الدكتور أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

القرصنة البحرية... جريمة عالمية وهموم عربية

 

مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر

أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة

 

تكفلت المادة (15/1) من اتفاقية جنيف لأعالي البحار بتعريف جريمة القرصنة، مقررة أنها «أي عمل من أعمال العنف غير المشروع أو الاستيلاء أو النهب، إذا ارتكب لأغراض خاصة، وكان موجها ضد سفينة أو طائرة أخرى، ضد ما تحمله من أشخاص أو أموال، وذلك إذا وقع العمل في أعالي البحار، أو في مكان لا يخضع لاختصاص دولة من الدول». ويبين من هذا النص أن جريمة القرصنة لا ترتكب إلا في أعالي البحار أو في مكان لا يخضع لاختصاص دولة معينة. وتتميز جريمة القرصنة بأن الهدف من ارتكابها هو تحقيق أغراض خاصة ذات طابع اقتصادي. وتفترض هذه الجريمة وقوع أفعال عنف من طاقم أو ركاب سفينة أو طائرة خاصة ضد سفينة أو طائرة أخرى، أو ضد ما تحمله من أشخاص وأموال. وفي ظل عهد عصبة الأمم، نصت المادة (1/1) من مشروع لجنة الخبراء الخاص بالمعاقبة على جريمة القرصنة على أن نطاق تطبيقها ينحصر في عرض البحر، وتتمثل فيما يصدر عن فاعلها – لحسابه الخاص – من أفعال عنف تقع على الأشخاص، أو أفعال الاستيلاء على الأموال.

 

وتحرص تشريعات بعض الدول الأوربية على تجريم القرصنة صراحة، ولاسيما الدول التي تمتلك أساطيل بحرية كبيرة؛ ففي انجلترا وردت بعض النصوص التي تجرم القرصنة منذ سنة 1535م، تبعتها نصوص أخرى في أعوام 1700م، 1721م و1823م. وفي فرنسا، نص القانون الصادر في 10 ابريل 1825م على تجريم القرصنة. وبعد ذلك بأكثر من مائة عام، نهج المشرع البلجيكي ذات المنهج، حيث أصدر قانونا خاصا في 5 يونيو سنة 1928م متضمنا تجريم بعض صور القرصنة. واعتبرها المشرع البولوني من قبيل جرائم السطو المسلح المنصوص عليها في قانون العقوبات (م 9/1).

 

ولتحقق النموذج القانوني لجريمة القرصنة، يستلزم فقيه القانون الدولي «فوشيل» (Fouchille) توافر أركان ثلاثة: (الأول) وجود سفينة يرتكب بحارتها أو ركابها عملا من أعمال العنف غير المشروع؛ (الثاني) أن ينطوي ذلك على تهديد للتجارة الدولية – دون تفرقة بين الدول – بالخطر؛ (الثالث) أن ترتكب هذه الأفعال في عرض البحر.

 

والواقع أن القرصنة جريمة عالمية، تؤدي إلى تعريض التجارة الدولية للخطر. ولذلك، ورغم أن قانون العقوبات المصري لا يتضمن نصا بشأن مبدأ عالمية النص الجنائي، فإن بعض الفقه يرى تطبيق هذا المبدأ على جريمة القرصنة، مؤكدا أنها تعد – طبقا لعرف دولي مستقر – جريمة ضد المجتمع الدولي، بحيث يجوز لكل دولة تضبط القرصان أن تقتاده إلى محاكمها وتطبق عليه تشريعها، على الرغم من أنه لا يحمل جنسيتها ومن أن مكان جريمته هو البحر العام الذي لا يخضع لسيادة دولة ما.

 

وقد تزايدت في الآونة الأخيرة أعمال القرصنة قبالة سواحل الصومال بوجه خاص وفي منطقة خليج عدن وبحر العرب بوجه عام. ومنذ مطلع العالم الحالي، قام القراصنة الصوماليون بمهاجمة حوالي ثمانين سفينة، واختطفوا ما يقرب من أربعين سفينة حتى الآن، الأمر الذي يجعل القنوات الملاحية المزدحمة عبر خليج عدن من أكثر الممرات الملاحية خطورة في العالم. ومع بداية شهر أكتوبر 2008م، شهدت أعمال القرصنة قبالة سواحل الصومال تطورا نوعيا، حيث قام القراصنة باختطاف سفينة شحن أوكرانية على متنها 33 دبابة وأسلحة أخرى. وشهد منتصف نوفمبر 2008م أضخم عملية قرصنة بحرية، حيث تم اختطاف ناقلة البترول السعودية «سيريوس ستار»، والتي كانت تحمل نحو مليوني برميل من البترول تقدر قيمتها بمائة مليون دولار.    

