أثر التضخم على عقوبة الغرامة
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر
أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة
يعرف الفقه الجنائي عقوبة الغرامة بأنها أداء المحكوم عليه مبلغا من المال إلى خزينة الدولة. وفي ذات المعنى، تنص المادة (71) من قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة على أن «عقوبة الغرامة هي إلزام المحكوم عليه أن يدفع للخزينة المبلغ المحكوم به...». وقد ورد نفس التعريف في المادة (22) من قانون العقوبات المصري، بنصها على أن «العقوبة بالغرامة هي إلزام المحكوم عليه بأن يدفع إلى خزينة الحكومة المبلغ المقدر في الحكم...». والغرامة عقوبة مالية، لها ذات خصائص وأحكام العقوبات الجنائية. فالغرامة تخضع لمبدأ الشرعية، بحيث ينبغي أن يقررها القانون، ولا يستطيع القاضي أن يحكم بها من أجل جريمة لم يجعل المشرع الغرامة إحدى عقوباتها، وحين يقرر القانون الغرامة عقوبة لجريمة، لا يجوز للقاضي أن يتخطى الحدود التي وضعها القانون.
ويتبنى قانون العقوبات الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة خطتين في تحديد مقدار الغرامة: الأولى، أن يقررها بين حد أدنى وحد أقصى، تاركا للقاضي سلطة تقديرها بينهما. ويطلق على الغرامة في هذه الحالة اصطلاح «الغرامة البسيطة». أما الخطة الثانية في تحديد مبلغ الغرامة، فتقوم على الربط بينه وبين الضرر الفعلي أو الاحتمالي للجريمة، أو بينه وبين الفائدة التي حققها الجاني أو أراد تحقيقها من وراء ارتكاب الجريمة. ويطلق على الغرامة المحددة على هذا النحو مصطلح «الغرامة النسبية». وسميت هذه الغرامة نسبية لأنها تتناسب مع ضرر الجريمة أو فائدتها على النحو آنف الذكر. فهذا النوع من الغرامة لا يعرف التحديد الجامد لمبلغ الغرامة مقدرا بعملة الدولة، وإنما يختلف مقدارها وفقا لمقدار ضرر الجريمة أو الفائدة التي حققها الجاني من الجريمة. ومن ثم، فإن التضخم وإنخفاض قيمة العملة لا يثير أدنى مشكلة بالنسبة لهذا النوع من الغرامة. وإنما يثور التساؤل بالنسبة للغرامة البسيطة في حالة انخفاض قيمة العملة الوطنية التي تم تحديد مقدار الغرامة على أساسها. إذ قد يجد المشرع نفسه مضطرا إلى التدخل – من حين لآخر – لتعديل مبلغ الغرامة، بحيث يغدو متناسبا مع الزيادة في نسبة التضخم. لأن هذا التدخل لا شأن له بخطورة الجاني أو زيادة جسامة الجريمة، لذا يغدو من الملائم البحث عن السبل الكفيلة بحل هذه المشكلة من جذورها.
وبالاطلاع على القوانين المقارنة، نجد أن بعض التشريعات تغفل تحديد مبلغ الغرامة، وبحيث يكون للقاضي نفسه الحكم بأي مبلغ يراه، دون أن يكون ملزما بمراعاة حد أقصى أو حد أدني لعقوبة الغرامة. ولعل أبرز مثال على ذلك يكمن في المادة (34) البند الأول من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م، والتي تنص على أن «تقدر المحكمة الغرامة بالنظر إلى طبيعة الجريمة المرتكبة وقدر الكسب غير المشروع فيها ودرجة مشاركة الجاني وحالته المالية».
وفي بعض الدول الاسكندنافية، كفنلندا والسويد، ثمة نظام يقوم على أن تقدير الغرامة يحسب وفقا للدخل اليومي لمرتكب الجريمة، مع مراعاة أعبائه العائلية، ويضرب هذا الدخل في عدد معين يختلف باختلاف جسامة الجريمة. وقد تبنى المشرع الفرنسي هذا النهج مؤخرا. وميزة هذا الحل أنه يكفل أيضا تفادي أحد الانتقادات الموجهة لعقوبة الغرامة. إذ يعيب البعض على الغرامة أنها عقوبة لا يتحقق فيها مبدأ المساواة بين المحكوم عليهم. فغرامة بمبلغ معين يتفاوت تأثيرها بتفاوت درجة ثراء المحكوم عليه؛ فإن كان ثريا، فقد لا يحس به. وإن كان فقيرا، فهو ينوء به.
ويأخذ القانون الإيطالي بحل وسط بين الحل السابق والحل الذي أخذ به المشرع الإماراتي. إذ تنص المادتان (24) و(26) من قانون العقوبات الايطالي على أنه إذا رأي القاضي، بسبب ظروف المتهم الاقتصادية أن الغرامة التي حددها القانون غير منتجة، حتى ولو حكم بحدها الأقصى، فله أن يرفعها إلى ثلاثة أمثالها. ونصت الفقرة الثانية من المادة (65) من المشروع على أن «يراعي القاضي في تقدير الغرامة الحالة المالية للمحكوم عليه، وله أن يجاوز الحد الأقصى بما لا يزيد على ضعفه إذا رأي محلا لذلك». وقريب من ذلك نهج المشرع الألكاني، إذ تنص المادة 27 (ج) من قانون العقوبات الألماني على أن «يتعين أن يراعى في تقدير الغرامة جميع الظروف الاقتصادية للفاعل. وجب أن يجاوز مبلغ الغرامة ما يكون الفاعل قد حصل عليه من كسب كثمرة لجريمته. وإذا لم يتح الحد الأقصى المقرر قانونا للغرامة تحقيق ذلك ساغ تجاوز ذلك الحد».
وأخيرا، قد يكون من المناسب للقضاء على مشكلة انخفاض الأثر الرادع لعقوبة الغرامة بفعل التضخم أن يتدخل المشرع بوضع نص عام ضمن الأحكام العامة لقانون العقوبات، يتقرر بمقتضاه زيادة الحد الأقصى لعقوبة الغرامة نسبة معينة سنويا، يتم تحديدها في ضوء معدل التضخم في السنوات العشر السابقة على وضع مثل هذا النص مباشرة، كأن يتم النص مثلا على زيادة الحد الأقصى لمبلغ الغرامة المقرر في النصوص العقابية بمقدار 5 % سنويا.
ساحة النقاش