العنف الرياضي بين الإباحة والتجريم
بقلم الدكتور/ أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة
تتطلب ممارسة بعض الرياضات استعمال العنف والقوة البدنية على جسم المنافس. ولعل ذلك يبدو بصورة واضحة جلية في الملاكمة والمصارعة والكاراتيه([1]). ويمكن أن نطلق على هذه الرياضات تعبير «الرياضات العنيفة بطبيعتها». كذلك، قد تتضمن بعض الرياضات الأخرى نوعاً من العنف أو الالتحام القوي عند ممارستها، كما هو الشأن في رياضة كرة القدم. وهذه الرياضات بحسب طبيعتها لا تفترض استعمال العنف، ولكن قد يترتب أثناء ممارستها المساس بسلامة جسم المنافس على الرغم من إتباع كل قواعد اللعب وأصوله([2]).
وقد يترتب على هذه الألعاب أن يصاب بعض اللاعبين – بفعل البعض الآخر خلال اللعب – بإصابات بالغة. بل إن الأمر قد يصل في بعض الأحيان إلى حد التسبب في الوفاة. فعلى سبيل المثال، وفي إحدى مباريات الدوري الهندي، حدثت واقعة دراماتيكية سنة 2004م، راح ضحيتها المهاجم البرازيلي «كريستيانو جونيور»، وذلك على إثر تدخل حارس المرمى «سوبراتا بول» الذي كان يتولى حراسة مرمى فريق «موهون باجان» مع «كريستيانو» مهاجم نادي «ديمبو» خلال المباراة النهائية لكأس رئيس الهند، الأمر الذي أدى إلى مقتل المهاجم البرازيلي. وقد أثارت الواقعة جدلاً كبيراً، حيث طالب البعض بمعاقبة الحارس جنائياً، إلا أن تقريراً طبياً أثبت أن التدخل العنيف للحارس «سوبراتا» مع «كريستيانو» تزامن مع إصابة الأخير بأزمة قلبية نتيجة الإفراط في الجهد البدني والتعرض لضغوط عصبية وذهنية عنيفة أدت إلى وفاته بعد لحظات من نقله إلى المستشفى([3]). وعلى كل حال، فقد أثارت الواقعة جدلاً قانونياً كبيراً، يتعلق بمدى تجريم مثل هذه الأفعال العنيفة.
والواقع أن القانون يبيح بصفة عامة ممارسة الألعاب الرياضية المألوفة لنا، حتى ما كان منها يتطلب العنف أحياناً كالملاكمة والمصارعة وما إلى ذلك. ولكن، هذه الإباحة غير مطلقة، وإنما تحدها قيود وضوابط معينة.
علة الإباحة: ذهب فريق من الفقهاء وأحكام المحاكم إلى أن الإباحة في هذه الحالة ترجع إلى رضاء المجني عليه أو إلى انعدام ركن العمد لانتفاء نية الإضرار. ولكن هذا التفسير لا يستقيم مع المبادئ القانونية المستقرة. فمن ناحية، يلاحظ أن رضاء المجني عليه لا يمنح المتهم حقاً ما وليس سببا عاما لإباحة الجرائم. ومن ناحية أخرى، فإن ركن العمد يتوفر في مثل الأحوال المتقدمة من مجرد العلم بحقيقة النشاط الإرادي وتمثل نتائجه، وذلك بغض النظر عن نية الإضرار في ذاتها، أي دون نظر إلى البواعث أو الدوافع إلى ارتكاب الفعل. وعلى ذلك، فإن القول بانعدام ركن العمد في مثل الأحوال المذكورة راجع في حقيقة الأمر إلى الخلط بين فكرة العمد وفكرة الباعث([4]).