 

وتقدر منظمة بحرية متمركزة في كينيا عدد القراصنة المنتشرين على طول السواحل الصومالية بنحو 1100 رجل موزعين في أربع مجموعات، ومعظمهم من خفر السواحل السابقين. ويستخدم القراصنة زوارق سريعة جدا تعمل انطلاقا من سفينة أم، ويملكون أسلحة رشاشة وقاذفات قنابل يدوية، وقد تكون لديهم قاذفات صواريخ، ويستعملون هواتف تعمل بنظام «دي. بي. أس» وبالأقمار الاصطناعية.

 

ولمواجهة ظاهرة القرصنة، وعلى أثر اختطاف سفينة الأسلحة الأوكرانية، تقدمت روسيا بطلب رسمي إلى الصومال لمنحها حرية التصرف في محاربة القراصنة في المياه الإقليمية الصومالية. ونقلت وكالة الأنباء الروسية «نوفوستي» عن إدارة الإعلام والصحافة في وزارة الخارجية الروسية أن الوزارة طلبت رسميا من الحكومة الصومالية منحها صفة «الدولة المتعاونة» للتحرك بشكل أكثر فعالية في مجال محاربة القرصنة في المياه الإقليمية الصومالية. وبالفعل، بادرت روسيا بإرسال السفينة الحربية «انتريبيد» إلى خليج عدن. ثم أعلنت بعد ذلك القوات البحرية الروسية أنها سترسل مزيدا من القطع العسكرية إلى المنطقة، مؤكدة أن هذا الأمر ضروري بسبب الوضع المتدهور في جوار القرن الأفريقي وفي خليج عدن، حيث يكثف القراصنة تحركاتهم.

 

وفي السابع من أكتوبر 2008م، وتعبيرا عن القلق الشديد من جراء انتشار أعمال السطو المسلح واختطاف السفن قبالة سواحل الصومال في الآونة الأخيرة، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1838 (2008). ويهيب القرار الصادر بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بالدول المهتمة بأمن الأنشطة البحرية أن تشارك بنشاط في مكافحة أعمال القرصنة في أعالي البحار قبالة سواحل الصومال، عن طريق القيام على وجه الخصوص بنشر سفن بحرية وطائرات عسكرية، وفقا للقانون الدولي...

 

وبعد يومين فقط من صدور قرار مجلس الأمن، وخلال اجتماع عقد بالعاصمة المجرية بودابست، وافق وزراء الدفاع بالدول الأعضاء في حلف الناتو على إرسال سبع فرقاطات إلى السواحل الصومالية في غضون أسبوعين لتنضم إلى المجموعة البحرية الدائمة التابعة للحلف والتي تعمل بالفعل في هذه المنطقة. وقال الأمين العام للناتو إن قرار الحلف جاء استجابة لطلب من الأمين العام للأمم المتحدة، واستكمالا لمبادرة مماثلة من الاتحاد الأوربي صادرة قبل أسبوع من قرار الحلف.   

 

وفي النصف الثاني من شهر نوفمبر 2008م، أعلن وزير الدفاع الفرنسي أن الاتحاد الأوربي سيبدأ اعتبارا من شهر ديسمبر أول عملية من نوعها في تاريخه لمكافحة القرصنة على سواحل الصومال. وقال الوزير الذي تترأس بلاده الاتحاد الأوربي آنذاك أن خمس أو ست سفن ستبدأ اعتبارا من هذا التاريخ مهمة تسيير دوريات بحرية في منطقة القراصنة بخليج عدن بمشاركة ألمانيا وفرنسا وهولندا واليونان وأسبانيا والبرتغال والسويد، مع احتمال مشاركة النرويج غير المنضمة للاتحاد. وقال الوزير الفرنسي إن السفن الحربية ستواكب السفن التجارية وسفن برنامج الغذاء العالمي، وتقوم بعمليات مراقبة بمشاركة طائرات تابعة للبحرية. وحث السفير الروسي لدى حلف الناتو «ديمتري روجوسين» دول الحلف والاتحاد الأوربي على القيام بعمليات برية على قواعد القرصنة الكائنة على أرض الصومال بالتعاون مع بلاده، مؤكدا أن العمل البحري وحده لا يكفي، ولو شارك فيه أسطول ضخم.

