الدكتور أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

السينما والقانون

مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر

أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة

 

المبدأ القانوني المقرر هو «عدم جواز الاعتذار بجهل القانون». وقد ورد هذا المبدأ في المادة (42) من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة، والتي تنص على أن «لا يعتبر الجهل بأحكام هذا القانون عذرا». وعلة التمسك بهذا المبدأ هي ارتباطه بالقانون ذاته ولزومه لوجوده لزوم القانون له، وهو فوق هذا صمام الأمان الذي ينضبط بموجبه كل مجتمع يخضع لسيادة القانون، وذلك على أساس أن المساواة في معاملة المخاطبين بالقواعد القانونية تستوجب المساواة في العلم بأحكامها وعدم جواز الاعتذار بالجهل بها([1]).

 

والواقع أن «جمهور الناس ممن لا يتصلون بالقانون إلا عرضا وبقدر، بل وخاصتهم ممن تدخل دراسة القانون في عملهم، أصبحوا يضيقون بحالة السيولة الزائدة التي تصدر بها القوانين في الكثير من الدول في وقتنا المعاصر، ومن تشعب المواد التي تصدر فيها وما يترتب على ذلك من قيام الصعوبة لدى أولئك وهؤلاء في ملاحقتها والتعرف على أحكامها وما هو نافذ وغير نافذ منها»([2]). ولمواجهة هذه الحقيقة، وللتقليل من حالات الجهل بأحكام القانون، ينبغي تيسير وإتاحة سبل العلم بأحكام القانون، فلا يكتفى بمجرد النشر في الجريدة الرسمية، وإنما يتعين – فضلا عن ذلك – نشر التشريعات الهامة في الصحف اليومية([3])، والتركيز على البرامج التليفزيونية الهادفة إلى نشر الثقافة القانونية في أسلوب سهل وميسر. كذلك، يمكن الاستفادة في هذا الشأن من الأعمال التليفزيونية الدرامية والأفلام السينمائية. ولنضرب مثالا هنا بأحد الأفلام السينمائية العربية ذات الحبكة الدرامية الراقية والأداء التمثيلي الرائع والمعلومة القانونية الدقيقة، التي تجعلنا نجزم بأن هذا الفيلم تمت مراجعته بواسطة أحد رجال القانون. ونعني بذلك فيلم «الأخوة الأعداء»، وهو من إنتاج سنة 1974م، ومأخوذ عن رائعة «ديستوفسكي» الخالدة «الأخوة كرمازوف». وهذا الفيلم من إخراج حسام الدين مصطفى، ويلعب دور البطولة فيه كل من حسين فهمي «توفيق» ونور الشريف «شوقي» وسمير صبري «أحمد» ويحيي شاهين «القرماني» ونادية لطفي «لولا» وميرفت أمين «عايدة» ومحيي إسماعيل «حمزة» وأحمد مظهر «القاضي» وصلاح ذو الفقار «وكيل النيابة».

 

وما يهمنا هنا هو التركيز على خمسة مشاهد في هذا الفيلم، لبيان الدور الذي يمكن أن تلعبه الأعمال الدرامية السينمائية والتليفزيونية في نشر الثقافة القانونية. وهذه المشاهد الأربعة وقعت جميعها في الثلث الأخير من الفيلم، وبالتحديد بعد واقعة قتل القرماني.

 

المشهد الأول

 

يجمع هذا المشهد بين توفيق وشوقي داخل زنزانة السجن. حيث أتهم توفيق بقتل والده القرماني، وعندما زاره أخوه شوقي، يقول له توفيق: «هو اللي بيتحكم عليه بالإعدام بيعملوا له جنازة يا شوقي ؟». فهذا السؤال يقودنا إلى البحث عن حقوق المحكوم عليه بالإعدام، وهل يجوز تشييعه في جنازة أم لا ؟

 

