القدس عبر التاريخ
حظيت مدينة القدس، بمكانة عظيمة في التاريخ الإنساني، فكانت ملتقى الاتصال والتواصل بين قارات العالم القديم، تعاقبت عليها الحضارات، وأَمّتها الجماعات البشرية المختلفة، مخلفة وراءها آثارها ومخطوطاتها الأثرية دلالة على عظم وقدسيتها وأنها محط أنظار البشرية منذ أن قامت قبل نحو 6000 سنة.
العموريون والكنعانيون:
بدأت الهجرة العمورية-الكنعانية من الجزيرة العربية، في الألف السابع قبل الميلاد، وكانوا أول من سكن المنطقة وأول من بنى على أرض فلسطين حضارة حيث ورد في الكتابات العبرية، أن الكنعانيين هم سكان البلاد الأصليين، والكنعانيون هم أنفسهم العموريون وكذلك الفينيقيون، فقد كان الكنعانيون والفينيقيون في الأساس شعباً واحداً، تجمعهما روابط الدين واللغة والحضارة.
ووفقاً للتوراة، فإن أرض كنعان كانت تمتد من أوغاريت (رأس شمرا) حتى غزة، وقد تم العثور على قطعة نقود أثرية كتب عليها "اللاذقية في كنعان"، وفي تلك الفترة توصل الكنعانيون إلى بناء الصهاريج فوق السطوح، وحفر الأنفاق الطولية تحت الأرض؛ لإيصال المياه إلى القلاع، مثل نفق يبوس (القدس)، حفره اليبوسيون، وجاءوا بالمياه إلى حصن يبوس من نبع "جيحون".
اليبوسيون بناة القدس الأولون:
اليبوسيون هم بطن من بطون العرب الأوائل، نشأوا في قلب الجزيرة العربية. ثم نزحوا عنها مع من نزح من القبائل الكنعانية التي ينتمون إليها، وهم أول من سكن القدس حيث رحل الكنعانيون عن الجزيرة العربية، جماعات منفصلة، حطت في أماكن مختلفة من فلسطين، فسميت(أرض كنعان)، سكن بعضهم الجبال، بينما سكن البعض الأخر السهول والأودية ، وقد عاشوا في بداية الأمر متفرقين في أنحاء مختلفة، حتى المدن التي أنشأوها ومنها: (يبوس، وشكيم، وبيت شان، ومجدو، وبيت إيل، وجيزر، وأشقلون، وتعنك، وغزة)، وغيرها من المدن التي لا تزال حتى يومنا هذا، بقيت كل مدينة من هذه المدن تعيش مستقلة عن الأخرى، هكذا كان الكنعانيون في بداية الأمر، ولكن ما لبثوا أن اتحدوا بحكم الطبيعة وغريزة الدفاع عن النفس، فكونوا قوة كبيرة، واستطاعوا بعدئذ أن يغزوا البلاد المجاورة لهم، فأسّسوا كياناً عظيماً بقي فترة طويلة.
كانت يبوس حصينة آهلة بالسكان، تشتهر بزراعة العنب والزيتون. تعرف النحاس والبرونز، واشتهروا بصناعة الأسلحة والثياب والزجاج. صناعات السفن والقوارب ولها أهمية تجارية عظيمة؛ لوقوعها على طرق التجارة، وأهمية حربية كبيرة؛ لأنها مبنية على أربع تلال، ومحاطة بسورين ونفقاً يمكنهم من الوصول إلى عين أم الدرج".
راح بنو إسرائيل يغيرون عليها عندما خرج من مصر بقصد امتلاكها… قائلين: "أنها هي الأرض التي وعدهم الله بها"، ما رأوا من خيرات وبذلك أيقن الكنعانيون الخطر القادم، لأن بني إسرائيل كانوا كلما احتلوا مدينة خربوها وأعملوا السيف فيها،
بنو إسرائيل:
في عهد الفرعون المصري خرج بنو إسرائيل من مصر، وحاولوا دخول فلسطين من ناحيتها الجنوبية، فوجدوا فيها قوما جبارين فرجعوا إلى موسى وقالوا له "اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون" وبعدها حكم عليهم الرب بالتيه في صحراء سيناء أربعين عاماً، وتولى "يوشع بن نون" قيادة بني إسرائيل بعد موسى فعبر بهم نهر الأردن (1189 ق.م)، واحتل أريحا بعد حصار، وارتكبوا أبشع المذابح، ولم ينج أحد من سكانها حتى البهائم …ثم أحرقوا المدينة بالنار مع كل ما فيها،
عهد القضاة:
عاش بنو إسرائيل على الفوضى والضلال طيلة حكم القضاة، وتحولوا إلى ديانات الكنعانيين، وعبادة أوثانهم
وخلال هذه الفترة، ونتيجة هذه الفوضى؛ لم يذوقوا طعم الحرية والاستقلال أبداً،
ويدعي بعض اليهود أن المسجد الأقصى، قد أقيم على أنقاض الهيكل الذي بناه سليمان بعدما أصبح ملكاً علي بني إسرائيل بعد موت أبيه داوود. غير أن هذا ليس صحيحاً، فحتى هذه اللحظة لم يكتشف أي أثر يدل على بناء الهيكل في هذا المكان، أو في منطقة القدس.
