الحماية الجنائية للعملة الوطنية
بقلم الدكتور أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة
العملة الوطنية تعد رمزا من رموز السيادة الوطنية. ولذلك، تحرص كل دولة على كفالة استعمال عملتها الوطنية داخل أراضيها. كذلك، تحرص كل دولة على أن تتوافر في عملتها النقدية، سواء من حيث خصائصها أو شكلها أو صورها ما يوفر لها الثقة في التعامل على المستويين الوطني والخارجي.
وانطلاقا مما سبق، ووفقا للمادة 377 من قانون العقوبات المصري، «يعاقب بغرامة لا تجاوز مائة جنيه كل من ارتكب فعلا من الأفعال الآتية:... (8) من امتنع عن قبول عملة البلاد أو مسكوكاتها بالقيمة المتعامل بها ولم تكن مزورة ولا مغشوشة...». ومفاد هذا النص أن المشرع المصري يجرم سلوك كل من يمتنع عن قبول عملة البلاد أو مسكوكاتها بالقيمة المتعامل بها، ما لم تكن مزورة أو مغشوشة. فالسبب الوحيد الذي يعترف به المشرع لعدم قبول العملة هو أن تكون مزورة أو مغشوشة. أما في غير هذا الفرض، لا يجوز لأي شخص أن يمتنع عن قبول عملة البلاد أو مسكوكاتها. ويشمل هذا الحظر حالتين: (الأولى) عدم قبول عملة البلاد أو مسكوكاتها مطلقا، بحيث يفضل عليها عملة أخرى. (الثانية) قبول عملة البلاد أو مسكوكاتها بقيمة أقل من القيمة المتعامل بها.
والواقع أن الجريمة السابقة نادرة الحدوث في العمل. وتخلو قاعات المحاكم من وجود قضايا خاصة بهذه الجريمة. ولعل ذلك هو الذي يفسر اعتبارها من قبيل المخالفات المعاقب عليها بغرامة لا تتجاوز مائة جنيه. على النقيض من ذلك، نجد أن الحكومة المصرية تخالف هذا الحظر يوميا. ويتمثل ذلك في اشتراط العديد من الجهات الحكومية دفع بعض الرسوم بالعملة الصعبة. فعلى سبيل المثال، يلتزم الموظف المصري المعار إلى الخارج بدفع اشتراكات التأمينات الاجتماعية بالدولار. ولا شك أن هذا الإجراء الغريب يهدم فكرة المواطنة من أساسها، ويتناقض مع ضرورة اعتزاز المصري – حاكما ومحكوما – بدولته وبكل ما يرتبط بها، سواء كان علما أو شعارا أو نشيدا وطنيا أو عملة وطنية. ولا أعتقد أن هناك دولة أخرى في العالم تمتهن عملتها الوطنية إلى هذا الحد، وبحيث تفضل عليها عملة أجنبية، ولو كانت هذه العملة هي «الدولار» أو «الجنيه الإسترليني».
كذلك، أعتقد أن رسوم العبور في قناة السويس يتم دفعها بالدولار. وفي الجامعات الحكومية المصرية، يلتزم الطالب أو باحث الماجستير والدكتوراه الأجنبي والعربي بدفع رسوم الدراسة بالجنيه الإسترليني. لقد كنت أتمنى أن تطالب الجهات الحكومية المصرية الأجنبي المتعامل معها بسداد الرسوم بالجنيه المصري، وألا تقبل منه أي عملة أجنبية أخرى. وكنت أتفهم أن تقبل منه – مضطرة – العملة الأجنبية، وذلك كنوع من التيسير في الإجراءات على الأجانب. أما أن تشترط سداد الرسوم بعملة أجنبية معينة، فذلك ما لا يمكن فهمه ولا تبريره إلا وفقا لمنطق المصلحة المادية البحتة قصيرة الأجل.
