الخصخصة والدستور
بقلم الدكتور أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة
ثورة 25 يناير تعد علامة فارقة في التاريخ المصري المعاصر. فلا شك أن الأوضاع في مصر بعد الخامس والعشرين من يناير تختلف تماما عما كان سائدا قبلها. ومن أبرز من أبانت عنه هذه الثورة هو حجم الفساد الرهيب الذي كانت ترزح فيه مصر تحت حكم النظام البائد. فمنذ سقوط نظام الرئيس السابق «حسني مبارك»، والأخبار لا تتوقف عن قضايا الفساد وعن رموزه الذين عاثوا في الأرض فسادا. فقد قام هؤلاء ببيع أصول مصر بأبخس الأثمان، وتم التصرف في أراضيها وثوراتها لعدد قليل من رجال الأعمال وحاشية النظام مقابل حفنة قليلة من الجنيهات. والمثال البارز على ذلك هو قضية «أرض مدينتي» وقضية بيع جزيرة «آمون».
وتم بيع شركات القطاع العام بسعر يقل كثيرا عن سعرها الحقيقي. ولعل قضية «بيع عمر أفندي» وبيع شركة «حديد الدخيلة» خير شواهد على ذلك. حيث قامت حكومة «أحمد نظيف» ببيع جميع فروع ومخازن وشقق وسيارات شركة «عمر أفندي» لشركة أنوال السعودية، وذلك نظير مبلغ 540 مليون جنيه فقط، بينما كان تقدير اللجنة التي شكلت لهذا الغرض هو مليار ومائة وتسعة وعشرين مليون جنيه. أي أن المبلغ الذي تم به بيع شركة «عمر أفندي» يقل قليلا عن نصف الثمن الذي حددته اللجنة كمقابل عادل للبيع. وبوجه عام، ووفقا لبعض التقديرات، فإن النظام البائد أهدر ما يزيد على 500 مليار جنيه في بيع الشركات المملوكة للدولة.
ولم تسلم «المحميات الطبيعية» من يد الفساد الطويلة. ويكفي أن نذكر هنا بقضية بيع محمية طبيعية بجزيرة «البياضية» بالأقصر، لرجل الأعمال الهارب حسين سالم، بالمخالفة للقانون واللوائح، على نحو أدى إلى إهدار المال العام بما قيمته 200 مليون جنيه، تمثل قيمة فارق السعر الحقيقي لها وهو 208 ملايين جنيه، بينما تم بيعها بسعر ثمانية ملايين جنيه فقط([1]). والمدهش حقا وفعلا هنا أن يتم التركيز هنا على الأضرار والخسائر المالية للواقعة، على الرغم من أن المحميات الطبيعية – على حد علمي – لا يمكن أن تكون موضوعا للبيع من الأساس. فالدولة ذاتها ينبغي أن تبقى مالكة للمحميات الطبيعية، وأن تحرص على حمايتها من كل سوء. وإذا كانت يد الفساد قد طالت المحميات الطبيعية على هذا النحو، فهل يمكن أن نظل نطلق عليها تعبير «المحمية الطبيعية» ؟!!!
ورغم تورط رموز النظام السابق في قضايا الفساد، فإن الأكثر غرابة وإثارة للدهشة هو شكوى هؤلاء المسئولين أنفسهم من أمر الفساد. ولعلنا نتذكر جميعا تصريح «زكريا عزمي» في مجلس الشعب بأن «الفساد وصل إلى الركب في المحليات». وما يبعث على الضحك فعلا هو أن تصدر هذه العبارة عن إحدى الشخصيات الرئيسية المتورطة في قضايا الفساد. ولعل دوره في قضية «العبارة 98» ليس بخاف على أحد. فلم ينكر الرجل نفسه صداقته لمالك العبارة رجل الأعمال «ممدوح إسماعيل».