وبناء على ما سبق، نعتقد أن التفسير الصحيح للإباحة يكمن في استعمال اللاعب حقا قرره القانون. إذ تشجع الدولة الألعاب الرياضية على اختلاف أنواعها وترصد من أجلها المال وتعترف بالهيئات التي تقوم على رعايتها. والعلة التي من أجلها يقرر القانون هذا الحق أن الألعاب الرياضية لا تهدر مصلحة الجسم في أن يسير سيرا عاديا، بل إنها على العكس من ذلك تصون هذه المصلحة باعتبارها تقوي الجسم. وإذا ترتب عليها أحيانا مساس بسلامة الجسم، فإن أثرها الغالب في صيانة مصلحته يرجح على هذا المساس([5]).
قيود الإباحة وحدودها: غير أن حق ممارسة الألعاب الرياضية مقيدة دون شك بالشروط التي يتطلبها تطبيق مبدأ الشرعية، وأخصها شرط حسن النية الذي يعني عدم إساءة استعمال الحرية. وفضلاً عن ذلك، فإن نطاق هذا الحق محدود بقواعد اللعب المتعارف عليها، ويتعين بالتالي احترامها. ويترتب على عدم مراعاة هذه القواعد أو الخطأ فيها مسئولية اللاعب عن نتائج فعله بوصفها جرائم عمدية أو غير عمدية على حسب ما تتكشف عنه وقائع الحال من توفر العمد أو مجرد الخطأ([6]).
شروط الإباحة: إن إباحة العنف المرتبط بالألعاب الرياضية مرهون بتوافر شروط ثلاثة: (الأول) أن تكون اللعبة من الألعاب التي يعترف بها العرف الرياضي، أي أن تكون لها قواعد متعارف عليها وتقاليد تحمل المشتركين فيها على احترام هذه القواعد، وأن تكون مما يمارس في جهة أو جهات معينة. ولا يتطلب هذا الشرط أن تكون للعبة جمعيات أو هيئات منظمة تتولى الإشراف عليها أو تشجيع الإقبال على ممارستها. (الثاني) أن تكون أفعال العنف أو الأفعال التي أفضت إلى المساس بسلامة الجسم قد ارتكبت أثناء المباراة الرياضية. فإذا كانت قبل بدء المباراة أو بعد انتهائها، فلا إباحة. ويقتضي هذا الشرط أن يكون المجني عليه قد رضي بالاشتراك في المباراة. إذ لا مباراة بغير رضاء من يشتركون فيها. (الثالث) اتساق الفعل وقواعد اللعبة المتعارف عليها. فإذا خرج اللاعب عليها عامدا متعمدا، مريدا إيذاء منافسه، كان مسؤولا عن جريمة عمدية. أما إذا كان خروجه عليها ثمرة خطأ غير عمدي، فيرى الفقه أن اللاعب يكون مسؤولا عما يترتب على فعله من إصابة مسؤولية غير عمدية([7]). ومع ذلك، وباستقراء الواقع العملي، يمكن القول بأن العرف قد جرى على التسامح إزاء الأخطاء غير العمدية، مع الاكتفاء بما يتقرر من عقوبات تأديبية يتم توقيعها بواسطة الجهات الرياضية المعنية بأمور اللعبة.
([1]) د. علي راشد، القانون الجنائي. المدخل وأصول النظرية العامة، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1974م، ص 510.
([2]) د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات. القسم العام، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة السادسة، 1989م، رقم 186، ص 181.
([3]) راجع: جريدة الاتحاد، الملحق الرياضي، ملحق رياضي خاص بمناسبة كأس آسيا 2011م، دولة الإمارات العربية المتحدة، 8 صفر سنة 1432هـ الموافق 12 يناير سنة 2011م، ص 1.
([4]) د. علي راشد، القانون الجنائي، المدخل وأصول النظرية العامة، المرجع السابق، ص 510.
([5]) د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات. القسم العام، المرجع السابق، رقم 186، ص 182.
([6]) د. علي راشد، القانون الجنائي، المدخل وأصول النظرية العامة، المرجع السابق، ص 510 و511.
([7]) د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات. القسم العام، المرجع السابق، رقم 187، ص 182 و183.
ساحة النقاش