لكل ما سبق، لا عجب في ألا نجد الجنيه المصري بين قائمة العملات المتداولة في البنوك ومحلات الصرافة الخليجية والأجنبية. فأثناء وجودي في أحد البنوك الخليجية الكبرى لإجراء إحدى المعاملات البنكية، لاحظت أن لوحة العملات لا تتضمن سعرا للجنيه المصري. حيث وجدت الجنيه المصري ضمن العملات التي تشتمل عليها اللوحة، ولكن من دون تحديد سعر للبيع أو سعر للشراء. وبسؤال أحد موظفي البنك عن سبب ذلك، أجاب بأن البنك لا يتعامل في الجنيه المصري بالشراء أو بالبيع، وأن التعامل عليه يقتصر على التحويلات البنكية فقط. وهكذا، يمكن إرجاع وجود الجنيه المصري ضمن قائمة العملات إلى ذلك الزمن الجميل الذي كان فيه الجنيه المصري قويا معتزا بنفسه، بحيث كان يزيد سعره على الجنيه الإسترليني، وكانت الحكومة المصرية دائنة لبريطانيا العظمى. أما عدم وجود سعر للبيع أو الشراء بالنسبة له، فيمكن تفسيره في ضوء الوضع الحالي المهين لهذه العملة في البلد الأصلي لها.
وإذا كانت الحكومة المصرية لا تعترف بعملتها الوطنية على النحو السابق، مفضلة عليها العملات الأجنبية، لاسيما «الدولار» و«الجنيه الإسترليني»، فكيف نطالب الدول الأخرى باحترام عملتنا الوطنية ؟ وإذا كنا نحرص على إخراج عملتنا الوطنية على النحو السابق، فكيف نتوقع من الآخرين أن يتداولون بها ؟ وإذا كانت حكومتنا الرشيدة لا تعبأ بدعم العملة الوطنية، بل ولا تدخر جهدا في هدمها وتقويض أركانها، فمن يا ترى يجتهد في دعمها ؟ إن الحكومة يا سادة ينبغي أن تضرب المثل وأن تكون القدوة أمام المواطنين في الاعتزاز بالعملة الوطنية والعمل على تقويتها.
وإذا كانت الحكومة لا تحرص على قبول واقتناء عملتها، مفضلة عليها العملات الأجنبية، فلا عجب إذن أن يحرص المواطن العادي على أن تكون مدخراته بالدولار، وأن يبادر إلى التخلص من الجنيه المصري مفضلا عليه «الدولار» و«اليورو» و«الإسترليني». وربما يكون البديل الحالي هو الذهب، ذلك المعدن النفيس الذي ارتفعت أسعاره مؤخرا بحيث قاربت سعر «الأوقية» ألفا دولار، في قفزة غير مسبوقة على الإطلاق.
وأتذكر هنا واقعة كنت أحد أطرافها، وذلك أثناء وجودي في باريس، للحصول على درجة الدكتوراه في القانون، في الفترة من أبريل 1998م إلى فبراير 2002م. ففي هذه الفترة، كان «الفرنك» الفرنسي ما زال متداولا. إذ أن «اليورو» لم يدخل إلى دائرة التعامل سوى في شهر أكتوبر 2001م. وقد حدث أن ارتفع سعر الدولار من 5.9 فرنك لكل دولار إلى 7.2 فرنك لكل دولار. وعندما سألت إحدى السيدات الفرنسيات عما إذا كانت قد قامت بتحويل مدخراتها أو جزء منها إلى الدولار، أجابت بالنفي، مستغربة هذا السؤال. كذلك، فقد عارضت طائفة كبيرة من الشعوب الأوربية العملة الموحدة (اليورو)، وذلك بسبب اعتزازها بعملتها الوطنية باعتبارها أحد مظاهر الهوية الوطنية.
ولا شك أن كل واحد منا يتمنى أن يكون ذلك هو ذات مسلك المواطن عندنا في مصر. ولكن، وقبل أن نطالب المواطن المصري بأن يحذو حذو المواطن الفرنسي والأوربي في الاعتزاز بعملته الوطنية، ينبغي على حكومتنا الرشيدة أن تكون أكثر حرصا على هذه العملة.
وفي الختام، نود أن نلفت النظر إلى أن المادة 39 من الدستور المصري لسنة 1971م تنص على أن «الادخار واجب وطني تحميه الدولة وتشجعه وتنظمه». وهكذا، تلتزم الدولة بحماية الادخار وتشجيعه وتنظيمه. والتساؤل الذي يثور هنا: هل الادخار الذي ينبغي على الدولة تشجيعه هو الادخار بالعملة الوطنية أم الادخار بالعملة الأجنبية ؟ ولا شك أن الإجابة على هذا السؤال توجب على الحكومة ضرورة التدخل بعلاج أوجه الخلل التي تمارسها الجهات الحكومية في تعاملها مع العملة الوطنية.
ساحة النقاش