خواطر لدنية

قال تعالى: ( وَعَلّمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْماً )

قال الزبيدي : ( الخاطر ) ما يخطر في القلب من تدبير ، أو أمر ، جمعه : الخـواطـر .
وإلى هذا المعنى أشار الزمخشري فقال : الخواطر : ما يتحرك بالقلب من رأي أو معنى .
- وهذه المعاني فيها دلالة واضحة لمعنى ( الخواطر ) المتداول عند العلماء في كتبهم المصنفة
وهذا ما سوف نلحظه بعد قليل من خلال النقول الثابتة عنهم .

استخدام معنى الخواطر عند العلماء ومشتقاتها :

يقول الوفاء ابن عقيل  في مقدمة كتابه "الفنون" : أما بعد فإن خير ما قطع به الوقت ، وشغلت به النفس ، فتُقرِب به إلى الرب جلّت عظمته : طلب علم أخرج من ظلمة الجهل إلى نور الشرع ، وذلك الذي شغلتُ به نفسي ، وقطعت به وقتي . فما أزال أعلق ما أستفيده من ألفاظ العلماء ، ومن بطون الصحائف ، ومن صيد الخاطر التي نثرتها المناظرات ، والمقابسات في مجالس العلماء ، ومجامع الفضلاء ، طمعا في أن يعلق بي طرف من الفضل ، أبعُدُ به عن الجهل ، لعلي أصل إلى بعضِ ما وصل إليه الرجال قبلي .... الخ.
ويقول الوفاء ابن عقيل أيضا : إني لا يحل لي أن أضيّع ساعة من عمري ، حتى إذا تعطلّ لساني عن مذاكرة أو مناظرة ، وبصري عن مطالعة ، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره ..... الخ .

- يقول ابن رجب عن كتاب "الفنون" : أكبر تصانيف ابن عقيل كتاب "الفنون" وهو كتاب كبير جداً . فيه فوائد كثيرة جليلة في الوعظ والتفسير والفقه ولأصلين والنحو واللغة والتاريخ والحكايات ، وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له ، وخواطره ونتائج فكره قيّدها فيه .

- يقول ابن الجوزي : لما كانت الخواطر تجول في تَصفّح أشياء تَعرض لها ، ثم تُعرض عنها فتذهب ، كان من أولى الأمور حفظ ما يخر لكيلا ينسى . وقد قال عليه الصلاة والسلام (( قيدوا العلم بالكتابة )) – الحديث موقوف على أنس- وكم قد خطر لي شيء ، فأتشاغل عن إثباته فيذهب ، فأتأسف عليه . ورأيت نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر، سنح له من عجائب الغيب ، ما لم يكن في حساب فانثال –تتابع- عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه ، فجعلت هذا الكتاب قيداً ، لصيد الخاطر . والله ولي النفع إنه قريب مجيب .

- يقول ابن القيم رحمه الله : فهذا ما في هذه المسألة المشكِلَة من الأسئلة والمباحث ، علقتها صيد السوانح الخاطر فيها ، خشية ألا يعود فليسامح الناظر فيها ، فإنها عُلقت على حين بعدي من كتبي وعدم تمكني من مراجعتها . وهكذا غالب هذا التعليق ، إنما هو صيد خاطر . والله المستعان .

- يقول علي الطنطاوي رحمه الله- عن كتاب صيد الخاطر : وفي هذا الاسم توفيق عجيب : ذلك أن الخواطر لا تفتأ تمر على الذهن ، كأنها الطيور التي تجوز سماء الحقل ، تراها لحظة ثم تفقدها ، كأنك ما رأيتها ، فإذا أنت اصطدتها وقيدتها ملكتها أبداً .
ولو أن كل عالم ، بل لو أن كل متعلم قيد ما يمر بذهنه من الخواطر لكان من ذلك ثروة له وللناس : يعود هو بعد سنين إلى ما كتب ، فيرى فيه تاريخ تفكيره ، ويجد فيه ما افتقد من نفسه . والإنسان أبداً في تبدل ، يذهب منه شخص ويولد شخص ، وحينما تقرأ وأنت شيخ خواطرك التي سجلتها وأنت شاب تجد شيئا غربيا عنك ، كأنك ما كنت أنت صاحبه ، وكأنه خطر على بال غيرك .
- يقول الدكتور / عبد الرحمن البر  ممن حقق صيد الخاطر- : شأن الخواطر ألا ترتبط بموضوع معين ، ولا بترتيب معين ، وأن تأتي متفرقة حسبما يتسق في الخاطر ، وحسبما تكون حالة الكاتب النفسية ، وأنها في كل موضوعاتها تنضح بفكر كاتبها وثقافته وطريقته في النظر والتعامل مع الأشياء والأشخاص .
ومن أهم دلالات الخواطر أنها تعطي صورة صادقة وصحيحة للعصر والزمان والأحداث التي عايشها – صاحبها - .


