الدكتور أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

 

تكنولوجيا حديثة أم جريمة مستحدثة

 

مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر

أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة

 

في الأول من مارس سنة 2010م، نشرت إحدى الصحف العربية خبرا عن «رسالة قصيرة تدمر نفسها بعد قراءتها». وتحت هذا العنوان، ورد ما يلي: «الرسائل القصيرة قد تتحول إلى دليل إدانة لمرسلها لذلك طورت إحدى شركات التكنولوجيا خدمة جديدة تتيح للشخص إرسال رسالة تدمر نفسها، وذلك بعد قراءتها أو بعد فترة زمنية محددة ولا يمكن لمتلقيها نسخها، ولكن هذه الخدمة ستكون متاحة على الأقل حاليا لمستخدمي أجهزة الآي فون. وقالت الشركة أنها استوحت الخدمة الجديدة بعد فضيحة نجم الجولف الأمريكي تايجر وود بعد أن كشفت زوجته خيانته، وتعدد علاقاته عبر الرسائل القصيرة التي قدمتها إحدى صديقاته وهذه الخدمة تحمل اسم رسالة تايجر، وهي تسمح للمستخدم بتحديد وقت لحياة الرسائل التي يرسلها بحيث تختفي بعد قراءتها، منعا للاحتفاظ بها وابتزاز المرسل أو اكتشافها من قبل شخص آخر. ويقول جيفري إيفنز صاحب الفكرة ومطورها إن الرسالة ستختفي من هاتفي المرسل والمرسل إليه، كما يستحيل على مستقبلها إرسالها مجددا لأي طرف ثالث. وزيادة في الطمأنينة، ستزول الرسالة من ذاكرة أجهزة الشركة المشغلة للهواتف أيضا. وهي تقوم على فكرة بسيطة، وهي أن الرسالة لا ترسل من قبل شخص إلى آخر، بل تحفظ على السيرفر بشركة الاتصال والمستلم يدخل على الموقع الخاص بالخدمة لقراءة الرسالة التي ستمحى تلقائيا بعد مرور الفترة المحددة» (راجع: صحيفة الأهرام، تصدر عن مؤسسة الأهرام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الأول من مارس سنة 2010م).

 

ولا أستطيع أن أصف لكم شعوري عند قراءة هذا الخبر. لقد تملكتني الدهشة والاستغراب. ومبعث الدهشة هو أن يكون الباعث الدافع لاختراع هو تشجيع الجناة ومساعدتهم على ارتكاب جرائمهم دون خوف من عقوبة أو رادع. نعم، لقد عرفت البشرية في السابق بعض الاختراعات التي استهدف أصحابها من وراءها تحقيق رفاهية بني الإنسان، ولكن جرى فيما بعد إساءة استغلالها بواسطة المجرمين في ارتكاب مشروعاتهم الإجرامية. فعلى سبيل المثال، جرى استحداث جهاز الحاسب الآلي وشبكة الانترنت لاستخدامهما في العديد من الأنشطة النافعة للبشرية أو على الأقل في المصلحة العامة لبلد ما. وقد كان ذلك هو الهدف من وراء الاختراع. ولكن بعض المجرمين استخدموا هذا الجهاز، كما استخدموا شبكة الانترنت، في ارتكاب جرائم غسل الأموال وغيرها من الجرائم الالكترونية. ويبدو هذا الأمر مقبولا أو مستساغا. أما أن تكون الفكرة الرئيسية أو الهدف الأساسي من وراء اختراع معين هي معاونة المجرمين، ومساعدتهم في ارتكاب مشروعهم الإجرامي، ومد يد العون لهم في الإفلات من العقاب، فهذا ما لا يمكن قبوله.

 

لقد حرص المشرع الجنائي في معظم القوانين المقارنة على تجريم كل فعل من شأنه تضليل القضاء أو معاونة المجرمين على الإفلات من وجه العدالة. فعلى سبيل المثال، تنص المادة 145 من قانون العقوبات المصري على أن «كل من علم بوقوع جناية أو جنحة أو كان لديه ما يحمله على الاعتقاد بوقوعها وأعان الجاني بأي طريقة كانت على الفرار من وجه القضاء إما بإيواء الجاني المذكور وإما بإخفاء أدلة الجريمة وإما بتقديم معلومات تتعلق بالجريمة وهو يعلم بعدم صحتها أو كان لديه ما يحمله على الاعتقاد بذلك يعاقب طبقا للأحكام الآتية: إذا كانت الجريمة التي وقعت يعاقب عليها بالإعدام تكون العقوبة بالحبس مدة لا تتجاوز سنتين. وإذا كانت الجريمة التي وقعت يعاقب عليها بالأشغال الشاقة أو السجن تكون العقوبة بالحبس مدة لا تتجاوز سنة. أما في الأحوال الأخرى فتكون العقوبة الحبس لمدة لا تتجاوز ستة شهور. وعلى كل حال لا يجوز أن تتعدى العقوبة الحد الأقصى المقرر للجريمة نفسها. ولا تنطبق أحكام هذه المادة على الزوج أو الزوجة أو أصول أو فروع الجاني». وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، تنص المادة 266 من قانون العقوبات الاتحادي على أن «يعاقب بالحبس كل من غير بقصد تضليل القضاة حالة الأشخاص أو الأماكن أو الأشياء أو أخفى أدلة الجريمة أو قدم معلومات كاذبة تتعلق بها وهو يعلم عدم صحتها».

 

وإذا كان نص المشرع المصري قاطع في اشتراط أن يكون الجاني عالما بوقوع جناية أو جنحة أو كان لديه ما يحمله على الاعتقاد بوقوعها، بمعنى أن تكون أفعال المعاونة على الفرار من وجه العدالة لاحقة على وقوع الجريمة فعلا، فإن نص المشرع الإماراتي قد يوحي بعدم لزوم ما سبق. إذ يكفي – وفقا لنص المادة 266 من قانون العقوبات الاتحادي – أن يقوم الجاني بإخفاء أدلة الجريمة، وأن يكون ذلك بقصد تضليل القضاء. ومع ذلك، يبدو من المستبعد إنصراف إرادة المشرع إلى تجريم المعاونة السابقة على ارتكاب الجريمة. فالمعاونة على الفرار من وجه العدالة تجد مجالها الطبيعي في المرحلة اللاحقة على ارتكاب الجريمة الأصلية أو الأولية. 

 

إن الخبر المذكور في بداية هذا المقال يجعل من الضروري أن يقوم المشرع الجنائي بالمراجعة الدائمة والمستمرة لقانون العقوبات، وإجراء التعديل اللازم لتجريم الصور المستحدثة من السلوكيات الضارة بالمجتمع والتي تستأهل مواجهتها بالعقوبة الجنائية المناسبة.

 

 

المصدر: الدكتور أحمد عبد الظاهر
  • Currently 123/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
34 تصويتات / 354 مشاهدة
نشرت فى 24 أكتوبر 2010 بواسطة law

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

155,822