النفوق الجماعى للأسماك ·· الأسباب والحلول الممكنة
إعداد
د. وحيد محمد فضل
دكتوراة فى الدراسات البيئية والإستشعار عن بُعد
تعتبر الأسماك والثروة السمكية بشكل عام – كما هو معروف – من أهم مصادر الغذاء وعنصراً هاماً فى تحقيق مفهوم الأمن الغذائى، فضلاً عن كونها مصدراً هاماً للدخل القومى وأحد سبل دعم الأقتصاد المحلى والوطنى فى عدد كبير من الدول.
لذا فإن أى عامل يؤثر سلباً على حجم الثروة السمكية المتاحة أو يهددها بأى شكل، سيمثل أمراً بالغ الخطورة، وهذا قياساً لحجم الأضرار والتداعيات السلبية الوخيمة الواقعة على البيئة البحرية والصحة العامة والدخل القومى.
وعلى هذا الأساس، تعتبر ظاهرة النفوق الجماعى لأسماك المياه العذبة والمالحة من الظواهر المدمرة للثروة السمكية ولكل القطاعات المستفيدة منها، ولاسيما مع تكرار حالات النفوق وامتداد الضرر لكائنات بحرية أخرى غير الأسماك.
وللأسف فقد تزايدت معدلات تكرار حالات النفوق الجماعى للأسماك فى البحار والأنهار والمسطحات المائية العربية بشكل لافت خلال الآونة الأخيرة، إلى الحد الذى يمكن معه القول انه توجد منطقة ساحلية واحدة نجت من الإصابة بهذه الظاهرة خلال الفترة الماضية.
الظاهرة قديماً وحديثاً :
وظاهرة نفوق الأسماك ليست جديدة فى الواقع على المجتمع البشرى، إذ توضح الآثار والمخطوطات التاريخية القديمة ظهورها منذ زمن بعيد، حيث تشير مثلاً النقوش القديمة إلى رصد الفراعنة والقدماء المصريين لظاهرة المد الأحمر المعروفة قديماً باسم "حيض البحر" والتى تعد من أهم أسباب النفوق الجماعى للأسماك.
كما جاء فى الآية 133 من سورة الأعراف قول الله عز وجل : "فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم" والمعنى منها ان قوم فرعون كانوا كلما استقوا من الآنهار والآبار أو ما كان فى أوعيتهم، وجدوه دماً عبطاً. وقد تم تفسير ذلك بحدوث موجة من تامد الأحمر القاتلة للأسماك تسببت آنذاك فى إصطباغ لون مياه النيل باللون الأحمر المشابه للدم.
لكن الملاحظ هو تكرار ظهور وزيادة معدلات حالات النفوق الجماعى للأسماك خاصة فى البحار والمسطحات المائية العربية، لاسيما بسواحل الخليج العربى وخليج عمان، بكثافة خلال الآونة الأخيرة.
وفى ذلك تشير التقارير والمشاهدات الحقلية إلى تكرار حالات النفوق الجماعى للأسماك فى أكثر من موقع بالخليج العربى مثل جون الكويت، وشواطئ الدمام والقطيف بالسعودية، وسواحل الفجيرة والمنطقة الشرقية بدولة الإمارات. كما تشير إلى حدوثها مؤخراً أيضاً فى بعض المناطق المائية الأخرى مثل فرع النيل برشيد ومرسى مطروح فى مصر، وخليج المنيستير على البحر المتوسط فى تونس، وساحل أبين وشقرة فى اليمن وسد وادى العرب بالأردن.
ولعل أشهر حالات نفوق الأسماك فى البحار العربية، تلك التى ضربت مياه جون الكويت فى أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول من عام 2000، والتى أدت إلى نفوق ما يزيد على ثلاثة آلاف طن من الأسماك خاصة من نوع الميد (البورى)، أى نحو سبعين مليون سمكة بحسب ما تم تقديره فى ذلك الوقت.
وقد تزامنت هذه الحالة مع موجه نفوق جماعى مماثلة ضربت السواحل الشمالية فى سلطنة عمان، وأدت إلى خسائر باهظة للغاية فى الثروة السمكية والاقتصاد الوطنى العمانى المعتمد بشكل أساسى على صيد وتصدير الأسماك البحرية.