تعرضت مدينة القدس لغزوات عديدة، أولها الكلدانيين، وقام "نبوخد نصر" بسبي بعض اليهود المقيمين في أطراف المدن الكنعانية لرفضهم دفع الجزية، فيما عرف بالسبي البابلي الأول. وتلاه غزو آخر عرف بالسبي البابلي الثاني، بسبب انضمام بعض اليهود إلى جملة المدن الثائرة على بابل، عام 586 ق.م، وتلا ذلك الغزو الفارسي للمدينة سنة 539-538ق.م ثم تعرضت المدينة للغزو اليوناني، عندما دخل الإسكندر المقدوني الكبير فلسطين سنة 332 ق.م. وبعد ذلك دخلت الجيوش الرومانية القدس سنة 63 ق.م عملت على تدميرها.
ظهور المسيحية
أدّى اعتناق "الإمبراطور قسطنطين" المسيحية في القرن الرابع الميلادي، إلى تغيير جذري في تاريخ المدينة، حيث أصدر قسطنطين سنة 313م، مرسوماً يقضي بمنح المسيحيين حرية العبادة في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، وأصبحت القدس مدينة مقدسة عند المسيحيين إذ حج إليها السيد المسيح منذ صباه.
اهتم قسطنطين بالمسيحيين والديانة الجديدة، وبنيت كنيسة القيامة وأصبح لها أهمية كبيرة، فسعى إليها الحجيج من كل مكان، وكثرت الكنائس وأصبحت الإمبراطورية الرومانية تدين بالمسيحية وشهدت فلسطين فترة استقرار ساعد على نمو وازدهار البلاد اقتصادياً وتجارياً وعمرانياً؛ واسهم مواسم الحج إلى الأماكن المقدسة بذلك.
احتل ملك الفرس "كسرى الثاني" القدس في 614م، فدمر الكنائس والأماكن المقدسة، وانضم من تبقى من اليهود إلى الفرس في حملتهم هذه؛ رغبة منهم في الانتقام من المسيحيين.
أعاد الإمبراطور "هرقل" فتح فلسطين سنة 628م، وطرد الفرس منها الى ان جاء الفتح العربي الإسلامي ليفتح المدينة، وكان ذلك في معركة اليرموك سنة 636م، وتبعتها الفتوحات الإسلامية.
الفتح الإسلامي
شكلت فلسطين والقدس خط الدفاع الأول عن الإسلام وبلاد المسلمين، واستمدت المدينة أهميتها الدينية لأنها مهد الرسالات ومنها عرج رسول الله "محمد" صلى الله عليه وسلم إلى السماوات السبع وعلاقة المسلمين بها انها من أقدس المقدسات، قبلتهم الأولى وثالث الحرمين الشريفين. حيث تسلم ابن الخطاب مفاتيح القدس وخطب قائلا: "يا أهل إيلياء لكم مالنا وعليكم ما علينا".
الحروب الصليبية
حاصرت القوات الصليبية المدينة المقدسة 1099م من جميع الاتجاهات واستطاع الصليبيون دخول المدينة ودمروها ، ونهبوا الكثير منها، المعادن النفيسة التي كانت تكسوا المقدسات، ولا سيما قبة الصخرة، المنازل والمساجد، ويذبحون كل من صادفهم من الرجال والنساء والأطفال، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت قضية تحرير القدس التي ترمز إلى تحرير فلسطين، هي القضية الأساسية لدى العرب والمسلمين.
المماليك معركة "حطين" معركة تحرير القدس.