وفي الإجابة على هذا التساؤل، يلاحظ أن قانون الإجراءات الجزائية الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة لم يبين الحكم القانوني فيما يتعلق بدفن الجثة، وما هي الجهة المنوط بها ذلك، ومدى حق أهل المحكوم عليه في استلام الجثة والحكم القانوني فيما يتعلق بمحاولة استغلال مراسم الدفن في تمجيد المحكوم عليه، الأمر الذي يمس بالهيبة والاحترام الواجب للأحكام القضائية. وبالإطلاع على القانون الاتحادي رقم (43) لسنة 1992م في شأن تنظيم المنشآت العقابية، نجد أن المادة (57) تنص على أن «تسلم جثة المحكوم عليه بعد التنفيذ لأهله، فإذا لم يتقدم أحد منهم لاستلامها خلال أربع وعشرين ساعة قامت إدارة المنشأة بدفن الجثة دون إخلال بالشعائر الدينية المقررة». ويتضمن هذا النص الحكم فيما يتعلق بحق أهل المحكوم عليه بالإعدام في استلام الجثة، مقررا وجوب تقدم أحدهم لاستلامها خلال أربع وعشرين ساعة من لحظة إعدامه، وإلا سقط حقهم في استلام جثته، وبحيث تقوم إدارة المنشأة ذاتها بدفن الجثة. ويضع المشرع هنا التزاما على عاتق المنشأة العقابية بوجوب احترام الشعائر الدينية المقررة. ولعل أهم هذه الشعائر في الدين الإسلامي، على سبيل المثال، غسل جثة الميت وأداء صلاة الجنازة عليه. غير أن المشرع الإماراتي يغفل بيان الحكم القانوني فيما يتعلق بمحاولة استغلال أهل المحكوم عليه مراسم الدفن في تمجيد المحكوم عليه، وما إذا كان من الجائز تشييعه في جنازة مهيبة على سبيل المثال أم لا. ويختلف القانون الإماراتي في ذلك عن قانون الإجراءات الجنائية المصري. إذ تنص المادة (477) من هذا القانون على أن «تدفن الحكومة على نفقتها جثة من حكم عليه بالإعدام، ما لم يكن له أقارب يطلبون القيام بذلك. ويجب أن يكون الدفن بغير احتفال ما». غير أن المشرع المصري لم يحدد المراد باصطلاح «احتفال»، وما إذا كانت الجنازة تندرج تحت مدلول لفظ «الاحتفال»، أم لا.

 

المشهد الثاني

 

يجمع المشهد الثاني بين شوقي وأحمد، حيث يدور الحديث بينهما داخل فناء المدرسة التي يقوم أحمد بالتدريس فيها. وعندما يوجه شوقي السؤال إلى أحمد عما إذا كان يزور توفيق، يرد عليه بالإيجاب. وهنا يبادره شوقي واصفا توفيق: «حشرة ! حشرة حقيرة سممت حياتنا». فيرد عليه أحمد بأن توفيق برئ و أنت عارف. فيقول شوقي مستنكرا: «وأعرف منين إنه برئ. أنا مش قاضي. فيه قضاة يحكموا إذا كان برئ أو مش برئ». وهنا يقول أحمد: «إحنا لازم نساعده، توفيق ما قتلش». ويرد عليه شوقي متسائلا باستغراب: «أمال مين اللي قتل ؟ مين اللي قتل يا أحمد ؟» فيجيبه أحمد: «انت. أيوه انت. بطريق غير مباشر». فيقول شوقي: «انت بتتهمني أنا يا أحمد». فيقول أحمد: «وها قولك حاجة كمان. انت بتعذبك فكرة إنك قتلت أبوك. عشان كده عايش في وحدة. وحدة مخيفة. عايش في قلق. عصبي». وهنا ينفعل شوقي ويحتد على أخيه: «انت بتخرف. اسمع يا أخينا انت. أنا مش عايز أشوفك تاني». غير أن المشهد لم يوضح لنا كيف قتل شوقي أبيه بطريق غير مباشر. وإنما نجد الإجابة في مشهد آخر يجمع بين شوقي وحمزة. حيث يذهب شوقي إلى حمزة في غرفته. وعندما يفتح حمزة باب الغرفة لشوقي، يبادره الأخير بدفعة قوية كاد يسقط من أثرها على الأرض، ثم يدور بينهما حديث طويل يقول خلاله حمزة لشوقي: «انت القاتل الحقيقي، وأنا المساعد بتاعك، أنا كنت خدامك اللي بينفذ أوامرك. أنا عملت اللي عملته منك. من أفكارك اللي كنت بتعلمها لي». ثم يردد عبارة شوقي الشهيرة: «إذا لم يكن الله موجود فكل شيء مباح حتى الجريمة». ويؤكد حمزة لشوقي أنهما شريكان في جريمة القتل، وأن توفيق بريء. ولكن حمزة يرفض الإدلاء بهذه الأقوال أمام المحكمة، ويلجأ إلى الانتحار حتى لا يضطر إلى الإدلاء بشهادته.

