انقراض الكائنات الحية والتنوع الاحيائى وجهان لعملة واحدة
من العجيب أن الإنسان الأول رغم بدائيته الشديدة وافتقاده إلى كل وسائل وأسباب الرفاهية المعروفة لنا حاليا كان أكثر حظا منا في ما يخص نقاء بيئته المحيطة وجودة عناصرها وتنوع كائناتها، فقد كان رغم بساطة عيشته ومعاناته الأزلية في تدبير احتياجاته اليومية ينعم بثراء ورغد بيئي منقطع النظير.
وقد استمر الحال على هذا المنوال زمنا مديدا، لكن فقط منذ وقت ليس ببعيد وتحديدا منذ ظهور الثورة الصناعية في بداية القرن التاسع عشر وما تلا ذلك من تتابع ظهور كل أدوات التكنولوجيا والأسلحة المدمرة المعروفة الآن تغير الأمر تماما وانقلب الحال.
فقد بدأ طعم البيئة الفاسدة ينساب إلى حلق الإنسان، بل وبدأت الملوثات والسموم تتسرب رويدا رويدا في شعاب أجهزته التنفسية ومعظم أوصاله الأخرى، وخلف ذلك أمراضا مستحدثة استعصى علينا إيجاد علاج لها، كما أفرز مشاكل بيئية عويصة ما أنزل الله لنا بها من سلطان.
وليست مشاكل التلوث والتصحر وتآكل طبقة الأوزون والاحتباس الحراري وانتشار الأوبئة الغامضة وغيرها إلا أمثلة بسيطة من قائمة طويلة خطها الإنسان الحالي بيده الآثمة وأفعاله الخاطئة.
الانقراض والتنوع الأحيائي وجهان لعملة واحدة
لعل من أبرز القضايا البيئية المثارة حاليا بل وأكثرها تداولا وجذبا لاهتمام العامة والخاصة قضية انقراض الكائنات وفقد التنوع الأحيائي على كوكب الأرض، بل إنه من واقع جميع الأرقام والإحصاءات والاستفتاءات المهتمة بمتاعب ومشاكل الأرض البيئية تعد هذه القضية حاليا أم المشاكل البيئية دون منازع. وفي هذا الصدد يمكن القول إن علماء العالم لم يجمعوا على شيء مثلما أجمعوا على أن ظاهرة انقراض الكائنات تمثل أكبر خطر يهدد كوكب الأرض حاليا.
والانقراض (Extinction) هو الوجه الآخر للتنوع الأحيائي (Biodiversity)، وهو ليس مجرد "موت فرد" وإنما هو "اختفاء سلالة" وتوقف أبدي عن العطاء. وخطورة تلك المشكلة تكمن في أنه في كل مرة يختفي كائن ما من الوجود يخسر معه العالم مورد رزق أو مصدر غذاء أو كساء أو وسيلة حماية فطرية ضد قوى الطبيعة العاتية.
غير أن الانقراض ليس ظاهرة جديدة على كوكبنا، فالحياة الفطرية منذ ظهورها على سطح الأرض منذ حوالي 550 مليون سنة مرت بمراحل عديدة من الازدهار والانحدار.. ازدهار لأنواع محددة من الكائنات، يتبعه عادة انحدار في حالتها وأعدادها حتى ينتهي بها الأمر إلى الانقراض، سواء كان ذلك بصورة فجائية أم تدريجية.
واللافت أن نسبة الكائنات الحية المتواجدة حاليا على الأرض لا تشكل أكثر من 2% من جملة ما ظهر عليها منذ نشأتها، أي أن 98% من أشكال الحياة التي تتابع ظهورها عبر الأزمنة القديمة قد انقرضت بالفعل ولم يعد لها وجود الآن، واللافت أيضا أن متوسط عمر وجود هذه الأنواع على الأرض لم يزد في أي وقت عن 5 إلى 10 ملايين سنة على أكثر تقدير.
أهم الانقراضات الكبرى
ثمة درجات للانقراض، والمصطلحات كثيرة في هذا الصدد، لكن يمكن القول إن "الانقراض الجماعي" (Mass Extinction) هو أبو تلك المصطلحات، وهو يعبر عن ظاهرة دورية تتكرر على الأرض من آن لآخر وينتج عنه اختفاء جماعي لمعظم مخلوقات الأرض لتظهر بعد ذلك مجموعة أخرى ذات صفات جديدة ومتطورة في الغالب عن سابقتها. وقد تكررت هذه الظاهرة بصورة جماعية خمس مرات من قبل بسبب عوامل أو كوارث طبيعية وفي وقت لم يكن للإنسان وجود على الأرض.
غير أن هناك مؤشرات دامغة تقول إن العالم حاليا يسير بجسارة نحو انقراض جماعي سادس!.. غير أن من مفارقات القدر أن أول انقراض كبير ستشهده البشرية سيكون من صنع يديها!