لقد بلغ الفساد في عهد النظام البائد إلى الحد الذي جعل المنظمات الدولية المعنية بالفساد تصف الوضع قائلة بأن «الفساد في مصر أصبح مؤسسة تحمي نفسها بنفسها». وتؤكد الإحصاءات الصادرة عن المؤسسات الدولية أن مصر في ظل النظام السابق بلغت حدا غير مسبوق على سلم الفساد. ووفقا لتقارير منظمة الشفافية الدولية، وبعد أن كانت مصر تحتل المركز رقم 77 في قائمة الفساد العالمي لعام 2005م، تقدمت سنة 2006م أربعة مراكز، لتحتل المركز 73. فقد شهد العام 2006م، عرض أكثر من 73 ألف قضية فساد داخل الجهاز الحكومي، بمعدل قضية كل دقيقتين، بعد أن كانت قضية كل 7 دقائق منذ سنوات قليلة، وذلك طبقا لتصريح صادر عن اللواء «هتلر طنطاوي» رئيس هيئة الرقابة الإدارية السابق. وفي سنة 2007م، هوت مصر في تقرير منظمة الشفافية الدولية إلى المرتبة 105، ثم هوت عشرة مراكز أخرى في تقرير سنة 2008م، لتصبح في المركز 115 على مستوى العالم. وفي تقرير سنة 2010م، احتلت مصر المركز 98 على مستوى العالم، وهي مرتبة متأخرة جدان لا تتناسب مع الوضع اللائق بمصر الحضارة. ومن المعروف أن منظمة الشفافية الدولية تصدر تقريرها السنوي في ضوء مؤشر تنازلي من عشر نقاط، ليعطي صورة عن مدى الشفافية ومحاربة الفساد في دول العالم. وطبقا لهذا المؤشر، يتم تصنيف الدول بدرجات بين صفر وعشر درجات، بحيث يشير دولة ما على عشر درجات إلى سلامة البلد وخلوها من الفساد، بينما يشير الحصول على درجة منخفضة إلى تفشي الفساد والرشوة والمحسوبية بشكل كبير في البلد صاحب تلك المرتبة. وطبقا لهذا المؤشر، حصلت مصر – في تقرير سنة 2010م – على ثلاث درجات من عشرة، الأمر الذي يؤكد الوضع الخطير للفساد في مصر قبل الثورة.
وإزاء ما كشفت عنه ثورة 25 يناير من تلال ضخمة لوقائع الفساد المالي والإداري والسياسي في المؤسسات الحكومية، طالب عدد من الخبراء بإنشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد. وأشار البعض في هذا الصدد إلى التزام مصر – طبقا لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد – بتأسيس كيان مستقل لمكافحة الفساد.
ونعتقد أن هذا الإجراء ليس كافيا لمواجهة الفساد. إذ عرفت مصر – في ظل نظام «حسني مبارك» - وجود 16 جهاز رقابي، تضيع تقاريرها هباء، وتظل حبيسة الأدراج، دون أن ترى النور. بل أن الأمر قد وصل في بعض الأحيان إلى حد منع الجهات الرقابية من التدقيق والرقابة على بعض الجهات السيادية، مثل مؤسسة الرئاسة وبعض الوزارات الأخرى الهامة. كما عرفت مصر – خلال سنوات النظام البائد – ظاهرة الصناديق الخاصة التي لا يعلم أحد عنها شيئا، ولا تدرج من الأساس في الموازنة العامة للدولة.
وحتى لا تتكرر تجربة تبديد أصول مصر مرة أخرى، نرى من الملائم أن تخضع عملية الخصخصة لبعض الضوابط والشروط. فكما يقول المصري البسيط «المال السايب يعلم السرقة». ونعتقد أن يهتم المشرع الدستوري ذاته بموضوع الخصخصة، بحيث يضع الأطر الرئيسية التي تحكم هذا الموضوع الحيوي الهام.