 

ويجدر التنويه هنا إلى أن حمزة كان يقرأ مؤلفات «شوقي»، ومن هنا تأثر بأفكاره وآراءه. والواقع أن شوقي لا يعد شريكا في جريمة القتل. فمن الوجهة القانونية البحتة، لا يمكن اعتباره محرضا على جريمة قتل والده. إذ أن كل ما صدر منه لا يعدو أن يكون كلاما عاما يبيح كل شيء حتى الجريمة. والتحريض في مدلوله القانوني هو خلق فكرة الجريمة لدى شخص، ثم تدعيم هذه الفكرة كي تتحول إلى تصميم على ارتكاب الجريمة. والتحريض بهذا المعنى يقوم على ركنين: ركن مادي قوامه نشاط المحرض المتجه إلى نفسية الفاعل والمنصب على جريمة أو جرائم معينة، وركن معنوي يتخذ صورة القصد الجنائي المتجه إلى تنفيذ الجريمة أو الجرائم موضوع التحريض عن طريق شخص آخر. ويشترط في التحريض أن يكون مباشرا، أي ينصب على فعل إجرامي أو مجموعة أفعال إجرامية. أما التحريض غير المباشر، وهو ما كان موضوعه غير ذي صفة إجرامية، ولكنه أفضى إلى ارتكاب جريمة كان وقوعها لحظة التحريض متفقا مع السير الطبيعي للأمور، فهو لا يصلح وسيلة للمساهمة التبعية. وينبني على ذلك انتفاء التحريض في الفرض الذي يقتصر فيه سلوك الشخص على مجرد خلق العداوة بين شخصين، فتمتلئ نفساهما بالحقد، فيقدم أحدهما على جريمة ضد الآخر. ففي هذا الفرض، لم يكن موضوع التحريض جريمة، وإنما مجرد إفساد العلاقة بين شخصين، وليس هذا الإفساد في ذاته جريمة([4]). وبالمثل، فإن الأقوال الصادرة عن شوقي، والتي يؤكد فيها إباحة كل شيء حتى الجريمة بصفة عامة، لا تندرج تحت مفهوم التحريض، وإنما يسوغ معاقبته – في ظل النصوص السارية في القانون الإماراتي – باعتباره مرتكبا لجريمة تحسين المعصية. إذ تنص المادة (312) البند الثالث من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة على أن «يعاقب بالحبس وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ارتكب جريمة من الجرائم الآتية:... تحسين المعصية أو الحض عليها أو الترويج لها أو إتيان أي أمر من شأنه الإغراء على ارتكابها...». ولا نظير لهذا النص في قانون العقوبات المصري.      

 

المشهد الثالث

 

حدث المشهد الثالث أثناء جلسة المحاكمة. فقد أدلت «عايدة» بشهادتها، منكرة أن يكون توفيق قد هدد أمامها بقتل والده. ولكن قبل نهاية الجلسة، وربما تحت تأثير الغيرة من «لولا» وبدافع الانتقام منها، أو بوازع تبرئة شوقي، تعدل «عايدة» عن شهادتها قائلة أن لديها ورقة مكتوبة بخط يد توفيق، يؤكد فيها عزمه على قتل والده. ومن ثم، يثور التساؤل عما إذا كانت «عايدة» قد ارتكبت جريمة الشهادة الزور، وتقع بالتالي تحت طائلة العقاب.