ويعد الانقراض الثالث الذي حدث منذ ما يقرب من 250 مليون سنة أضخم هذه الانقراضات وأشدها أثرا، إذ نتج عنه اختفاء ما يقرب من 95% من جملة أنواع الكائنات التي كانت سائدة في ذلك الحين، أما أحدث الانقراضات الجماعية وأهمها وأكثرها إثارة للجدل فهو الانقراض الخامس الذي حدث في نهاية العصر الطباشيري منذ ما يقرب من 65 مليون سنة. وقد نتج عن هذا الانقراض إبادة حوالي 70% من كائنات ذلك العصر وأهمها الديناصورات والزواحف الضخمة وكائنات أخرى كانت سائدة حينذاك.
غير أن أسباب تلك الانقراضات مازالت غير معروفة على وجه اليقين حتى الآن، وكل ما ذكر في هذا الصدد لا يخرج عن كونه نظريات واجتهادات تحتمل الخطأ مثلما تحتمل الصحة، هذا رغم ما قد يتوافر لبعضها من أدلة وقرائن تبدو أحيانا مقنعة وقوية.
فمثلا بعد أن علت أسهم نظرية "ارتطام النيزك" في تفسير أسباب حدوث الانقراض الثالث، وهي النظرية التي تفترض سقوط نيزك ضخم أو كويكب وارتطامه بالأرض ما أحدث دمارا هائلا وتداعيات رهيبة أدت في النهاية إلى هلاك معظم كائنات ذلك العصر.. بعد أن علت أسهم هذه النظرية وبدا العالم مقتنعا بها، خرج علينا مؤخرا أحد العلماء بنظرية جديدة لقيت قبولا مفادها أن الغازات السامة كريهة الرائحة -وأهمها غاز كبريتيد الهيدروجين- التي انتشرت بكثافة في ذلك العصر لسبب مجهول هي المسؤولة عن انقراض تلك الكائنات.
والأمر لا يختلف كثيرا عند الحديث عن أسباب الانقراض الخامس الذي أتى على الديناصورات، وعلى هذا النحو يسير الأمر في تفسير بقية الانقراضات، ما يعني أن هذه النظريات تثير جدلا أكثر مما تقدم حقيقة.
الانقراض السادس الكبير!
هناك معلومات مؤكدة توضح أن الحياة الفطرية على كوكب الأرض تتعرض حاليا لانقراض سادس كبير، والسبب هذه المرة ليست قوى الطبيعة أو كوارثها المدمرة مثلما كان في الانقراضات السابقة، وإنما هو الإنسان!.. نعم الإنسان بأفعاله الخاطئة وتجاهله غير المحدود بحدود وقدرات البيئة المحيطة وبتعدياته المستمرة على مواردها وكائناتها.
فخلال الخمسين عاما الماضية وهي الفترة التي شهدت تصاعد أنشطة الإنسان اختفى من على وجه الأرض مئات الآلاف من الكائنات الحية، كما زاد معدل تناقص الكائنات وانقراضها 40 مرة عما كان عليه الوضع قبل الثورة الصناعية، أما المثير في هذه الحقيقة فهو أن معدل وسرعة حدوث الانقراض الحالي تفوق سرعة أي انقراض طبيعي (كارثي) سابق بـ100 مرة على أقل تقدير.
وفي هذا الصدد توضح التقارير الصادرة عن المنظمات والمؤسسات البيئية الدولية أن الوضع جد خطير وأن الأمر لا ينفع معه تجاهل أو صمت، ولعل قراءة الأرقام والإحصاءات التالية توضح خطورة الأمر وفداحة الخسارة:
- كل 20 دقيقة تمر علينا ينقرض من على سطح الأرض حيوان أو نبات ما فريد وذو فائدة جليلة للبشرية.
- جملة الكائنات المهددة بالانقراض تصل حاليا إلى أكثر من 12 ألف نوع، من أبرزها وأشهرها وحيد القرن والباندا والغوريلا والشمبانزي والفهد الآسيوي والمها العربي وفأر الماء الإثيوبي والطائر أبو منجل المصري والجمل ذو السنامين ونبات الصبار الشوكي.
- كشفت دراسة دولية نشرت نتائجها في مجلة "نيتشر" مطلع العام 2004 أن ما يقدر بـ25% من كائنات الأرض قد تنقرض نهائيا بحلول العام 2050 نتيجة لتداعيات ظاهرة الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية العالمية عموما، وفي هذا الصدد صرح كبير المستشارين العلميين في الحكومة البريطانية السير ديفد كين بأن تلك الظاهرة تمثل تهديدا على العالم أكبر مما تمثله ظاهرة الإرهاب الدولي.
