الدكتور أحمد عبد الظاهر أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة

اللغة القانونية ومفرداتها

مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر

أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة

 

        بادىء ذي بدء، أود التنويه إلى أن ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع هو أنني أرسلت بحثا للنشر في إحدى الدوريات المحكمة. وبعد قيام هيئة التحرير بإرسال البحث إلى المحكمين، جاءت تقاريرهم مؤكدة أنه ينطوي على خطأ لغوي، يتمثل في استخدام مصطلح «الكيوف الجنائية». ورغم عدم قناعتي بوجود الخطأ المزعوم، لم يكن أمامي سوى الرضوخ لرأي المحكمين، وقمت فعلا باستبدال تعبير «الأوصاف الجنائية» باصطلاح «الكيوف الجنائية». ولكن في ذات الوقت، تولدت لدي فكرة كتابة المقال الذي نحن بصدده، والذي يتناول اللغة القانونية ومفرداتها، وبيان العلاقة بينها وبين مفردات اللغة العادية.

 

        والعلاقة بين اللغة القانونية واللغة العادية تأخذ صورا متعددة؛ فقد يتطابق المدلول اللغوي مع المدلول الاصطلاحي القانوني([1]). وقد يكون المصطلح القانوني أوسع مدلولا منه في اللغة. وبالعكس، قد يكون المصطلح القانوني أضيق مدلولا منه في اللغة، كما هو الحال بالنسبة للفظ «التزوير» الذي يأخذ في القانون مدلولا أضيق منه في اللغة([2]). وقد يكون للمصطلح القانوني مدلول مغاير للمعنى اللغوي، كما هو الشأن بالنسبة للفظ القانوني «عين»، ومعناه العقار. وأخيرا، قد يعرف القانون بعض المصطلحات التي لا وجود لها على الإطلاق في اللغة([3]).

 

ومن الألفاظ القانونية التي ابتدعها الفكر القانوني والقضائي، والتي قد لا يكون لها نظير في اللغة، نذكر اصطلاح «الكيوف الجنائية». وينسب ظهور هذا المصطلح إلى محكمة النقض المصرية، والتي استخدمته في العديد من أحكامها. فعلى سبيل المثال، قضت المحكمة الكائنة على قمة القضاء العادي في مصر بأن «الأصل أن محكمة الموضوع لا تتقيد بالوصف القانوني الذي تسبغه النيابة العامة على الواقعة المسندة إلى المتهم وأن واجبها أن تمحص الواقعة المطروحة عليها على جميع كيوفها وأوصافها وأن تطبق عليها القانون تطبيقا صحيحا»([4]). وفي حكم آخر، قضت المحكمة بأن «من المقرر أن محكمة الموضوع لا تتقيد بالوصف القانوني الذي تسبغه النيابة العامة على الفعل المسند إلى المتهم وأن من واجبها أن تمحص الواقعة المطروحة عليها بجميع كيوفها وأوصافها وأن تطبق عليها نصوص القانون تطبيقا صحيحا، ذلك أنها وهي تفصل في الدعوى لا تتقيد بالواقعة في نطاقها الضيق المرسوم في وصف التهمة المحالة عليها بل أنها مطالبة بالنظر في الواقعة الجنائية التي رفعت بها الدعوى على حقيقتها كما تتبينها من الأوراق ومن التحقيق الذي تجريه بالجلسة. وأن ما تلتزم به في هذا النطاق هو ألا يعاقب المتهم عن واقعة غير التي رودت بأمر الإحالة أو طلب التكليف بالحضور»([5]). وفي حكم ثالث، تقول المحكمة أن «الأصل أن المحكمة لا تتقيد بالوصف القانوني الذي تسبغه النيابة العامة على الفعل المسند إلى المتهم بل هي مكلفة بتمحيص الواقعة المطروحة أمامها بجميع كيوفها وأوصافها وأن تطبق عليها نصوص القانون تطبيقا صحيحا دون حاجة إلى أن تلفت نظر الدفاع إلى ذلك، ما دام أن الواقعة المادية المبينة بأمر الإحالة والتي كانت مطروحة بالجلسة هي بذاتها التي اتخذها الحكم أساسا للوصف الذي دان المتهم به دون أن تضيف إليها المحكمة شيئا»([6]). وفي حكم رابع، تقول محكمة النقض أن «المحكمة مكلقة بأن تمحص الواقعة المطروحة أمامها بجميع كيوفها وأوصافها وأن تطبق عليها نصوص القانون تطبيقا صحيحا ولو كان الوصف الصحيح هو الأشد ما دامت الواقعة المرفوعة بها الدعوى لم تتغير وليس عليها في ذلك إلا مراعاة الضمانات التي نصت عليها المادة 308 أ. ج»([7]). وفي حكم خامس، تقول المحكمة «من المقرر أن محكمة الموضوع لا تتقيد بالوصف الذي تسبغه النيابة العامة للفعل المسند إلى المتهم بل من واجبها أن تمحص الواقعة المطروحة عليها بجميع كيوفها وأوصافها وأن تطبق عليها نصوص القانون تطبيقا صحيحا، ذلك أنها وهي تفصل في الدعوى غير مقيدة بالواقعة في نطاقها الضيق المرسوم في وصف التهمة المحالة عليها بل أنها مطالبة بالنظر في الواقعة الجنائية على حقيقتها كما تتبين من عناصرها المطروحة عليها ومن التحقيق الذي تجريه بالجلسة، وكل ما تلتزم به هو ألا تعاقب المتهم عن واقعة غير التي وردت في أمر الإحالة أو طلب التكليف بالحضور»([8]). وفي حكم سادس، قضت المحكمة بأن «من المقرر أن محكمة الموضوع مكلفة بأن تمحص الواقعة المطروحة عليها بجميع كيوفها وأوصافها وأن تطبق نصوص القانون تطبيقا صحيحا على الوقائع الثابتة في الدعوى ما دامت لم تخرج عن حدود الواقعة المرفوعة بها الدعوى أصلا»([9]). وفي حكم سابع، قضت محكمة النقض بأن «محكمة الموضوع ملزمة بأن تمحص الواقعة المطروحة أمامها بجميع كيوفها وأوصافها وصولا إلى إنزال حكم القانون صحيحا عليها دون أن تتقيد بالوصف القانوني الذي أسبغته النيابة العامة على الفعل المسند إلى المتهم»([10]). وقضت بأن «المحكمة مكلفة بأن تمحص الواقعة المطروحة أمامها بجميع كيوفها وأوصافها وأن تطبق عليها نصوص القانون تطبيقا صحيحا، ولو كان الوصف الصحيح هو الأشد ما دامت الواقعة المرفوعة بها الدعوى لم تتغير»([11]).

