الفعال اسم خلين.
وأثبتت التجارب الإكلينيكية التي قام بها المرحوم أ. د. محمد قناوي وآخرون (1945) بكلية الطب أن هذا المركب يفيد في علاج الذبحة الصدرية والمغص الكلوي والربو وتم تصنيعه في إحدى شركات الأدوية في مصر ويستعمل كحقن وريدية في حالات المغص الكلوي الحاد، وعلى هيئة حبوب في علاج الذبحة الصدرية والربو الشعبي.
ومازال مركب الخلين ومشتقاته إلى الآن في أكثر من دولة من دول العالم الشرقي
والغربي.
(ب) الخلة الشيطاني Ammi majus
ظل هذا الشعب زمنا طويلا مهملا كمصدر علاجي، وينظر إليه أو يعتبره علماء العقاقير جنسا من جنس نبات الخلة الذي ينمو بريا في كثير من المناطق في الوطن العربي.
ومنذ أكثر، من نصف قرن اهتم العالم إبراهيم رجب فهمي بما ورد في كتاب مفردات ابن البيطار عن هذا النبات وهو أن منقوعه في الليمون وزيت السمسم يفيد في علاج الأمراض الجلدية المصحوبة ببقع بيضاء (تبين بعد ذلك أن المرض المقصود بهذا الوصف هو مرض " البهاق Leucoderma وفي عام 1949 تمكن العالم المصري وتلاميذه من فصل عدة مركبات تابعة لمجموعة (الكومارين) أطلق على أهمها مركب أمويدين، وأميدين.
ثم أثبتت التجارب الإكلينيكية التي قام بها المرحوم أ. د. عبد العزيز الجمال ومن بعده
أ. د. عبد المنعم المفتي (قسم الأمراض الجلدية بكلية الطب) أن المركبات المذكورة تعالج مرض البهاق بنجاح كبير.
وقد قام عالم بريطاني بدراسة ميكانيكية الفعالية لهذه المركبات mechanism of action، واستنتج أن مركب amoidin يتفاعل مع الأشعة فوق البنفسجية تفاعلا كيماضوئيا photochemical reactionبحيث ينتج منه مركب جديد ينتج عنه تكوين المادة الملونة للجلد في المناطق المصابة واستعمل الباحثون في هذا البحث مركبات أمويدين مشع radioactive .
ويفسر هذا البحث ما أشار إليه ابن البيطار بضرورة تعريض الجزء المصاب بالبهاق إلى أشعة الشمس بعد دهانه بالمنقوع.
(3) 1لصبار: Aloe vera
ربما لا يخلو كتاب أو مرجع من المراجع العربية القديمة من وصف هذا النبات وأنه يفيد في أمراض الجلد والمعدة.
وقد أثبتت الأبحاث الحديثة في أكثر من جامعات مصر والعالم العربي أن العصارة التي بأوراق هذا النبات تحتوي على مركبات فينولية من مجموعة " الكينون "anthra quinones تفيد وتساعد على التئام قرح المعدة وقرح القرنية.
ولقد تم فصل هذه المركبات على هيئة نقية من عصارة الأوراق كما تم تصنيعها على هيئة مراهم للجلد والعين وحبوب تستعمل في علاج قرحة المعدة.
(4) 1لعرقسوس: Glycerhyza glabra
لقد عرف القدماء المصريون والرومان والعرب هذا النبات وورد وصفه في كثير من المراجع القديمة، وأن منقوعه المخمر يفيد في حالات القيء والتهيج المعدي.
وفي عام (1955- 1960) تم فصل مركب سيترويدي أطلق عليه اسم حمض الجلسرهيزيك glycerrhysic acid من جذور نبات العرقسوس وقد تبين أن هذا الحمض يشبه في بنيته الكيميائية مركب الكورتيزون المعروف إلا أنه يتميز عنه بخلوه تماما من الآثار الجانبية المعروفة عند التداوي بالكورتيزون خصوصا لمدة طويلة.
ويستعمل الآن العرقسوس لتحضير مستحضرات صيدلية مختلفة تفيد في علاج قرحة المعدة، القيء الذي يصاحب الحمل، الحموضة المعدية، وقد أعطت هذه المستحضرات نتائج مشجعة جدا وتجرى الآن دراسات جدية لزراعة نبات العرقسوس وفصل حمض الجلسرهيزيك وتصنيعه دوائيا.
(5) حبة البركة Nigella sativa
ووصفها ابن البيطار والرازي وذكرا أنها تفيد في علاج بعض الأمراض الصدرية. تمكن المرحوم أ. د. زكريا فؤاد أحمد (1949) وتلاميذه في المركز القومي للبحوث من فصل مركب أطلق عليه اسم Nigellone من الزيت الدهني ببذور هذا النبات والذي يفيد في التهابات الرئة والربو ويستعمل على هيئة نقط.
(6) 1لحنة: Lausonia
وصفها القدماء المصريون والعرب وذكروا أن عجينتها المخمرة تفيد في علاج الأمراض الجلدية المزمنة، وتم أخيرا فصل أكثر من خمسة مركبات (1955- 1960) تبين أن لبعضها صفات المضادات الحيوية، وأنها تفيد في علاج مرض التينيا المعروف.