 

وفي الإجابة على هذا التساؤل، ننوه إلى أن المادة (254) من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة تنص على أن «يعفى من العقوبة: أ- الشاهد الذي أدى الشهادة في أثناء تحقيق جنائي إذا رجع عن الشهادة الكاذبة قبل أن يختم التحقيق، وقبل أن يبلغ عنه. ب- الشاهد الذي شهد في أية محاكمة إذا رجع عن شهادته الكاذبة قبل أي حكم في أساس الدعوى ولو غير نهائي». ومفاد هذا النص توافر مانع عقاب في حق الشاهد الذي شهد في أية محاكمة، إذا رجع عن شهادته الكاذبة قبل أي حكم في أساس الدعوى ولو غير نهائي. ويسري هذا الحكم أيا كان باعث الرجوع عن الشهادة الكاذبة، وما إذا كان الندم ويقظة الضمير أو أي باعث آخر. ولا نظير لهذا النص في القانونين المصري والفرنسي. ومع ذلك، فإن الفقه والقضاء مستقر على أن الشهادة الزور لا تتم إلا بإقفال باب المرافعة في الدعوى، دون أن يعدل الشخص عن شهادته الكاذبة. أما إذا عدل الشاهد عنها، اعتبرت أقواله الأولى كأن لم تكن([5]). وفي ذلك، تقول محكمة النقض المصرية أن «من المقرر قانونا لتوقيع عقوبة شهادة الزور أن يبقى الشاهد مصرا على ما أدلى به من أقوال في شهادته. ومعنى الإصرار هنا أن لا يعدل الشاهد عن أقواله حتى نهاية إجراءات الدعوى وإقفال باب المرافعة فيها. ومتى أقفل باب المرافعة تكون جريمة شهادة الزور قد تمت له على هذه الجريمة. فإذا كان الثابت بالحكم وبمحضر الجلسة أن المتهم لم يعدل عن أقواله التي قررها بصفته شاهدا أمام المحكمة حتى إقفال باب المرافعة في القضية، فعدوله عن شهادته بعد ذلك عند محاكمته على جريمة شهادة الزور لا يجديه نفعا»([6]). وفي ذات المعنى، تؤكد المحكمة أنه «يقتضى لاعتبار الشهادة مزورة ثلاثة شروط، الأول أن تكون كاذبة سواء كانت في صالح المشهود لأجله أو في مضرته، والثاني أن تكون وقعت بعد أداء اليمين القانونية، الثالث أن لا يرجع مؤديها عنها قبل انقضاء المرافعة، ومتى استجمعت شهادة الزور هذه الشروط جاز للمحكمة التي أديت أمامها محاكمة صاحبها (إن كانت ذات اختصاص بذلك) والحكم عليه بما يستحق دون توقف على الحكم في الدعوى الأصلية التي أديت الشهادة فيها»([7]). وتطبيقا لذلك، قضت المحكمة بأنه «إذا كان الشاهد قد عدل في الجلسة عما سبق له أن أبداه من الأقوال الكاذبة إلى ما قرره في شهادته الأولى وجاء عدوله بعد توجيه تهمة شهادة الزور قبل قفل باب المرافعة في الدعوى فإن إدانته على جريمة شهادة الزور لا تكون صحيحة في القانون»([8]). وفي حكم آخر، تؤكد المحكمة أن «للشاهد أن يعدل في الجلسة عما سبق له إبداؤه من الأقوال الكاذبة ولو كان ذلك منه بعد توجيه تهمة شهادة الزور إليه ما دام باب المرافعة لم يقفل، وفي هذه الحالة لا تصح معاقبته على شهادة الزور»([9]). وقضت المحكمة بأنه «إذا رأت المحكمة محاكمة الشاهد على شهادة الزور حال انعقاد الجلسة – عملا بالمادتين 129/ 2 مرافعات و244 من قانون الإجراءات – وجب عليها أن توجه إليه تهمة شهادة الزور أثناء المحاكمة ولكنها لا تتعجل في الحكم عليه، بل تنتظر حتى تنتهي المرافعة الأصلية ولم تكن العلة في ذلك أن الجريمة لم توجد قبل انتهاء المرافعة، إذ هي وجدت بمجرد إبداء الشهادة المزورة، ولكن الشارع رأى في سبيل تحقيق العدالة، على الوجه الأكمل أن يفتح أمام الشاهد المجال ليقرر الحق حتى آخر لحظة، فشهادته يجب أن تعتبر في جميع أدوار المحاكمة كلا لا يقبل التجزئة، وهي لا تتم إلا بإقفال باب المرافعة، فإذا عدل عنها اعتبرت أقواله الأولى كأن لم تكن»([10]). وقد قيل في تعليل ذلك أن الضرر، وهو العنصر الأساسي للجريمة، لا يتواجد عندما يعترف الشاهد بالحقيقة قبل غلق باب المرافعة. ويؤكد الفقيه الفرنسي «جارو» تسليمه بعدم فرض أية عقوبة على الشاهد الذي يدلي بشهادة زور أثناء المرافعات إذا ما تراجع في أقواله قبل غلق باب المرافعات. ولكن من وجهة نظره، فإن السبب في هذه القاعدة يكمن في طبيعة الجرم نفسه لا في عدم وجود أحد العناصر التي تميزه. أما الفقيه «جارسون»، فيرى أن الحجة في تقرير مبدأ عدم إدانة شاهد الزور إذا ما رجع عن  أقواله الكاذبة قبل غلق باب المرافعة تتلخص في أن جميع ما يقرره الشاهد أثناء الدعوى الجنائية يكون وحدة لا تتجزأ، ولا تكتمل الشهادة إلا إذا أغلق باب المرافعة. يضاف إلى ذلك أن السماح للشاهد بالرجوع في أقواله يعتبر سياسة جنائية ماهرة تسمح بالوصول إلى الحقيقة دون أن يتعرض الشاهد للخوف من عقابه عما سبق أن أدلى به كذبا([11]).    

