محمد اللكود ..... الحرية اختيار حياة

مساهمات متنوعة لتنمية المجتمع الإنساني

 

ما هي الدولة المدنية؟ بقلم الكاتب: غازى التوبة

جاء مفهوم الدولة المدنية نتيجة تطورات غربية في القرون الوسطى في مجال الاجتماع والاقتصاد والسياسة... إلخ  مقابل  الدولة الكنسية ،

كانت أوروبا في العصور الوسطى تحكمها الكنيسة، وكان أبرز مفهومين تقوم عليهما المسيحية هما: المقدس والمدنس، فالمقدس هو الله والآخرة والروح، وكان المدنس هو الإنسان والدنيا والجسد والمرأة"" لذلك يجب أن يتجه الإنسان إلى هذه المقدسات، ويفني ذاته فيها، ويترك كل ما عداها.

فيجب أن يوجه الإنسان عقله إلى الله ذكرا وثناء وتمجيدا وعبادة، ويلغي التفكير فيما سواه، ويهمل الدنيا ومتاعها وشهواتها وملذاتها، وعليه ان يدمر حواسه التي تكبل روحه لكي تنطلق هذه الروح وتتخلص من قيودها،

إن القيادة الكنسية قادت معركة أخرى مع علماء أوروبا الذين طرحوا نظريات وأقوالا تناقض ما قالت به الكنيسة والكتب المقدسة  وأدت هذه المعركة إلى عقد محاكمات ومحاسبات لكثير من علماء أوروبا بتهمة الكفر والزندقة والانحراف عن الدين، وأدت تلك المحاكمات إلى إعدام الكثيرين منهم.

أدت هاتان المعركتان إلى انفجار أوروبا في وجه الكنيسة، وقامت ثورات متعددة لتصحح الوضع الخاطئ عند الكنيسة، فما الذي حدث؟

جعلت الثورات في أوروبا المقدس مدنسا، والمدنس مقدسا (الدنيا والجسد والمرأة )، أي إنها قلبت المعادلة، وكان الأولى أن تصحح موقف الكنيسة من الدنيا والمرأة والشهوات والجسد ، فنشأت "الدولة المدنية" التي اهتمت فقط بجسد الإنسان وشهواته ولذاته ومنافعه، واهتمت فقط بالدنيا وزراعتها واقتصادها وصناعتها، وجعلت كل حديث عن الروح وعن الجنة والنار والملائكة إنما هو حديث خرافة وأوهام، ومن الواضح أن هذه المواقف إنما جاءت ردود أفعال على المواقف الكنسية الخاطئة.

1-الاتحاد السوفياتي والشيوعية: أصبح الإلحاد هو الأصل الذي يقوم عليه، وأصبح يعلن أن الدين خرافة وأوهام، وأنه أفيون الشعوب، وأنه ليس هناك عالم غيب، وأن الملائكة والشياطين والجنة والنار أوهام من اختراع الأغنياء لاستغلال الفقراء، واعتبرت الشيوعية  أن الحياة مادة وليس وراء المادة شيء، واعتبرت على لسان "إنجلز" أن ستر العورة طريقة صريحة لامتلاك النساء، واعتبرت كذلك أن ولادة الحجاب جاءت مترافقة مع ولادة الملكية الفردية  وستعود العلاقات الجنسية مشاعة كما كانت في المجتمع القديم: كل النساء لكل الرجال.

2- العالم الحر والرأسمالية: فإنه يقوم على نفس الأسس المادية التي يقوم عليها المعسكر الشيوعي فهو يتنكر للغيوب من: إله وملائكة وآخرة وروح... إلخ، ويستهزئ بها، ويرذّل الإيمان بها ويعظّم الدنيا والجسد والمرأة والشهوة، ومما يؤكد ذلك حجم الإنفاق على الجنس  وحجم العري الذي يسود المجتمع الغربي، والتشريع للشذوذ الجنسي بشقيه: اللواط والسحاق، وقبوله حتى في الكنائس.