لكن بغض النظر عن موقع أو طبيعة المنطقة المصابة بنفوق الأسماك، فإن الضرر الناتج عن هذا النفوق يمكن ان يمتد إلى قطاعات أخرى عديدة غير الصحة العامة والاقتصاد والبيئة. ومن تلك القطاعات مثلاً قطاع السياحة الذى يمكن أن يتأثر أو يتوقف بسبب تراكم الأسماك والجيف البحرية النافقة على الشواطئ وإصابة السياح والمصطافين ببعض الأمراض.
كما يمكن أن تتأثر بعض الصناعات بذلك الأمر، خاصة محطات توليد الكهرباء وتحلية المياه وتنقية مياه الشرب، وذلك لأن الطحالب المزدهرة أو الأسماك النافقة أو كلاهما يمكن أن تؤدى إلى إنسداد وتعطل مآخذ المياه الخاصة بهذه المحطات.
أسباب النفوق :
تتعدد أسباب النفوق الجماعى للأسماك، بين أسباب طبيعية تنتج من تغير خصائص المياه والمعاملات البحرية سواء أكانت بيولوجية أو كيميائية أو فيزيائية بشكل كبير ومفاجئ، وأسباب بشرية ترجع فى الأساس إلى تأثير الأنشطة البشرية والممارسات البيئية الخاطئة التى أصبحت منتشرة على نطاق واسع ومتكرر فى المناطق الساحلية وغيرها من المسطحات المائية.
ويحدث النفوق الجماعى للأسماك بشكل طبيعى بسبب النمو الفجائى وغير الإعتيادى للعوالق أو الهائمات النباتية (طحالب مجهرية دقيقة) التى تتكاثر فى المياه السطحية بصورة فائقة، مما يؤدى إلى إستنفاذ أو نقص الأكسجين المذاب بالمياه، وبالتالى هلاك الأسماك والكائنات البحرية الأخرى بشكل جماعى نتيجة إختناقها وعدم قدرتها على التنفس أو نتيجة إنسداد خياشيمها من أثر كثافة الطحالب المزدهرة. وهذه الظاهرة تعرف باسم "ظاهرة الإزدهار الطحلبى"، وفيها تنتشر الطحالب المجهرية او الهائمات بشكل كثيف للغاية مما يؤدى إلى إصطباغ لون المياه بلون هذه الطحالب.
وتعتبر هذه الظاهرة من أكثر العوامل الطبيعية التى تؤدى إلى نفوق الأسماك شيوعاً وتكرارية، حيث تتعرض لها معظم الشواطئ والمناطق الساحلية حول العالم، وتستمر فى العادة لمدة ثلاثة أيام، لكنها يمكن أن تتفاقم وتستمر لأكثر من ذلك إذا ما وجدت بيئة مناسبة ومحفزات إضافية على النمو والإزدهار مثل مياه الصابورات الخاصة بالسفن ومخلفات المصانع والمجارى والصرف الصحى غير المعالجة وغيرها من الملوثات.
ويعتبر المد الأحمر أحد أنواع الإزدهار الطحلبى، لكن هذا لا يعنى بالضرورة إصطباغ المياه باللون الأحمر أثناء المد أو الإزدهار الطحلبى الحادث، إذ يمكن ان يتحول لون المياه أيضاً إلى اللون الأخضر أو البنى أو الأصفر أو حتى البنفسجى، وهذا بحسب نوع وكثافة الطحالب الدقيقة المزدهرة والمسببة للمد.
كما قد يحدث نفوق الأسماك بسبب إفراز بعض أنواع هذه الطحالب لسموم بكتيرية تؤدى إلى الفتك بالأسماك وقتلها فى الحال، خاصة وأن هناك كثيراً من الأسماك تتغذى على هذه الطحالب، والمشكلة أن أثر هذه السموم يمكن أن يمتد إلى صحة الإنسان، حيث أن تناول الأسماك النافقة أو المصابة يمكن أن يؤدى إلى حالات إسهال شديدة وحكات جلدية بل والشلل التام والوفاة أحياناً.
كذلك قد يحدث النفوق بسبب تغير درجة حرارة الجو أو المياه أو درجة الملوحة أو الأمونيا فى المياه بشكل مفاجئ، حيث يصعب على الأسماك فى هذه الحالة التكيف أو التوائم مع هذه التغيرات الفجائية، مما يؤدى فى النهاية إلى هلاكها.
وقد يحدث أيضاً نفوق الأسماك بسبب العامل البشرى من خلال صرف المخلفات البشرية والزراعية والصناعية وغيرها من الملوثات مباشرة فى المياه الساحلية أو البحيرات من دون معالجة، وهو ما قد يؤدى إلى تراكم السموم والمغذيات الصناعية فى المياه بشكل زائد.