 

المشهد الرابع

 

أما المشهد الرابع، فيتعلق بأداء «شوقي القرماني» شهادته أمام هيئة المحكمة. ووجه الأهمية في هذا المشهد أن شوقي شخص علماني لا يؤمن بالأديان، وينكر الآخرة والحساب بعد الموت. ولذلك، عندما قال له القاضي: «قول والله العظيم أقول الحق»، ينظر شوقي إلى الحاضرين في قاعة المحكمة، وخصوصا أخيه أحمد القرماني، ثم يرد على القاضي قائلا: «أنا ما جيتش هنا إلا عشان أقول الحق». فيطلب منه القاضي مرة ثانية أن يؤدي اليمين، وهنا يضطر شوقي إلى أداء اليمين بصيغته المعهودة: «والله العظيم أقول الحق». ولعل هذا يثير التساؤل عن مدى جواز أداء الملحد للشهادة أمام المحكمة. وإذا كان أداءه الشهادة جائزا، فما هي صيغة اليمين التي يؤديها قبل أداء الشهادة.

 

والحقيقة أن التشريعات الجنائية الوضعية تلزم الشاهد أن يحلف اليمين قبل أداء الشهادة. فالمادة (91) الفقرة الثانية من قانون الإجراءات الجزائية الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة تنص على أن «يجب على الشاهد الذي أتم خمس عشرة سنة أن يحلف قبل أداء الشهادة يمينا بأن يشهد بالحق كل الحق ولا شيء غير الحق، ويجوز سماع من لم يتم السن المذكورة على سبيل الاستئناس بغير يمين». وهذا الحكم ورد في الباب الثاني من الكتاب الثاني من قانون الإجراءات الجزائية الاتحادي، ويتعلق هذا الباب بتحقيق النيابة العامة. ولكن يسري هذا الحكم أيضا فيما يتعلق بالتحقيق الذي تجريه المحكمة أمامها أثناء المحاكمة. إذ تنص المادة (176) من قانون الإجراءات الجزائية الاتحادي على أن «تطبق فيما يخص الشهود أحكام المادة (91) من هذا القانون». وفي التشريع المصري، تنص المادة (283) الفقرة الأولى من قانون الإجراءات الجنائية على أن «يجب على الشهود الذين بلغت سنهم أربع عشرة سنة أن يحلفوا يمينا قبل أداء الشهادة على أنهم يشهدون بالحق ولا يقولون إلا الحق». وحلف اليمين التزام على الشاهد في مرحلة التحقيق الابتدائي كذلك. إذ تنص المادة (116) من قانون الإجراءات الجنائية المصري على أن «تطبق فيما يختص بالشهود أحكام المواد 283 و...».