- كشفت دراسة أخرى أن ما يقدر بـ30% من أنواع الأسماك و25% من الزواحف والثدييات و20% من البرمائيات و12% من الطيور و10% من النباتات الموجودة على كوكب الأرض تواجه خطر الانقراض والاختفاء تماما من على سطح الأرض خلال الأعوام الـ30 المقبلة نتيجة لممارسات الإنسان الخاطئة وعمليات التنمية غير المستدامة.
- حسب دراسة ثالثة أعلنت عنها مجلة نيوسايتست في مايو/ أيار الماضي فإن حوالي 200 من أبرز أنهار العالم سوف تتعرض خلال الـ300 عاما المقبلة لتغيرات كبرى في منسوب مياهها بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري، ما سيؤثر على مواردها وكائناتها المائية. وفي هذا الصدد تشير الدراسة إلى أن نهر النيل سيكون أكثر الأنهار تضررا إذ سيفقد 18 % من مياهه!.
أسباب الانقراض الحالي وتداعياته
ليس هناك شك في أن الإنسان هو المسؤول الأول عن ذلك التناقص الرهيب الحادث حاليا في أعداد وأنواع الكائنات الحية، أما كيف تسبب الإنسان في هذا فالجواب يتمثل في إصراره على استنزاف وتدمير عناصر الطبيعة ومواردها وفي مزاولته لأنشطة تفتقد البعد البيئي وتتسم في أبسط وصف لها بالجور والمغالاة، مثل الصيد والرعي الجائرين وإزالة الغابات وتجريف التربة وتلويث المسطحات المائية والبحار وتجفيف البحيرات والأراضي الرطبة. ولا ننسى دور الحروب والاتجار في الحيوانات في تعميق هذه المشكلة.
أما أهم الأنشطة البشرية التي "تعول" هذه الممارسات فهي الأنشطة السياحية غير المستدامة والتنمية العمرانية العشوائية والتنقيب عن البترول وإنتاجه والصيد غير المقنن والأنشطة الصناعية بما تنفثه من غازات وسموم مسببة احتباسا حراريا وثقبا في الأوزون وغيره، هذا بالإضافة إلى الحوادث الملاحية العارضة، واستقدام أنواع دخيلة وغريبة من الكائنات على الأنواع المستوطنة في الغابات والبحار وبقية الأنظمة البيئية. والمشكلة أن كل هذه الممارسات تصب نهاية في خانة تدمير مقدرات الحياة الفطرية وتنوع كائناتها.
وطبيعي أن تكون عواقب هذه الممارسات وخيمة على البشرية، ولغة الأرقام عادة لا تخطئ، فحسب ما جاء في الأطلس العالمي للتنوع الأحيائي الصادر حديثا، فإن العالم يخسر كل سنتين واحدا من أهم الأدوية وأكثرها فعالية في علاج أمراض البشرية نتيجة فقد التنوع الأحيائي وانقراض الكائنات.
كما أن 75% من المصايد السمكية الرئيسية في العالم قد انخفضت إنتاجيتها بشكل ملحوظ خلال العقد الأخير.
وفضلاً عن هذا فقد تدهورت حالة عدد من أهم الموائل الطبيعية ومنها الشعاب المرجانية والمانجروف وحشائش البحر وهي باقة من أكثر الموائل تنوعا وثراء وإفادة للبشرية، فقد ازدادت نسبة الشعاب المرجانية التي تعاني التدهور من 10% إلى أكثر من 30% خلال العقد الماضي ، كما تقلصت مساحة حشائش البحر بنسبة 15% خلال نفس الفترة تقريبا، ولم يكن المانجروف أحسن حالا إذ خسر أكثر من ربع مساحته خلال أقل من نصف قرن.
وهذا لا يعني سوى أن الإصرار على تلك الممارسات الخاطئة رغم أنها قد تجني أرباحا ومكاسب مادية سريعة فهي تؤدي إلى خسائر فادحة على المدى البعيد، فهذه الممارسات الآثمة ليست في الواقع إلا جسرا حرا ومعبرا ممهدا إلى انقراض سادس كبير قد يشمل الجنس البشري نفسه.
نحن مطالبون إذن بحل تلك المعضلة ووقف الانقراض الحالي بأي شكل وبأسرع وقت، إن جهود العالم يجب أن تتوحد من أجل إنقاذ التنوع الأحيائي وتخليصه من مشاكله، ويجب أن يتغير الفكر الإنساني بحيث يكون هناك توجه أكبر نحو البيئة ومواردها.. توجه لا يخلو من رحمة وتقدير لتاريخ الكائنات الحية الطويل في خدمة الإنسانية، وفي الحقيقة فإنه مطلب أساسي وحيوي لاستمراريتنا على هذا الكوكب.. ودون تحقيقه سيزول الجنس البشري.
اعداد لبنى نعيم
."
ساحة النقاش