الأحد 4 تموز حرر العرب طبريا، و فتحوا عكا، وكافة المدن والقرى الفلسطينية، وصولاً لأسوار المدينة المقدسة وفي يوم الجمعة 25 أيلول 1187م بعد خمسة أيام من بدء الحصار، بعث "صلاح الدين" إلى الصليبين رسولاً يقول لهم على لسانه: "إنني مثلكم أقدس هذه المدينة، وأعرف أنها بيت الله، وأنا لم آت إلى هنا كي أدنس قداستها بسفك الدماء ورفضوا الاستسلام وفي يوم الجمعة 3/ تشرين أول سنة 1187م، الذي يوافق ذكرى الإسراء والمعراج، دخل العرب المسلمون المدينة المقدسة.
الحكم العثماني 1516-1831م
دخل العثمانيون القدس بتاريخ 28 ديسمبر 1516م ونعمت القدس بأزهى أيامها بدون أسوار، كان سلاطين بني عثمان يكنون احتراماً خاصاً للقدس، بوصفها ثالث المدن المقدسة في الإسلام، وفي أواسط القرن السادس عشر، أقيمت في القدس مؤسسة من أهم المؤسسات الخيرية في فلسطين، تقدم يومياً مئات الوجبات إلى ضيوف الرباط والصوفية والطلبة، والفقراء بشكل عام ورثت مدينة القدس من زمن الأيوبيين والمماليك عدداً كبيراً من الأوقاف الإسلامية والمرافق العامة، التي لقيت الرعاية في الفترة العثمانية وازداد عددها، منذ بداية الفتح العثماني، كانت القدس تتبع ولاية دمشق، وهي إحدى ثلاث ولايات تألفت منها بلاد الشام في ذلك الوقت،
بدأت الدولة العثمانية في التراجع وتعمق في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، حيث أخذ نظام الإقطاع "السباهية" بالتوجه إلى الأرض والمزارعين للتعويض عن الغنائم التي خسروها، مما أدى إلى هبوط حاد في الإنتاج الزراعي، وفتح باب أزمة الإمبراطورية على مصراعيه، صاحب ذلك تدهور في الأمن العام، وخصوصا على الطريق المؤدية للمدينة وتورط الحكومة العثمانية في الحروب، أدى إلى تخوف أهل القدس من عدم الاستقرار، ومن المطامع الأوربية في المدينة، حيث حصلت النمسا سنة 1699م، على حق تمثيل المصالح المسيحية، وأدى إلى انتشار الفساد العام في أركان الدولة، وفرض الضرائب وزيادتها باستمرار، مما أدى إلى إفقار الشعب، وقتل حماس العمال والفلاحين، الذي أدى إلى تشتتهم وتنظيمهم للثورات المسلحة.
وفي أواخر القرن الثامن عشر و أوائل القرن العشرين، واجهت الدولة العثمانية تهديدين رئيسيين: الأول من مصر، والثاني من البلقان، ففي عام 1798م، غزا نابليون بونابرت مصر فعاشت القدس سلسلة من الاضطرابات والثورات.
سكان القدس في العهد العثماني
اكثرية سكان مدينة القدس، من المسلمين العرب، ونسبة صغيرة من المسلمين الذين اختاروا الإقامة فيها، أما المسيحيون، كانوا منقسمين إلى عدد من الطوائف والقوميات وكانت العلاقات بين الطوائف المسيحية مشحونة بالمنازعات والخصومات.
تمتعوا اليهود بالحرية الدينية في فترة الحكم العثماني، لم يحظوا بمثله في أي من البلدان الأوربية وأصبحت في القدس جالية يهودية "سفارادية" تزايد نموها بوصول اليهود "الحسيديم" من بولونيا سنة 1777م؛ مما ساهم في تأسيس طائفة أشكانازية في المدينة إلى جانب الطائفة "السفارادية". وفي سنة 1806م أصبح عدد اليهود في القدس 2000 نسمة وطرأ تحسن على مركز اليهود في القدس بعد منحهم صلاحيات إدارة شؤونهم الدينية والدنيوية، وقضائية وسياسية، ومع ضعف الإمبراطورية العثمانية قفز عددهم إلى 48.000
الانتداب البريطاني 1917- 1948م
احتل الحلفاء مدينة القدس في 9 ديسمبر 1917م، وأنشأت بريطانيا حكومة عسكرية في فلسطين، قبل أن تكمل احتلالها لشمال فلسطين، وعملت بمساعدة لجنة صهيونية على وضع السياسة المناسبة لتنفيذ وعد بلفور.
وسمحت الإدارة العسكرية للمستوطنات اليهودية بإنشاء حرس خاص لها وسمحت بريطانيا لوفد صهيوني برئاسة "حاييم وايزمن" بالحضور إلى القدس وسمحت للجنة الصهيونية برئاسة "حاييم وايزمن"، أن تعقد اجتماعات في مدن فلسطين وقرروا أن يكون لليهود حق تقرير شؤونهم واتخاذ (نجمة داوود) شعاراً للعلم الصهيوني، واستعمال أرض (إسرائيل ) بدلا من فلسطين.
