الحصانة الجنائية لأعضاء البعثات الدبلوماسية
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة
يتمتع رجال السلك الدبلوماسي بحصانة عامة، تشمل كل أفعالهم، سواء قامت الصلة بينها وبين العمل الدبلوماسي أم لم تتعلق به. وتمتد الحصانة إلى كل رجال السلك الدبلوماسي الأجنبي، على اختلاف ألقابهم ودرجاتهم. وتمتد كذلك إلى جميع موظفي البعثة الدبلوماسية الأجنبية وخدمها، بشرط ألا يحملوا جنسية الدولة التي يعملون في إقليمها. ويتمتع بالحصانة كذلك أعضاء البعثات الدبلوماسية الخاصة وممثلو الهيئات الدولية كهيئة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية. وعلة هذه الحصانة كون رجال السلك الدبلوماسي يمثلون دولا ذات سيادة؛ بالإضافة إلى أن كفالة الحرية والاستقلال المتطلبين لأدائهم أعمالهم تقتضي إقرار حصانة أشخاصهم وحصانة دار البعثة الدبلوماسية.
ويتمتع رجال السلك القنصلي بحصانة محددة تقتصر على ما يرتكبه القنصل من أفعال أثناء أدائه وظيفته أو بسببها.
ويذهب الفقه التقليدي إلى تكييف الحصانة الجنائية للمبعوثين الدبلوماسيين بأنها إعفاء من الخضوع للتشريع الجنائي، وأنها تأتي بمثابة استثناء على مبدأ إقليمية قانون العقوبات. ووفقا لهذا الرأي، فإن من يستفيد من الحصانة الجنائية يخرج من عداد من يوجه إليهم المشرع أوامره ونواهيه. فإن ارتكب الجريمة من الناحية الواقعية، فهو لا يعد مرتكبا لها من الناحية القانونية.
والواقع أن هذا التكييف محل للنقد. بيان ذلك أن استبعاد الفعل الذي يرتكبه الشخص المستفيد من الحصانة من الخضوع لنصوص التجريم التي يتضمنها التشريع الجنائي تعني استحالة وصفه بأنه غير مشروع طبقا لهذه النصوص. إذ أن هذا الوصف يفترض الخضوع ابتداء لقواعد القانون. والنتيجة الحتمية لذلك هي أن يعد هذا الفعل في حكم القواعد المشروعة أصلا. ويؤدي هذا القول إلى نتائج غير مقبولة: فمن ناحية، يجعل هذا التكييف الفعل غير صالح محلا للمساهمة الجنائية إذا ساهم فيه شخص لا يستفيد من هذه الحصانة. وبذلك، يستحيل توقيع العقاب على هذا الأخير. ومن ناحية أخرى، يقود هذا التكييف إلى سلب المعتدى عليه بهذا الفعل حق الدفاع الشرعي عن نفسه وماله. ومن شأن هذا التكييف أخيرا أن يجعل الدولة التي يتبعها المستفيد من الحصانة عاجزة عن محاكمته، إذا كان قانونها يشترط لذلك أن يعد الفعل جريمة طبقا لقانون الإقليم الذي ارتكب فيه.
وهذه النتائج لا يمكن التسليم بها. وهي تكفي لإثبات فساد الرأي القائل بأن الحصانة الجنائية للدبلوماسي هو عبارة عن إعفاء من الخضوع للتشريع الجنائي للدولة التي يمارس عمله فيها. يضاف إلى ذلك أن هذا الرأي يجاوز في منطقه الاعتبارات التي حملت على تقرير الحصانة لمن يستفيدون منها. إذ تقوم هذه الاعتبارات على الحاجة إلى ضمان الاستقلال أو الاحترام لبعض الأشخاص أثناء مباشرتهم عملا معينا أو أثناء وجودهم في إقليم الدولة. وصيانة هذه الاعتبارات لا تقتضي إخراج هؤلاء الأشخاص من عداد من يوجه المشرع إليهم أوامره ونواهيه واستبعاد أفعالهم من الخضوع للقانون، وإنما يكفي لذلك أن تمتنع السلطات الإقليمية عن اتخاذ إجراءات التحقيق والمحاكمة ضد هؤلاء الأشخاص. ويكفل هذا الامتناع دون شك صيانة الاستقلال أو الاحترام لهم، وهو في الوقت نفسه لا يحول بين هذه السلطات وبين اتخاذ الإجراءات ضد كل من يساهم في هذا الفعل دون أن يكون مستفيدا من الحصانة، ولا يسلب المعتدى عليه حق الدفاع الشرعي.
لكل ما سبق، يغدو سائغا تكييف الحصانة الجنائية للدبلوماسيين بأنها خروج بعض الأفعال عن الولاية القضائية للدولة. ويعني ذلك أن مجال هذه الحصانة هو الإجراءات الجنائية، ولا تعدو أن تكون مقررة مانعا إجرائيا يحول دون اتخاذ الإجراءات الجنائية ضد شخص معين بصدد فعل يعد جريمة. والقول بهذا التكييف ينفي عن الحصانة أنها استثناء يرد على مبدأ إقليمية قانون العقوبات، ويردها إلى مكانها الصحيح في الإجراءات الجنائية.