فأصبح مصطلح "الدولة المدنية" يعني التمركز حول الإنسان وجسده ولذاته وشهواته، مقابل التمركز السابق حول الله في "الدولة الكنسية"، وأصبح يعني الاهتمام بالدنيا وشؤونها وتطويرها في "الدولة المدنية" مقابل الاهتمام بالآخرة والروح في "الدولة الكنسية".

أن إرثنا الديني والثقافي وجه ديننا المسلم إلى الدنيا والآخرة، وإلى الاهتمام بالجسد والروح، ويؤكد ذلك آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد اعتبر الإسلام أن الدنيا هدف في حد ذاتها، وطلب أن يسأل العبد ربه أن يؤتيه الحسنات منها، فقال تعالى "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" (البقرة، 206)

وعدّ الإسلام إعمار الأرض هدفا من أهداف خلق الإنسان فقال تعالى "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب" (سورة هود، 61).

وقد تميز الإسلام بين أديان الأرض جميعا في أنه اعتبر أي عمل دنيوي شهوي عبادة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع من الصحابة: "في بضع أحدكم صدقة" فاستغرب الصحابة ذلك وقالوا: " يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟" فقال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ وكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" (رواه مسلم).

وجاء في حديث عن أنس أنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا الحبل لزينب، فإذا فترت تعلّقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد" (متفق عليه).

أن الدولة في التاريخ الإسلامي لم يتوجه اهتمامها فقط إلى شؤون المساجد والعبادة والتعليم الديني وتحفيظ القرآن، بل توجه اهتمامها -بالإضافة إلى ما سبق- إلى شؤون الدنيا بمختلف صنوفها من زراعة وتجارة واقتصاد وإدارة وأسرة

قال تعالى "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم." (التوبة،60).

لقد اهتمت الدولة الإسلامية بأمور الله والإنسان، والآخرة والدنيا، والروح والجسد، وقد اتضح ذلك من مقاصد الشريعة التي توصّل إليها علم أصول الفقه الإسلامي، فقد استقرأ الفقهاء أحكام الشريعة فوجدوا أن جميع تلك الأحكام تهدف إلى تحقيق خمسة مقاصد هي: حفظ الدين، حفظ العقل، حفظ النفس، حفظ المال، حفظ النسل، ومن البيّن أن هناك مقصدا واحدا من مقاصد الشريعة تتعلق بالدين، وهناك أربع مقاصد تتعلق بالإنسان وعقله وماله ونفسه وعرضه، وهذا يدل على مدى اهتمام الشرع الإسلامي والدولة الإسلامية بالإنسان والدنيا.

الخلاصة: قد جاء مصطلح "الدولة المدنية" مقابل "الدولة الكنسية" وهو مصطلح له مضامين محددة منها: التمركز حول الإنسان دون الالتفات إلى ما يتعلق بالله، والاهتمام بالدنيا فقط، دون أي اعتبار للآخرة، وإطلاق شهوات الجسد وملذاته دون أي اعتبار للروح، لكن دولتنا الإسلامية على مدار التاريخ الماضي قامت على أداء الواجبات نحو الله والإنسان، والدنيا والآخرة، والروح والجسد. وكذلك يجب أن تهتم الدول المعاصرة التي تتشكل بعد الربيع العربي، يجب أن تهتم بالجانبين: الله والإنسان، الدنيا والآخرة، الروح والجسد، وليس بجانب واحد كما هو حاصل في الغرب الآن.

 

المصدر: مقالة غازي التوبة
lkoud

متميزون

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 247 مشاهدة

عدد زيارات الموقع

148,104

ابحث

تسجيل الدخول

محمد اللكود

lkoud
تعددت وسائل الاتصال والأعلام المزيف والمخداع ، وأوشكت كلمة الحق أن تزول وتختفي ، لهذا بدأنا بالكتابة عسى أن نسهم في عودة الصدق في المقالة وشفافية الموقف. والمساهمة مع الأحرار في صناعة سياسية مسلحة وكلمة حرة لا تخاف ولا تتراجع أمام القمع أو الاضطهاد ، بمساعدة الأحرار المؤمنين بالله الواحد »