 

واليمين تعني أن الشاهد يتخذ الله تعالى رقيبا على صدق شهادته، ويعرض نفسه لغضبه وانتقامه إن كذب فيها. وفي هذا المعنى، قالت محكمة النقض المصرية أن «في الحلف تذكير الشاهد بالإله القائم على كل نفس وتحذيره من سخطه عليه إن هو قرر غير الحق»([12]). وعلى هذا النحو، يغدو واضحا الارتباط بين حلف اليمين وبين الاعتقاد بالأديان. ولأن ديانة الشاهد قد تختلف عن الدين الرسمي للدولة، أكدت محكمة النقض المصرية أن أداء الشاهد لشهادته يكون حسب الأصول المرعية في ديانته. ولكن التساؤل يثور حول المقصود بلفظ «ديانته»، وما إذا كان يقتصر على الأديان السماوية فحسب أم يمتد إلى الأديان غير السماوية. كذلك، يبقى التساؤل عن الحكم القانوني بالنسبة للشاهد الملحد، وما هي صيغة اليمين بالنسبة له ؟

 

قد يقول البعض بقياس حالة الشاهد الملحد على حالة الشاهد الأصم الأبكم. فقد قضت محكمة النقض بأن استحلاف الشاهد في الحالة التي يوجب فيها القانون الحلف هو من الضمانات التي شرعت لمصلحة المتهم. ولكن هذه الضمانة لا تطلب إلا حيث يمكن تحقيقها لأن مناط التكليف هو قدرة المكلف على الأداء، فإذا كان الشاهد أصم أبكم جازت شهادته ولو عجزت المحكمة عن استحلافه وعجز الشاهد عن الحلف واكتفت المحكمة بما استخلصته منه بطريق الإشارة عجزا منها عن إمكان الاسترسال في مناقشته لما به من صمم وبكم([13]).

 

في المقابل، قد يرى البعض قياس حالة الشاهد الملحد على حالة الشاهد الذي لم يتم السن المحددة لأداء اليمين قبل الإدلاء بالشهادة. ووجه القياس أن المشرع قدر أن الطفل الذي لم يتم سنا معينة قد لا يدرك قيمة اليمين، ولذا ارتأى أن يكون أداءه للشهادة بغير يمين، وأن تكون على سبيل الاستئناس. ونفس الحال ينطبق على الملحد الذي لا يعتقد بوجود آلهة، ولا يقيم بالتالي وزنا لليمين بصيغته المعهودة. ومن ثم، يغدو من الطبيعي أن يؤدي شهادته بغير يمين، وتكون على سبيل الاستئناس.

 

المشهد الخامس

 

ويتعلق المشهد الخامس بنطق المحكمة بحكم الإعدام على توفيق. وهنا، يجري شوقي إلى القفص مخاطبا ومواسيا توفيق، قائلا: «لسه فيه استئناف يا توفيق». ثم يخاطب المحامي قائلا: «لسه فيه استئناف. مش كده يا ميتر ؟». فيرد عليه المحامي: «فيه نقض». والواقع أن هذا التصحيح الصادر من المحامي يتفق مع الحكم المقرر في القانون المصري، والذي يجعل التقاضي في الجنايات على درجة واحدة، وبحيث لا يجوز الطعن في الحكم الصادر من محكمة الجنايات إلا بطريق النقض (المادة 402 من قانون الإجراءات الجنائية). أما المشرع الإماراتي، فيقرر مبدأ التقاضي على درجتين في مواد الجنايات، بحيث يجوز استئناف الحكم الصادر من محكمة الجنايات (المادة 230 من قانون الإجراءات الجزائية الاتحادي)، ثم سلوك سبيل الطعن بالنقض بعد ذلك (المادة 244 من قانون الإجراءات الجزائية الاتحادي).

 

وفي الختام، نود التأكيد على أهمية الاستفادة من الأعمال الدرامية والسينمائية في نشر الثقافة القانونية. ولتحقيق هذه الغاية، يغدو من الضروري مراجعة هذه الأعمال بواسطة أحد رجال القانون الأكفاء، والتأكد من اتساقها مع أحكام التشريعات السارية. ونعتقد من الملائم في هذا الشأن إعداد برنامج تليفزيوني تقوم فكرته على أساس التعليق القانوني على الأفلام السينمائية، وبحيث يتم اختيار أحد الأفلام أسبوعيا والتعليق عليه من زاوية قانونية بعد إذاعته مباشرة.  

  

 

 

 


([1]) د. عبد السلام مرسي بلبع، تقديم مؤلف «الاعتذار بالجهل بالقانون» للمستشار محمد وجدي عبد الصمد، عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1988م، ص 8 و9.