وعلى هذا النحو، فإن انتهاك الدبلوماسي الأجنبي لتشريعات الدولة التي يتواجد على إقليمها، أو ارتكابه جريمة جنائية يمكن أن يرتب عدة نتائج: (الأولى) اعتباره شخصا غير مرغوب فيه، ومطالبة الدولة الأجنبية التي يمثلها بسحبه فورا. (الثانية) الاحتجاج لدى دولته على الأفعال الإجرامية التي ارتكبها، وما يشكله ذلك من إساءة للعلاقات بين الدولتين. (الثالثة) أن دولته الأجنبية تستطيع تحريك الدعوى الجنائية ضده بعد عودته إلى بلده، وذلك طبقا لمبدأ الشخصية الإيجابية. ولما كانت المنظمات الدولية لا يوجد بها في الغالب قضاء جنائي لمحاسبة موظفيها، فإن التساؤل يثور حول حكم الأفعال الإجرامية المرتكبة بواسطة موظفي الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية.
وفي الإجابة على هذا التساؤل، فإن الإجابة لا تخرج عن أحد فروض ثلاثة: (الأول) أن تقوم المنظمة الدولية ذاتها بإنشاء قضاء جنائي ومدني خاص بها لمحاكمة موظفيها أو الادعاء ضدهم أمامه. (الثاني) أن تقوم دولته الأصلية بمحاكمته بناء على طلب المنظمة الدولية. (الثالث) أن تقوم المنظمة الدولية برفع الحصانة عن الموظف حتى يتسنى للدولة التي ارتكب الجريمة على إقليمها بمحاكمته. وحتى يمكن إتباع أحد هذه الحلول، لابد من النص صراحة على ذلك في اتفاقية دولية ترعاها الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو يتم النص على الحل المتبع في اتفاقية إنشاء المنظمة الدولية ذاتها.
ولعل الوضع الخاص لموظفي المنظمات الدولية هو الذي حدا بدولة الإمارات العربية المتحدة إلى مطالبة الأمم المتحدة بوضع ضوابط ومعايير ثابتة تكفل رفع الحصانة عن مرتكبي الجرائم والجنح من موظفيها وخبرائها الموفدين في بعثات والعاملين بعقود مؤقتة في برامج تابعة لها في البلد المضيف، لتمكين السلطات القضائية في هذا البلد بالقيام بولايتها القضائية وتقديمهم للمحاكمات العادلة، وفقا للأدلة والثبوت القانونية التي بحوزتها ضدهم .ففي الاجتماع الخاص الذي عقدته اللجنة السادسة للجمعية العامة للأمم المتحدة المعنية في الشؤون القانونية حول البند المتعلق بـالمساءلة الجنائية لموظفي الأمم المتحدة وخبرائها الموفدين في بعثاتها، أكدت دولة الإمارات العربية المتحدة على أهمية ضمان أن لا تكون الحصانات والامتيازات الممنوحة للموظفين الدوليين حائلا أمام تطبيق الدول لولاياتها القضائية ضد مرتكبي الجرائم والمخالفات فوق أراضيها. واستند هذا الطلب إلى أن المساءلة الجنائية لموظفي وخبراء الأمم المتحدة بما في ذلك الأفراد العاملين في عمليات حفظ السلام التابعة لها تعتبر مسألة ذات أهمية قصوى .. لأنها تعكس صورة المنظمة ومصداقيتها وحيادتها ونزاهتها وبالتالي لا بد من تطبيق سياسة عدم التسامح المطلقة وإنزال العقاب وفقا لمبدأ العدالة والقانون الدولي في كل الأعمال والقضايا الإجرامية التي يرتكبها هؤلاء الموظفون والخبراء بما في ذلك الاستغلال والانتهاك الجنسي وأعمال النصب المالي الذي يتورطون فيها أثناء تأديتهم لوظائفهم .. لأن الضرر الناجم عن هذه الجرائم لا يقتصر على مصلحة الضحايا وحدهم، بل يمتد إلى مكانة الأمم المتحدة ككل مما يقوض سمعتها ويعرقل من فعاليتها .. ولذا لابد أن تكفل الدول الأعضاء عدم إتاحة الوضع الخاص الذي يتمتع به موظفو المنظمة الدولية وخبراؤها الموفدون إلى بعثات من الإفلات من المساءلة الجنائية والعقاب ذلك في حال ارتكابهم للجنح والمخالفات وخاصة الحالات التي لا يكون بمقدور البلد المضيف فيها إقامة الدعاوى ضدهم.
وإذا كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها رقم 62 / 63، تطالب الدول باتخاذ الإجراءات الكفيلة بسد كافة الثغرات غير المقصودة والمحتملة في ولايتها القضائية الوطنية، فينبغي كذلك أن تقوم الجمعية العامة للأمم المتحدة باتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع إفلات موظفيها من العقاب وتسهيل فعالية ممارسة الولاية القضائية الجنائية وكفالة أن لا تؤدي الثغرات غير المقصودة في هذه الولاية القضائية إلى إفلات مرتكبي الأعمال الجنائية والجرائم الخطيرة من العاملين في الأمم المتحدة وفي أي بلد مضيف من العقاب.
وفي هذا الصدد، فإن الحل الأمثل، يكمن في أحد سبيلين، هما: إيجاد الآليات الكفيلة بممارسة الدول الأعضاء لحقها في فرض ولايتها القضائية على رعاياها الذين يشاركون في عمليات الأمم المتحدة في الخارج ويرتكبون جرائم خطيرة، أو نقل هذه الولاية إلى السلطات القضائية في الدول التي تقع بها هذه الأعمال الإجرامية في حال تم الاتفاق مع سلطات الدولة التي ينتمي إليها هؤلاء الموظفون[1].
([1]) وكالة أنباء الإمارات – وام، الإمارات تطالب الأمم المتحدة برفع الحصانة عن موظفيها المرتكبين للجرائم والجنح، 18 أكتوبر سنة 2009م.
ساحة النقاش