 

ومن جانبها، أعلنت الهند أن إحدى سفنها الحربية اشتبكت مع قارب للقراصنة الصوماليين في خليج عدن، ودمرته في أول مواجهة من هذا النوع منذ تفاقم أزمة اختطاف السفن. وقال بيان للبحرية الهندية أن سفينتها فتحت النار على القراصنة دفاعا عن النفس بعد تهديدهم بتفجير السفينة الحربية. وقال البيان أنه نتيجة لإطلاق النار على القارب اندلع حريق على متنه. وجدير بالذكر أن الهند سيرت السفينة الحربية «أياناس تابار» لمرافقة السفن الهندية، بعد أن قالت شركات الشحن الهندية أنها تخسر 450 ألف دولار شهريا جراء زيادة التكاليف والتأخر في الوفاء بالجداول الزمنية المتفق عليها. وأثناء محاولة القراصنة اختطاف سفينة دانمركية في خليج عدن، قامت السفينة الحربية البريطانية «كمبر لاند» بقتل اثنين من القراصنة الصوماليين، بالاشتراك مع سفينة حربية روسية. وفي رسالة مكتوبة، أشاد الأمين العام لحلف الناتو بالمهمة التي قامت بها السفينة البريطانية، مؤكدا أن البحارة نفذوا مهمتهم بشجاعة ومهنية، مضيفا أن الحادث يظهر التزام الناتو بلعب دوره في منع القرصنة على سواحل الصومال وفقا للتكليف الذي منحته إياه الأمم المتحدة.   

 

والواقع أن كثافة الأساطيل الغربية والأسيوية المنتشرة في خليج عدن بدعوى مكافحة القرصنة، تمثل تهديدا للأمن القومي العربي، وقد يؤدي هذا الانتشار إلى تدويل البحر الأحمر. وتصاعد الحديث في الدول العربية عن مخطط أمريكي أوروبي لتدويل البحر الأحمر، وعن دور إسرائيلي مرتقب. من ناحية أخرى، حذر تقرير صادر عن المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية بلندن من أن التجارة العالمية تواجه تهديدا خطيرا بسبب أعمال القرصنة أمام السواحل الصومالية وبالقرب من خليج عدن، وهو المدخل الجنوبي لقناة السويس. ويعني ذلك، أن تبحث السفن التجارية عن طرق ملاحية بديلة، الأمر الذي يؤثر على حركة الملاحة في قناة السويس، ويؤثر بالتالي على إيرادات مصر من هذا المصدر الحيوي الهام.   

 

ومع ذلك، فقد تأخر التحرك العربي كثيرا، واتسم بالتردد وغياب خطة واضحة لمواجهة الوضع المتأزم. ففي الخامس والعشرين من أكتوبر سنة 2008م، أخفق مجلس السلم والأمن التابع لجامعة الدول العربية في عقد اجتماع لمناقشة عمليات القرصنة المتزايدة في القرن الأفريقي بسبب غياب مندوبي مصر والصومال عن الاجتماع. وقال دبلوماسيون عرب أن الأمين العام للجامعة العربية طلب تأجيل الاجتماع بسبب غياب مندوبي الدولتين المعنيتين أساسا بالأزمة. وكان هذا الاجتماع هو الثاني المقرر أن يعقده المجلس منذ تشكيله منتصف عام 2008م، بهدف أن يكون آلية لحل الأزمات في المنطقة العربية.   

 

وفي العشرين من نوفمبر سنة 2008م، استضافت القاهرة اجتماعا تشاوريا للدول العربية المطلة على البحر الأحمر، وهي مصر واليمن والسعودية والأردن والسودان وجيبوتي والحكومة الانتقالية الصومالية والجامعة العربية، بهدف تنسيق الجهود لمكافحة ظاهرة القرصنة والإجراءات التي يمكن اتخاذها ليظل البحر الأحمر آمنا من خطر القرصنة. وقد تمخض عن هذا الاجتماع إقرار تشكيل آلية ولجان متخصصة عسكرية وقانونية وفنية واقتصادية في أسرع وقت ممكن لوضع مقترحات لتعزيز أمن وسلامة الملاحة في البحر الأحمر، ومواجهة أي احتمالات لانتقال ظاهرة القرصنة إليه. ومع ذلك، لم نجد شيئا على أرض الواقع. ومن ثم، يحق لنا أن نتساءل: إلى متى تظل أمور العرب بيد غيرهم ؟ ومتى يفيق العرب من غفوتهم وتكون لهم اليد الطولى في معالجة الأمور الخاصة بهم؟     

 

 

 

المصدر: الدكتور أحمد عبد الظاهر
  • Currently 821/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
182 تصويتات / 3557 مشاهدة
نشرت فى 7 يناير 2010 بواسطة law

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

154,936