 

وقد قصدت من وراء ذكر الأحكام القضائية آنفة الذكر – رغم كثرتها وأنها تدور جميعا في ذات المعنى – التأكيد على أن الأمر لا يتعلق بحالة فردية أو استخدام شاذ قامت به إحدى دوائر المحكمة، وإنما يتعلق الحال باستخدام متكرر متواتر، وعلى مدى أجيال عديدة ومتعاقبة من قضاة محكمة النقض المصرية.

 

وقد ورد مصطلح «الكيوف الجنائية» أيضا في بعض أحكام المحكمة الاتحادية العليا لدولة الإمارات العربية المتحدة. فعلى سبيل المثال، تقول المحكمة – في أحد أحكامها – أنه «لما كان من الأصول المقررة في الإجراءات الجزائية – وعلى ما جرى به قضاء هذه المحكمة – أن محكمة الموضوع يستوي في ذلك أن تكون محكمة أول درجة أو محكمة ثاني درجة لا تتقيد بالوصف القانوني الذي تسبغه النيابة العامة على الفعل المسند إلى المتهم إذ من واجبها أن تمحص الواقعة المطروحة عليها بجميع أوصافها وكيوفها وأن تطبق عليها نص القانون تطبيقا صحيحا دون حاجة إلى أن تلفت نظر الدفاع إلى ذلك ما دام أن الواقعة المادية المبينة بتقرير الاتهام والتي كانت مطروحة بجلسة المحاكمة هي بذاتها التي اتخذها الحكم أساسا للوصف الذي دان المتهم به دون أن تضيف إليها المحكمة شيئا»([12]).

 

كذلك، ورد مصطلح «الكيوف الجنائية» في مؤلفات بعض كبار فقهاء القانون الجنائي([13]). واللفظ «كيوف» جمع «تكييف»، أي الوصف الإجرامي. فالوصف الإجرامي للوقائع المقامة بها الدعوى هو تكييفها القانوني. والتكييف القانوني للوقائع هو عبارة عن العلاقة بين تلك الوقائع وبين قانون العقوبات، بمنح الوقائع إسما قانونيا لجريمة، وينطوي منح هذا الإسم في القانون الجنائي على نتيجة ملازمة، هي تطبيق العقوبة المنصوص عليها لتلك الجريمة. فالوصف القانوني للوقائع بهذا المعنى هو عصب الحكم القضائي، وتتوقف صحة هذا الوصف على التحديد المنضبط للعلاقة التي تربط الوقائع بقانون العقوبات([14]).

