في مطلع كتابه المعنون بـ (الرقابة القضائية على أعمال التشريع) يقول القاضي اللبناني "خليل جريج":
((مهما تنوعت الأنظمة السياسية والاجتماعية، وتطورت النظريات القانونية، فإن عمل الدولة يرتكز بالدرجة الأولى على تحديد علاقة الفرد بها، وإقامة هذه العلاقة على أسس عادلة بحيث تكفل للفرد القسط الأوفر من الكرامة والرخاء.
وهذا الهدف لا يتحقق بصورة مجدية إلا إذا كانت حقوق الفرد وواجباته، وحقوق الدولة وواجباتها معينة بوضوح، وكانت الثقة المتبادلة بينهما قائمة على أساس احترام الحقوق وتأدية الواجبات.
ونظراً لما للدولة بالنسبة للفرد من سلطة تتيح لها فرض إرادتها عليه وتجاهل حقوقه وامتهانها، كان على الفرد أن يبقى يقظاً لمواجهة إجراءات التعسف والحيلولة دون وقوعها، وذلك بإلزام الدولة بوضع الأنظمة والقواعد القانونية، وإقامة الأجهزة المستقلة عنها التي تستطيع أن تضع حداً لأي استهتار بحقوقه، ورفع الظلامة التي أوقعتها به، فيتساوى الطرفان أمام القانون))
{الرقابة القضائية على أعمال التشريع، معهد البحوث والدراسات العربية، ط1971، ص7}
وإذا أسقطنا هذا المبدأ القانوني المستقر في تحديد علاقة الدولة بمواطنيها، على موضوع "الموافقة الأمنية" الذي تفرضه السلطات على المواطنين بطريقة باتت تهدد المراكز القانونية المستقرة لهم والتي يكفلها القانون، وبالتالي يمكن أن تضيع حقوقهم بالملكية والتعاقد المصانة دستوراً.
حيث فرضت الحصول على "الموافقة الأمنية" من أجل تصديق الوكالات، وتثبيت عقود التصرف كالبيع والهبة في السجل العقاري، حتى وصل الأمر لعرقلة سير عملية التقاضي نفسها، بفرض "الموافقة الأمنية" على إجراء التسوية لدى الدوائر المالية على العقود قبل تقديمها للقضاء، وكذلك قبل الاشتراك بالمزايدات العلنية لدى دوائر التنفيذ القضائية!
وحيث أنه لا توجد نصوص وأنظمة قانونية واضحة ومنشورة تحكم هذه العملية الهامّة والحساسة بين المواطنين والدولة!
وحيث أن السلطات باتت تحجب هذه الموافقة عن المواطنين المتخلفين عن خدمة العلم أو الخدمة الاحتياطية، مما يسم هذا الإجراء بالتغوّل، لتعارضه مع قرينة البراءة الدستورية، المنصوص عليها في المادة 51/ 2 من الدستور والتي تقول بكل وضوح: ((كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم في محاكمة عادلة))!
الأمر الذي يوجب على المشرّع لدينا أن يتصدى لهذا الموضوع، عملاً بسلطاته الدستورية، وعملاً بـ "مبدأ الشرعية"، وعملاً بالمادة /50/ من الدستور التي تقول:
((سيادة القانون أساس الحكم في الدولة))
أن يصدر تشريعاً ينظّم بوضوح علاقة جهاز الأمن بالمواطن، ويعرّف ما هي "الموافقة الأمنية" ويحدد حالات منحها وحجبها بوضوح، ويعيّن الجهة المكلفة بمنحها، ويفرض عليها تعليل قرارها بحجبها، وينظم آليات الطعن بقرارها في حالة التعسف عن طريق القضاء.
فهل يقوم المشرّع بواجبه هذا؟؟