كما قد تلعب حالات التلوث الكيميائى أو البترولى التى تنتج بسبب انسكاب كميات كبيرة من النفط أو السولار أو المواد الكيميائية عند تصادم السفن أو غرقها، دوراً كبيراً فى نفوق كميات كبيرة من الأسماك والإضرار بالبيئة البحرية.
كما قد تنفق كميات كبيرة من الأسماك بسبب دفن المخلفات الإشعاعية فى قاع البحر أو بسبب استخدام وسائل غير مناسبة أو مشروعة أثناء الصيد مثل التفجير بالديناميت أو استخدام مادة السيانيد، وهى من الأمور الشائعة للأسف فى مناطق الشعاب المرجانية.
ويمكن أن يتضافر ويجتمع أكثر من سبب وعامل طبيعى أو بشرى بما يؤدى إلى تفاقم حالة النفوق الجماعى الحادثة. وبالمثل يمكن أيضاً ان تساهم بعض العوامل مثل انعدام التيارات البحرية والرياح وارتفاع معدلات الرطوبة ودرجات الحرارة فى تفاقم المشكلة واستمرارها لفترة زمنية أطول. ولعل هذا هو السبب فى زيادة معدلات حدوث ظاهرة الأزدهار الطحلبى والتلوث البكتيرى وحالات نفوق الأسماك المصاحبة لهما فى الفترة الأخيرة.
الإجراءات اللازمة :
لا يوجد للأسف وسيلة ناجعة أو إجراء ما حاسم يضمن عدم تكرار حالات النفوق الجماعى للأسماك بمنطقة ما، وهذا يعود فى الأساس إلى تعدد أسباب النفوق وإمكانية حدوثه بسبب عوامل طبيعية تلقائية لا يمكن بطبيعة الحال التحكم فيها أو توقعها، كما أوضحنا سالفاً. لكن يمكن مع ذلك التقليل من الآثار البيئية والإقتصادية والصحية الضارة الناتجة، من خلال الاستعداد لمثل هذه الحالات وإتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة.
ولعل من أهم الإجراءات الواجبة، متابعة حالة جودة المياه وعمل مسح دورى للمتغيرات والمعاملات البيئية البحرية فى المياه الإقليمية، بخاصة نسب توزيع الهائمات وتركيز النيترات والمواد العضوية. ويوصى فى هذا بتطبيق تقنية الإستشعار عن بُعد واستخدام الصور الفضائية التى تلتقط بصفة دورية وانتظام حيث يمكن ان تساعد على الرصد المبكر لأى ازدهار طحلبى أو تتبع حوادث الإنسكاب البترولى أو غيرها من المخاطر البحرية.
ويجب أيضاً وضع خطة طوارئ محكمة والاستعداد لمجابهة حالات الازدهار الطحلبى والنفوق الجماعى للأسماك عن طريق تزويد مراكز الإنقاذ البحرى والنهرى وبقية الجهات المعنية بالأدوات والأجهزة والمعدات اللازمة والمكافحة الميكانيكية للأسماك النافقة وجمعها قبل تحللها أو غرقها للقاع، وقبل امتداد تأثيراتها الضارة إلى قطاعات أو موائل بيولوجية أخرى.
كما يجب تعزيز نظام الرقابة وتطبيق القوانين البيئية بحزم لوقف التعديات البيئية والممارسات الخاطئة التى تحدث باستمرار، مع إيجاد نظام للإنذار المبكر يساعد فى التعرف على احتمالات وأسباب نفوق الأسماك. ولابد أيضاً من زيادة الوعى البيئى بمخاطر التلوث والممارسات البيئية الخاطئة، وآثارها السلبية الضارة بالبيئة المائية وجودة المياه والمخزون السمكى.
وفى كل الأحوال فإنه يجب الحد من درجة التلوث عن طريق وقف مصادر التلوث أو معالجة مخلفات الصرف الصحى والصناعى والزراعى قبل صرفها فى المناطق الساحلية أو مياه الأنهار أو البحيرات، وهذا هو أضعف الإيمان.
ولعله من الأجدى قبل كل هذا العودة إلى قول الله تعالى فى محكم آياته "ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس" (سورة الروم، الآية 41)، ونعتبر ان كل ما تقترفه يد الإنسان اليوم من آثام وأخطاء بحق البيئة المحيطة، والأنظمة البيئية البحرية وغيرها، لابد وان ترتد عليه ثانية بالضرر وربما الهلاك يوماً ما.
ساحة النقاش