الدكتور أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

الأسس القانونية والدولية للتنفيذ العقابي

دراسة مقارنة

 

مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر

أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة

 

    المبدأ القانوني المستقر أن لا عقوبة إلا بحكم قضائي. ويكتسب هذا المبدأ قيمة دستورية في معظم النظم القانونية المقارنة. وهكذا، فإن الحكم القضائي الصادر بناءً على دعوى جزائية هو وسيلة المجتمع لاقتضاء حقه في عقاب الجاني. ولكي يقتضي المجتمع حقه في العقاب، لا يكفي مجرد صدور الحكم القضائي، وإنما يلزم تنفيذ هذا الحكم.

 

      وتذهب الآراء الحديثة إلى القول بأن غاية الدعوى الجنائية هي التأهيل الاجتماعي للمحكوم عليه، أي علاج الخطورة الكامنة في شخصه، ووضعه في مركز يقره القانون، أي صيرورته مواطناً صالحاً، وأهمية هذه الآراء أن تعتبر مرحلة التنفيذ العقابي إحدى مراحل الدعوى الجنائية، بما يقتضي إسباغ طابع قضائي عليها، وإخضاعها لرقابة قاضي التنفيذ العقابي، أو قاضي تطبيق العقوبات وفق تعبير المشرع الفرنسي (المادة 721 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي)([1]).

 

ودون حاجة للخوض في هذا الخلاف، وأيا كان الرأي في هذا الموضوع، وسواء كان التنفيذ العقابي إحدى مراحل الدعوى الجنائية أم لا، فإن الفقه الحديث مستقر على أن القانون الجنائي بفرعيه (العقوبات والإجراءات الجنائية) يخضع لمبدأ الشرعية، وذلك تطبيقاً لأحكام الدستور التي تنص على أن سيادة القانون أساس الحكم في الدولة (المادة 64 من الدستور المصري؛ المادتان 44 و94 من دستور دولة الإمارات العربية المتحدة). فالدستور يحدد– من خلال نصوصه– نطاق شرعية القانون، بما تتضمنه النصوص من مبادئ دستورية. ويجب أن يصدر القانون مطابقاً لهذه المبادئ، حتى تتوافر فيه المشروعية. ويخضع القانون الجنائي لمبادئ دستورية تحدد نطاق مشروعيته، سواء فيما يتعلق بالتجريم والعقاب، أو فيما يتعلق بالإجراءات الجنائية التي تباشر عند وقوع الجرائم ضد المتهمين بارتكابها، أو إجراءات تنفيذ العقوبات المحكوم بها. وتستند الشرعية في القانون الجنائي على ثلاث ركائز: (الأولى) شرعية الجرائم والعقوبات. وهذه الركيزة من ركائز الشرعية تحكم قانون العقوبات، لكي تحمي الإنسان من خطر التجريم والعقاب بغير الأداة المعبرة عن إرادة الشعب، وهي التشريع، ولكي تجعله في مأمن من التطبيق بأثر رجعي، وأن يكون بمنأى عن خطر القياس في التجريم والعقاب. (الثانية) الشرعية الإجرائية الجنائية. وهذا الوجه من وجوه الشرعية يحكم قانون الإجراءات الجنائية، لكي تحمي حرية الإنسان وتوفر ضمانات هذه الحماية. ويتحقق ذلك بافتراض البراءة في المتهم كأصل عام، وتوفير الضمان القضائي في الإجراءات الجنائية بحسب أن القضاء هو الحارس الطبيعي للحريات، وتوفير محاكمة منصفة([2]). وتتسع هذه المحاكمة لمرحلة التنفيذ العقابي التي تتلو الحكم بالإدانة، وتخضع للركيزة الثالثة للشرعية الجنائية. (الثالثة) شرعية التنفيذ العقابي. وتحكم القواعد القانونية المحددة لمبادئ إجراءات تنفذ العقوبات، وذلك لحماية حقوق المحكوم عليه بحسب أن الحكم بالعقوبة يتطلب تقييد حرية المحكوم عليه وفقاً للهدف من توقيعها ولا يتضمن المساس بحقوقه وحريته بصفة مطلقة([3]).