ولا يكفي مجرد نص عام، يقرر التزام مؤسسات الدولة بحماية المال العام، وإنما ينبغي وضع ضوابط دستورية واضحة. وما نقول به ليس بدعة، وإنما سبقتنا بعض الدول في هذا الشأن. فعلى سبيل المثال، تنص الفقرة التاسعة من ديباجة الدستور الفرنسي لسنة 1946م على أن «كل مال، وكل مشروع، يكون استغلاله من النوع الذي يكتسب خصائص المرفق العام الوطني أو يصدق عليه وصف الاحتكار الواقعي، ينبغي أن يكون مملوكا للدولة»([2]). وغني عن البيان أن مقدمة دستور 1946م تعد جزءا لا يتجزأ من النظام الدستوري الفرنسي الساري حاليا. وتحت عنوان «التأميم والخصخصة»، تنص المادة 47 الفقرة الأولى من الدستور التركي لسنة 1982م على أن «المشروعات الخاصة التي يصدق عليها وصف المرفق العام يجوز أن تخضع للتأميم في الحالات التي تقتضي فيها المصلحة العامة ذلك»([3]). وتضيف الفقرة الثانية من ذات المادة أن «التأميم يتم على أساس التعويض العادل، وأن القانون يحدد طريقة وإجراءات تقدير هذا التعويض»([4]). وتنص الفقرة الثالثة من ذات المادة على أن «المبادئ والإجراءات ذات الصلة بخصخصة المشروعات والثروات المملوكة للدولة أو للمؤسسات العامة الاقتصادية أو لغيرها من الأشخاص المعنوية العامة، يتم تحديدها بالقانون»([5]). وتنص الفقرة الرابعة من ذات المادة على أن «يحدد القانون الاستثمارات والخدمات المقدمة بواسطة الدولة والمؤسسات العامة الاقتصادية وغيرها من الأشخاص المعنوية العامة، والتي يجوز أن يعهد بها للأشخاص الطبيعية أو المعنوية الخاصة بموجب أحد عقود القانون الخاص»([6]).
ولا شك أن تبني المشرع الدستورية المصري لذات المعايير الواردة في الدساتير آنفة الذكر، كان من شأنه أن يحول دون خصخصة بعض الشركات مثل «حديد الدخيلة» وشركات الأسمنت. لقد أثبتت التجربة مدى أهمية هذه الشركات للاقتصاد الوطني، كما أبانت ممارسات النظام البائد عن حجم الجرم الذي تم اقترافه بخصخصة هذه الشركات. لقد كان الشعب مقهورا ومغلوبا على أمره في ظل النظام البائد، وكان «حاميها حراميها»، ولذلك يمكن أن نلتمس لأنفسنا العذر. أما الآن، وبعد نجاح ثورة 25 يناير، لم يعد مقبولا أن يبقى المال العام دون رقيب أو حسيب. وفي اعتقادنا أن حماية المال العام لن تتحقق على الوجه الأمثل سوى من خلال وضع بعض الضوابط الدستورية لعملية الخصخصة.
[1])) راجع: جريدة الأهرام، تصدر عن مؤسسة الأهرام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، يوم الثلاثاء 16 رمضان 1432هـ الموافق 16 أغسطس 2011م، س 136، العدد 45543، خبر تحت عنوان «استدعاء زكريا عزمي والليثي الأسبوع المقبل للتحقيق في بيع محمية البياضية لحسين سالم».
([2]) L'alinéa 9 du préambule de la Constitution du 1946 ainsi rédigé: «tout bien, toute entreprise, dont l'exploitation a ou acquiert les caractères d'un service public national ou d'un monopole de fait doit devenir la propriété de la collectivité».
([3]) Sous le titre «Nationalisation et privatisation», l'article 47 al. 1 de la Constitution turque du 1982 dispose que «les entreprises privées ayant le caractère d'un service public peuvent être nationalisées dans les cas où l'intérêt public l'exige».
([4]) L'alinéa 2 de l'article 47 de la Constitution turque exige que «la nationalisation est effectuée sur la base de la contrevaleur réelle. La loi définit le mode et la procédure de calcul de cette contrevaleur».
([5]) L'alinéa 3 de l'article 47 de la Constitution turque stipule que «les principes et procédures à la privatisation des entreprises et richesses appurtenant à l'Etat, aux entreprises économiques publiques et aux autres personnes morales publiques sont fixés par la loi».
([6]) L'alinéa 4 de l'article 47 de la Constitution turque exige que «la loi détermine quels investissements et services fournis par l'Etat, les entreprises économiques publiques et les autres personnes morales publiques peuvent être confiés ou cédés à des personnes physiques ou morales en vertu de contrat de droit privé».
ساحة النقاش