تولي "هربرت صموئيل" سلطاته كأول مندوب سام على فلسطين، ومع توليه أعلن أن قيام الوطن القومي لليهود وفتح فلسطين للهجرة اليهودية، ومنح اليهود استثمارات ومشروعات كبرى، واعتمد اللغة العبرية لغة رسمية في البلاد
ومنع البناء منعاً باتاً في المناطق المحيطة بالبلدة القديمة، ووضَعت قيوداً على البناء في القدس "العربية"، وأعلن عن القدس الغربية "اليهودية" وتعزيز الوجود اليهودي في المدينة، كما عمل على إحاطتها بالمستوطنات؛ لمنع أي توسع عربي محتمل، وتحويلها إلى عاصمة للدولة اليهودية أدى الى هجرة اليهود من دول أوروبا إلى فلسطين.
بعد ثورة 1929م، ارتأت حكومة الانتداب تقسيم فلسطين إلى كانتونات (مقاطعات)، بعضها عربي والبعض الآخر يهودي، يتمتع كل منها بالحكم الذاتي في ظل الانتداب، وفي أعقاب ثورة 1936م، خرجت لجنة بيل بتوصية مفادها (تقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية، وعربية، ووضع القدس تحت نظام دولي لقدسيتها، بحيث تشمل المنطقة الممتدة من شمال القدس، حتى جنوبي بيت لحم مع ممر بري إلى يافا وكانت السياسة البريطانية ترى أن تقسيم فلسطين هو إحدى الوسائل لتهويدها ثم تحويلها إلى دولة يهودية.
الصراع الفلسطيني- اليهودي:
عندما أعلنت بريطانيا اعتزامها الانسحاب من فلسطين يوم 14/أيار (مايو) 1948م، أخذت المنظمات اليهودية الإرهابية في تصعيد حرب الإبادة وأعمال العنف واستخدام كافة الأساليب النفسية ضد العرب وإجبارهم على النزوح من بيوتهم وأخذ الأراضي خالية من السكان من خلال تنفذ المنظمات الإرهابية اليهودية، العديد من المجازر البشعة ضد المدنيين العزل، مثل مذبحة دير ياسين، التي أسفرت عن مقتل 250 فلسطينياً
وبحلول 14/أيار(مايو) 1948م، أعلن عن قيام دولة (إسرائيل) الأمر الذي أعقبه دخول وحدات من الجيوش العربية للقتال إلى جانب سكان فلسطين،
ملكية الأراضي بعد إتفاقية الهدنة في القدس:
وبوقوع الجزء الأكبر من مدينة القدس تحت السيطرة (الإسرائيلية) أخذت تعمل على دمج هذا الجزء العريض من المدينة بالدولة المزعومة واستطاعت (إسرائيل) مضاعفة عدد المهاجرين اليهود نتيجة لموجات الهجرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ووصول المهاجرين الجدد، وعمليات التهجير المنظمة من داخل "إسرائيل"،
استنكرت غالبية دول العالم الإجراءات الإسرائيلية في القدس، ورفضت التعامل معها كعاصمة لدولة (إسرائيل) وامتناع هذه الدول عن إقامة سفاراتها، أو نقل بعثاتها إلى القدس، علاوة على معارضة المجتمع الدولي لهذه السياسة
مع اندلاع حرب حزيران 1967م، تم الاستيلاء المدينة القديمة وتهجير أكبر عدد ممكن من سكانها الفلسطينيين لتسهيل السيطرة عليها وابتلاعها، وهدم حي المغاربة المحاذي لحائط البراق، ومباني إضافية ومواقع مقدسة معه، منها مسجد البراق وقبر الشيخ، أما سكان حي المغاربة فقد نقلوا إلى بيوت في أحياء أخرى من مدينة القدس،
مارس الاحتلال العديد من الأساليب ضد سكان القدس، حيث كان يعتقل المئات، ويروع الآخرين، بالإضافة إلى تجميع البالغين من الرجال وإجبارهم على رفع أيديهم أمام الجدران والتحقيق معهم، ثم سوقهم إلى نقاط وتوقيعهم على وثيقة تشير إلى تركهم للمدينة طوعاً، وكل هذا كان ينصب تحت سياسة "تفريغ المدينة من سكانها الأصليين".
عدد زيارات الموقع