 

وباستقراء التشريعات المقارنة، يمكن القول باختلاف الموضع الذي ترد فيه الأحكام القانونية الخاصة بتنفيذ العقوبات المقضي بها، واختلاف التسمية التي تطلقها على التشريع المنظم لهذه الأحكام. فقد ترد بعض هذه الأحكام في قانون الإجراءات الجنائية ذاته. فعلى سبيل المثال، يكرس المشرع الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة الكتاب الرابع من قانون الإجراءات الجزائية للأحكام الخاصة بتنفيذ الأحكام. حيث ورد هذا الكتاب تحت عنوان «التنفيذ»، متضمنا ستة أبواب: يتعلق الباب الأول ببيان الأحكام العامة للتنفيذ. ويختص الباب الثاني بتنفيذ عقوبة الإعدام. وينصرف الباب الثالث إلى تنفيذ العقوبات السالبة للحرية، أو على حد تعبير المشرع «العقوبات المقيدة للحرية». ويتناول الباب الرابع «تنفيذ التدابير». ويختص الباب الخامس بتسوية المبالغ المحكوم بها. ويتعلق الباب السادس بأحكام سقوط العقوبة بمضي المدة ووفاة المحكوم عليه. بالإضافة إلى ذلك، تضمن الكتاب الخامس من ذات القانون، والذي ورد تحت عنوان «أحكام متنوعة»، أحكام «الإشراف القضائي على المنشآت العقابية»، وذلك في الباب الأول منه([4]).

 

وقد ترد الأحكام القانونية المنظمة لتنفيذ العقوبات في قانون مستقل. وهذا القانون المستقل قد يطلق عليه «قانون تنظيم المنشآت العقابية»، كما هو الشأن في دولة الإمارات العربية المتحدة([5]). وقد يطلق عليه «قانون تنظيم السجون»، كما هو الشأن في مصر. وفي لبنان، صدر قانون خاص بتنفيذ العقوبات، وهو القانون رقم (463)، الصادر في السابع عشر من سبتمبر سنة 2002م، ويحمل عنوان «تنفيذ العقوبات». وهذا القانون يأتي جنبا إلى جنب مع القانون المنظم للمنشآت العقابية. ويمكن أن نطلق على هذه القوانين الخاصة اصطلاح «قانون الإجراءات الجنائية التكميلي» أو «القوانين المكملة لقانون الإجراءات الجنائية».

 

من ناحية أخرى، لم يقتصر الاهتمام بقواعد التنفيذ العقابي على التشريع الوطني أو الداخلي، وإنما امتد إلى المواثيق الدولية ذات الصلة بالعدالة الجنائية. فقد صدرت عن الأمم المتحدة قواعد الحد الأدنى لمعاملة المسجونين. وعلى المستوى الإقليمي، صدر  عن جامعة الدول العربية القانون النموذجي العربي الموحد لتنظيم السجون.

 

وهكذا، فإن السجون، والتنفيذ العقابي بشكل عام، لم يعد بعيدا عن يد العدالة والقانون. فعلى حد تعبير المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، فإن العدالة لا يجوز أن تتوقف على أبواب السجون([6]). وهكذا، لم يعد من الملائم أن نتكلم عن مجرد نظريات فقهية تحت مسمى «علم العقاب»، وإنما يغدو من الضروري التأكيد بأن التنفيذ العقابي غدا محكوما بنصوص قانونية. بل أن المبادئ العقابية قد ترتقي في بعض الأحيان إلى مرتبة القواعد الدستورية.

 

 


([1]) راجع: د. محمود نجيب حسني، شرح قانون الإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1995م، ص67، هامش رقم 1؛ علم العقاب، 1973، رقم 96، ص94، رقم 271، ص286.

[2])) راجع في الشرعية الإجرائية: د. محمود نجيب حسني، شرح قانون الإجراءات الجنائية، المرجع السابق، رقم 18، ص 18.

[3])) راجع بشأن الحلقات الثلاث للشرعية الجنائية: د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات. القسم العام،  بدون دار نشر، القاهرة، 2010م، رقم 38، ص 65 و66.

([4]) أنظر: قانون الإجراءات الجزائية لدولة الإمارات العربية المتحدة، الصادر بموجب القانون الاتحادي رقم (35) لسنة 1992م.  وقد صدر هذا القانون في الرابع عشر من ذي الحجة سنة 1412هـ الموافق الخامس عشر من يونيو سنة 1992م.

([5]) أنظر: القانون الاتحادي رقم (43) لسنة 1992م في شأن تنظيم المنشآت العقابية. وقد صدر هذا القانون في الثالث عشر من ربيع الثاني سنة 1413هـ الموافق العاشر من أكتوبر سنة 1992م.

([6]) La justice ne doit pas s'arrêter à la porte des prisons.

المصدر: الدكتور أحمد عبد الظاهر
  • Currently 187/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
53 تصويتات / 1912 مشاهدة
نشرت فى 10 نوفمبر 2010 بواسطة law

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

154,920