([2]) د. عبد السلام مرسي بلبع، تقديم مؤلف «الاعتذار بالجهل بالقانون» للمستشار محمد وجدي عبد الصمد، المرجع السابق، ص 7.

([3]) يعمد المشرع الليبي أحيانا إلى النص في بعض التشريعات على نشر القانون في وسائل الإعلام المختلفة، وبحيث لا يكتفي بمجرد النشر في الجريدة الرسمية. فعلى سبيل المثال، وتنص المادة الخامسة عشرة من القانون الليبي رقم 4 لسنة 1423م في شأن تحريم الخمر على أن «ينشر هذا القانون في الجريدة الرسمية وفي وسائل الإعلام المختلفة، ويعمل به من تاريخ نشره». وتنص المادة الثامنة من القانون الليبي رقم 6 لسنة 1423م بشأن أحكام القصاص والدية على أن «ينشر هذا القانون في الجريدة الرسمية وفي وسائل الإعلام المختلفة، ويعمل به من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية». وتنص المادة الثالثة من القانون الليبي رقم 8 لسنة 1423م بشأن حماية المجتمع من الظواهر التي حرمها القرآن الكريم على أن «ينشر هذا القانون في الجريدة الرسمية وفي وسائل الإعلام المختلفة، ويعمل به من تاريخ نشره». وتنص المادة الثانية والثلاثون من القانون الليبي رقم 10 لسنة 1423م بشأن التطهير على أن «ينشر هذا القانون في الجريدة الرسمية وفي وسائل الإعلام المختلفة، ويعمل به من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية».  

([4]) د. محمود محمود مصطفى، شرح قانون العقوبات. القسم العام، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة العاشرة، 1983م، رقم 240، ص 348 و349؛ د. محمود نجيب حسني، المساهمة الجنائية في التشريعات العربية، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1992م، رقم 202، ص 288 وما بعدها؛ د. أحمد فتحي سرور، الوسيط في قانون العقوبات. القسم العام، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1991م، رقم 425، ص 534؛ د. مأمون محمد سلامة، قانون العقوبات، القسم العام، دار النهضة العربية، القاهرة، 1990- 1991م، ص 456؛ د. أحمد عوض بلال، مبادىء قانون العقوبات المصري، القسم العام، دار النهضة العربية، القاهرة، 2005- 2006م، ص 461 و462؛ د. علي حمودة، شرح الأحكام العامة لقانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة، الجزء الأول، النظرية العامة للجريمة، مطبوعات أكاديمية شرطة دبي، طبعة 2008م، ص 377.

[5])) راجع: د. شهاد هابيل البرشاوي، الشهادة الزور من الناحيتين القانونية والعملية، دار الفكر العربي، القاهرة، 1982م، ص 672 وما بعدها.

([6]) نقض 11 نوفمبر سنة 1935م، مجموعة القواعد القانونية، ﺠ 2، رقم 376، ص 498.

([7]) نقض 29 أبريل سنة 1893، مجلة الحقوق، س 8، ص 283.

([8]) نقض 21 مارس سنة 1955م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 6، رقم 221، ص 684.

([9]) نقض 7 يناير سنة 1946م، مجموعة القواعد القانونية، ﺠ 7، رقم 55، ص 48.

([10]) نقض 16 مايو سنة 1959م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 10، رقم 130، ص 583.

([11]) د. شهاد هابيل البرشاوي، الشهادة الزور من الناحيتين القانونية والعملية، المرجع السابق، ص 630 وما بعدها.

([12]) نقض 17 أبريل سنة 1961م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 12، رقم 82، ص 442؛ نقض أول مارس سنة 1965م، س 16، رقم 40، ص 187.

([13]) نقض 22 نوفمبر سنة 1928م، مجموعة القواعد القانونية، ﺠ 1، رقم 20، ص 42.

المصدر: مجلة الميزان، تصدر عن وزارة العدل بدولة الإمارات العربية المتحدة، السنة العاشرة، العدد 115، يونيو 2009م، ص 28 وما بعدها.
  • Currently 696/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
161 تصويتات / 1630 مشاهدة
نشرت فى 30 ديسمبر 2009 بواسطة law

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

154,915