(7) نبات حلف البر Cymbopogon proximus
وهو نبات معمر ينمو في المناطق الجبلية وفي صحراء مصر وعلى شواطئ البحر الأحمر.
ويستعمله البدو في الصحراء على هيئة مغلى في أمراض الكلى والمسالك البولية وقد تم دراسة عناصره الفعاله في كان من كلية الطب، والمركز القومي للبحوث في مصر، وفصل منه مركب تربيني من مجموعة sesquiterpine (فصلت من الزيت العطري ، وأطلق عليها اسم proximol. وقد تم دراسة تأثير هذا المركب على الجسم وتبين أن له تأثيراً رخوياً على العضلات وخصوصا الحالب، مما جعله مفيدا في حالات المغص الكلوي وحصوة الكلى. ويتميز هذا المركب بأنه آمن وليس له تأثيرات جانبية في حدود الجرعة الطبية المعالجة حتى لو استمر العلاج مدة طويلة نسبيا. وقد تم تصنيعه في إحدى شركات الأدوية المصرية.
وأود أن أؤكد أن ما أوردته من أمثلة لنباتات طبية تستعمل في علاج بعض الأمراض ليس على الأطلاق حصرا جامعا لما يمكن استعماله من هذه الأعشاب في مجال العلاج، وإنما هو على سبيل الاختيار من قائمة طويلة تزخر بها مراجع العقاقير النباتية والتي تم تصنيعها بالفعل. هذا بالإضافة إلى أن نجاح العلاج بهذه الأعشاب التي سقتها على سبيل المثال
لا الحصر، يضع أمامنا سؤالا على جانب كبير من الأهمية وهو:
ما هو مستقبل العلاج بهذه الأعشاب ؟ والى أي مدى يجدر بعلماء العقاقير أن يولوا أبحاثهم شطر الكشف عن الصفات العلاجية لمحتويات هذه الأعشاب؟
إذ تبين وبصفة قاطعة أن كثيرا من هذه الأعشاب تحتوي على مركبات علاجية لم تكن معروفة وليس لها بديل في المركبات المركبة معمليا.. وثمة مميزة أخرى وعلى جانب كبير من الأهمية هي أن المركبات التي من أصل طبيعي تتميز بأنها آمنة وخالية في معظم الحالات من الآثار الجانبية.
وثمة هدف آخر يدعونا، بل ويملي علينا الاهتمام بدراسة هذه الأعشاب والتعرف على مكوناتها الفعالة هو أن كثيرا منها يمكن أن يفصل مركبات تعتبر خامات أولية تصلح أن تكون خطوة أولى في تحضير مركبات علاجية ذات أهمية طبية كبيرة، وبذلك نوفر الجهد والوقت مثل تحضير مركب الكورتيزون من السولاسيدين (المفصول من نبات السولانم) وتحضير الهرمونات الجنسية من المركبات الصابونية الموجودة في كثير من الأعشاب، وتحضير فيتامين "أ" من الدهيد السترال والسترونيلال citral and citronellal .
أخلص من هذا العرض السريع إلى أن الأعشاب الطبية تستحق اهتماما كبيرا من علماء الجيل الحالي وبصفة خاصة من دول العالم العربي ومن أجل ذلك أضع أمام حضراتكم التوصيات الآتية:
- إنشاء معهد متخصص للنباتات الطبية تكون أهدافه ما يلي:
(1) إجراء مسح شامل للنباتات الطبية التي تنمو في الوطن العربي.
(2) توصيف النباتات الطبية وحفظ نماذج منها للرجوع إليها وإنشاء معشبة خاصة لذلك.
(3) دراسة هذه النباتات عقاقيريا وأقرابازينيا ومعرفة منافعها واستعمالاتها الشعبية والعلاجية.
(4) جدولة ما يثبت فعاليته وأمنه وتوفيره ووضع ثوابت علمية لكل عقار بحيث يكون قاعدة أو نقطة بداية لدستور أدوية للنباتات الطبية.
(5) دراسة تصنيع العقاقير الناتجة من النباتات الطبية التي ثبتت فعاليتها.
(6) العمل على إيجاد قنوات علمية بين الهيئات العلمية المهتمة بدراسة النباتات الطبية لتبادل الخبرة والمعلومات.
ويتطلب هذا العمل أن يتضمن هذا المعهد فريق بحث على أعلى مستوى من الخبرة ويمكن أن يشمل الأقسام أو الشعب الآتية:
(1) قسم العقاقير وكيمياء النباتات الطبية.
(2) قسم الدراسات الزراعية للنباتات الطبية.
(3) قسم الأقراباذين (الأدوية).
(4) قسم الصيدلة الصناعية وتشمل التكنولوجيا الصيدلية وتطبيقاتها.
( 5 )قسم التسويق.
(6) مكتبة تضم أحدث المراجع والطرق المكتبية.
وختاما أكرر ما سبق أن قلته في مؤتمر النباتات الطبية الدولي في جنيف 1976 والذي نظمته منظمة الصحة العالمية.
وهو "لنتقدم إلى الأمام في الاتجاه الخلفي "... عودة إلى الأعشاب الطبية والمنتجات الطبيعية ففيها العلاج والأمن والاقتصاد الدوائي.
والله ولي التوفيق،،،
ساحة النقاش