 

وإذا كان السبب الدافع وراء كتابة هذا المقال شخصيا، ويتمثل في الواقعة سالفة الذكر في مقدمة المقال، فإن الهدف من نشره موضوعي بحت. فالمرجو من هذا المقال هو لفت الأنظار إلى ضرورة الاهتمام بالاصطلاح القانوني، من حيث نشأته وتطوره وبيان مدلوله على نحو دقيق، وبيان الألفاظ أو المصطلحات المرادفة له أو التي تقترب منه في معناه أو في أثره. ونعتقد أن ذلك يمكن أن يشكل فرعا جديدا من فروع علم القانون، يطلق عليه علم الاصطلاح القانوني. ولا شك ان ذلك يشكل نقطة البداية نحو صدور قاموس أو معجم قانوني عربي متخصص، لعله يكون معينا للمشتغلين بعلم القانون، وللقائمين بالترجمة القانونية، لاسيما وأن هذه الطائفة الأخيرة قد لا تتوافر لها المعرفة الواسعة بالمصطلحات القانونية، ويكونون عادة من الحاصلين على مؤهل دراسي في إحدى اللغات الأجنبية، ثم يحصلون بعد ذلك على دورة متخصصة في المصطلحات القانونية لا تتجاوز مدتها بضعة أشهر.   

 

 


[1])) راجع على سبيل المثال: حكم النقض المصري، 17 فبراير سنة 1975م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 26، رقم 30، ص 175. وتؤكد محكمة النقض في هذا الحكم أن «المراد بالسب في أصل اللغة الشتم سواء بإطلاق اللفظ الصريح الدال عليه أو باستعمال المعاريض التي تؤدي إليه، وهو المعنى الملحوظ في اصطلاح القانون الذي اعتبر السب كل الصاق لعيب أو تعبير يحط من قدر الشخص عند نفسه أو يخدش سمعته لدى غيره».

([2]) راجع في بيان ذلك: مقالنا عن التزوير في صورة المحرر، مجلة العدالة، تصدر عن وزارة العدل بدولة الإمارات العربية المتحدة، س 33، العدد 125، يناير 2006م، ص 13 وما بعدها.

([3]) راجع في صور العلاقة بين اللغة القانونية واللغة العادية: مؤلفنا عن استيقاف الأشخاص في قانون الإجراءات الجنائية، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006م، ص 21.

([4]) نقض 15 مايو سنة 1978م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 29، رقم 95، ص 516؛ نقض 21 مارس سنة 1977م، س 28، رقم 79، ص 366.

([5]) نقض 20 فبراير سنة 1982م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 33، رقم 29، ص 244.

([6]) نقض 16 مايو سنة 1977م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 28، رقم 128، ص 604.

([7]) نقض 6 أبريل سنة 1982م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 33، رقم 93، ص 461.

([8]) نقض 25 مارس سنة 1973م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 24، رقم 83، ص 393؛ نقض 6 فبراير سنة 1972م، س 23، رقم 32، ص 117؛ نقض 17 يونيو سنة 1968م، س 19، رقم 146، ص 721.

([9]) نقض 8 يناير سنة 1973م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 24، رقم 15، ص 61.

[10])) نقض 6 فبراير سنة 1982م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 33، رقم 31، ص 155.

([11]) نقض 17 أكتوبر سنة 1966م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 17، رقم 181، ص 977.

([12]) حكم المحكمة الاتحادية العليا، 4 يناير سنة 1988م، الطعنان رقما 30 و33 لسنة 9 القضائية، مجموعة الأحكام، س 10، رقم 7، ص 60.

([13]) راجع على سبيل المثال: أستاذنا الدكتور أحمد فتحي سرور، دور محكمة النقض في توحيد كلمة القانون، منشور في شبكة الانترنت على الموقع التالي: (www.tashreaat.com)؛ د. محمد زكي أبو عامر، الإجراءات الجنائية، دار الجامعة الجديدة للنشر بالإسكندرية، 2008م، رقم 378، ص 696؛ د. سليمان عبد المنعم، دروس في القانون الجنائي الدولي، دار الجامعة الجديدة للنشر بالإسكندرية، 2000م، ص 125؛ مسئولية المصرف الجنائية عن الأموال غير النظيفة، ظاهرة غسيل الأموال، .

([14]) د. محمد زكي أبو عامر، الإجراءات الجنائية، المرجع السابق، رقم 378، ص 696.

المصدر: مجلة الميزان، تصدر عن وزارة العدل بدولة الإمارات العربية المتحدة، السنة العاشرة، العدد 116، يوليو - أغسطس 2009م، ص 20 وما بعدها.
  • Currently 801/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
180 تصويتات / 5902 مشاهدة
نشرت فى 29 ديسمبر 2009 بواسطة law

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

154,931