الدكتور أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

 

الانتحار بين التحريم والتجريم

 

للدكتور أحمد عبد الظاهر

أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة

 

        الانتحار فعل مذموم شرعا. وقد أجمعت كل الأديان السماوية على تحريمه. فالله عز وجل يقول «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة». وفي الحديث النبوي الشريف، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم «لا ضرر ولا ضرار». ومعنى «لا ضرر» أن لا يضر الشخص غيره، ومعنى «لا ضرار» أن لا يضر الفرد نفسه. وإذا كانت النصوص السابقة عامة في كل صور الإضرار بالنفس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد خص الانتحار بأحد الأحاديث النبوية حيث يقول «من قتل نفسه بحديدة فحديدته بيده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن قتل نفسه بسم فسمه بيده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا».

 

        وإذا كانت الأديان السماوية قد أجمعت على تحريم الانتحار، فإن التشريعات الوضعية تختلف في تجريم فعل الانتحار من عدمه. وتنقسم القوانين الوضعية في هذا الشأن إلى طائفتين: الطائفة الأولى من التشريعات لا ترى فائدة من تجريم الانتحار وعقاب فاعله. وعلة ذلك أن من هانت عليه حياته لن يقعده التهديد بالعقوبة عن التضحية بها. ومن حاول الانتحار ففشل أو أصاب نفسه هو شخص مريض نفسيا أو على الأقل يجتاز حالة نفسية شاذة، ويتعين بالتالي علاجه لا عقابه. ولما كانت هذه العلة تصدق بالنسبة للفاعل أي المنتحر ولا تنطبق على الشريك أي من يساعده أو يحرضه على الانتحار، ومن ثم يتعين عقاب هذا الأخير. ولما كان الشريك يستمد إجرامه من إجرام الفاعل، فإن عدم تجريم الانتحار يؤدي إلى عدم عقاب المحرض على الانتحار أو الذي يساعد عليه. لذلك لجأت هذه الطائفة من التشريعات إلى النص على تجريم الاشتراك في الانتحار. وقد أخذ بهذا الاتجاه قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة عند صدوره في عام 1987م. إذ نصت المادة 335 منه على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على خمس سنين من حرض آخر أو ساعده بأية وسيلة على الانتحار إذا تم الانتحار بناء على ذلك. وإذا كان المنتحر لم يتم الثامنة عشرة أو كان ناقص الإرادة أو الإدراك عد ذلك ظرفا مشددا. ويعاقب الجاني بعقوبة القتل عمدا أو الشروع فيه بحسب الأحوال إذا كان المنتحر أو من شرع في الانتحار فاقد الاختيار أو الإدراك».

 

        على النقيض من ذلك، اتجهت الطائفة الثانية من التشريعات إلى تجريم الانتحار. ويقود هذا التجريم إلى عقاب الشريك في الانتحار سواء توفي الشخص أو أن فعله قد وقف عند حد الشروع. أما بالنسبة للفاعل أي الشخص الذي أقدم على الانتحار فلا يمكن عقابه إلا إذا خاب أثر فعله ولم تنجح محاولة الانتحار. إذ أن نجاح المحاولة ووفاته يؤدي إلى انقضاء الدعوى الجنائية في حقه. ولعل ذلك هو السبب وراء اقتصار بعض التشريعات على تجريم الشروع في الانتحار، كما هو بالنسبة لقانون عقوبات أبو ظبي لسنة 1970م، والذي تنص المادة 67 منه على أن «يعاقب بالسجن لمدة قد تصل لعامين أو بالغرامة أو بالعقوبتين معا كل شخص يشرع في الانتحار». والواقع أن هذا النص قاصر، إذ يؤدي التطبيق الحرفي له إلى امتناع عقاب الشريك إذا أفلح المنتحر في محاولته ومات فعلا على أثر ذلك. والأفضل أن يتم النص على تجريم الشروع في الانتحار الأمر الذي يسمح بعقاب الشريك أيضا، وأن يتم كذلك تجريم فعل الشريك إذا تم الانتحار فعلا. وقد فطن المشرع الاتحادي إلى ذلك عند تعديل نص المادة 335 من قانون العقوبات بموجب القانون الاتحادي رقم 34 لسنة 2005م. حيث تنص المادة المشار إليها بعد تعديلها على أن «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر أو بالغرامة التي لا تجاوز خمسة آلاف درهم أو بالعقوبتين معا كل شخص يشرع في الانتحار، ويعاقب بالحبس كل من حرض آخر أو ساعده بأية وسيلة على الانتحار إذا تم الانتحار بناء على ذلك». وتقرر الفقرة الثانية من نفس المادة ظرفا مشددا «إذا كان المنتحر لم يتم الثامنة عشرة أو كان ناقص الإرادة أو الإدراك». وتقرر الفقرة الثالثة عقاب المحرض بعقوبة القتل عمدا أو الشروع فيه بحسب الأحوال «إذا كان المنتحر أو من شرع في الانتحار فاقد الاختيار أو الإدراك».

 

        وعلى هذا النحو، يتضح أن الانتحار والشروع فيه أصبح مجرما بموجب قانون العقوبات الاتحادي بعد تعديله. ولعل اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع هو الذي دفع المشرع إلى تعديل نص المادة 335 من قانون العقوبات الاتحادي. إذ تنص المادة السابعة من الدستور على أن «الإسلام هو الدين الرسمي للاتحاد، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع فيه...». وإذا ثبت أن هذا هو السبب وراء التعديل، غدا من واجبنا التنبيه إلى ضرورة التمييز بين المعصية والجريمة. فالجريمة تنصرف إلى الأفعال الضارة للمجتمع أو لأحد الناس، والتي يؤدي اقتراف إحداها إلى حدوث خلل في سير الحياة في المجتمع. أما إذا كان الفعل ينطوي على مخالفة لأوامر الله عز وجل أو نواهيه دون أن يكون من اللازم تقرير عقوبة دنيوية له، فإننا نكون بصدد معصية لا جريمة. فإذا كل جريمة معصية، فإن العكس غير صحيح. إذ قد يكون الفعل معصية متروك أمر العقاب إليها إلى يوم القيامة دون حاجة لتقرير عقوبة تعزيرية له. وعلى ذلك فإن مدلول المعصية أوسع نطاقا من مدلول الجريمة. والتشريع الجنائي الإسلامي لا يمكن أن يتضمن عقابا لكل المعاصي، إذ أن بعض المعاصي يكون العقاب عليها مؤجلا إلى الآخرة. وفي ذلك تتميز الأديان السماوية عن القوانين الوضعية. ولعل الاقتصار على عقوبة أخروية للانتحار يبدو جليا في الحديث النبوي الشريف الذي ركز على عقوبة المنتحر في الدار الآخرة عندما يقف بين يدي رب العالمين.        

  

المصدر: الدكتور أحمد عبد الظاهر
  • Currently 421/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
107 تصويتات / 2711 مشاهدة
نشرت فى 3 يناير 2010 بواسطة law

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

162,625