ظهر مما سبق أن معنى الخواطر عند العلماء موحّد لا يتجاوز المعنى اللغوي من جهة المقصود . فالخواطر : مفردها الخاطر : وهو ما يخطر في القلب من تدبير أمر ، فيقال خطر ببالي وعلى بالي . كما ذكر الفيومي في المصباح .
من هذا المعنى اللغوي ذكر العلماء أن الخواطر : هي اقتناص بنات الأفكار ، وتسجيل الإلمعات الذهنية ، فهي إذاً : نابغة من شغاف القلب ، وأعماق الروح ، وخلجات المشاعر .
باختصار الخواطر : لمحات ... وسوانح ... وإشراقات ...وومضات ... ولطائف علمية ، ودقائق فكرية ، ومعلومات متناثرة ، واستنباطات متكاثرة .

 : نلحظ أن من خصائص الخواطر : أنها بحاجة إلى كدِّ الذهن ، وكدح الفكر في البحث والتنقيب .
صاحب الخواطر لا بد أن يكون لمَّاحاً ... وقّاداً ... يقظاً ... سيّال القلم ... حاضر الفكر ... سهل العبارة ... مترصداً للأحداث والمواقف ... يجعل من لا شئ شيئاً ... يحلل المواقف بموضوعية ... لاينجس حق الآخرين . لا تجده ضيق العطن ... متحجر الفكر ... مكدَّر الخاطر ... متبلِّد الإحساس ... يتعامل مع الأحداث بسطحية وبنظرة قاصرة .

أنها لا تحد بموضوع ولا كتاب ، ولا يجمعها باب . فالخواطر : تجمع أنواع العلوم ، وألوان الفنون . من كل بحر قطرة ، ومن كل روض زهرة ، ومن كل وادٍ حجرة . وهذا يتحقق في تبحر صاحبها ، وتفنن كاتبها .

* من خصائص الخواطر : أنها تختلف قوتا وضعفا من شخص إلى شخص ، بل تختلف خواطر الشخص الواحد من حال إلى حال ، ومن موقف إلى موقف ، ومن فن إلى فن .
بحسب ما تحمله العبارة ، وما تجود به الخاطرة .
* والخواطر قد لا ترتبط بوقت سوى ما يعتري النفس من أمزجة ، ومن راحة بال ، وطمأنينة فؤاد . وعدوّها اللدود : تشتت الأفكار ، وسيطرت الهموم والأحزان ، والإغراق في بحر التمني والأوهام .

* الخواطر : قد تأتي في قوالب شتى مثل : الفوائد .. الشوارد .. النكت . فهذه الألفاظ والمصطلحات قريبة المعاني قد يُعَرِّفُ بعضها بعضاً ، مترادفة في الاستخدام ، قد يدخلها العموم والخصوص من جهة اللغة .

- الفوائد : في عُرف المؤلفين تطلق على : جمع كثير من الشوارد ، والدقائق التي يدركها العالم ، أو يستنبطها من النصوص ، أو من الواقع ، أو منهما معاً ، خلال تجربته الطويلة ومعاناته الشخصية .
وهذه المصطلحات : الخواطر – والفوائد – والنكت – والشوارد .
قد تتباين في المادة تبايناً عظيماً من كاتب إلى كاتب ، ومن عالم إلى عالم .
فقد تجد كتابا موسوماً بالفوائد . وتجده خاصا بفن من الفنون .
وتجد آخراً في النكت فتجده كذلك . بل ربما تجد أن أكثر من استخدم هذا اللفظ هم المحدثون ، فهو عندهم يطلق على : الفوائد الخفيّة ، والاستنباطات النادرة في هذا الفن .
وهذا نفسه يقال : في الشوارد والخواطر . قد يشتهر إطلاقهما على فن من الفنون . وهذا لا يعني حصر استعمالهما على هذا الفن أو علة هذه الفكرة .
من فوائد الخواطر : أنها تعطي صورة صادقة ، ودلالة واضحة عن صاحبها ، وعن تفكيره كيف هو ؟! ما هي طموحاته ورغباته ؟ طبيعته .. شخصيته .. واقعه .. تعامله .. كل ذلك – وغيره – تجده ماثلاً في خواطره وكتاباته بالمنطوق ، أو بالمفهوم . لذلك أجرى كثير من الباحثين دراسات وكتابات عن بعض العلماء من خلال خواطرهم المدونة في كتبهم .
كمن أجرى دراسة عن الإمام ابن حزم من خلال كتابه الصغير حجما ، والكبير مضموناً "الأخلاق والسير" . وكمن أجرى دراسة كذلك عن ابن الجوزي من خلال كتابه "صيد الخاطر" . وهكذا .
وهذا يحتاج إلى فهم ثاقب ، ومعرفة بدلالات الألفاظ التي يستخدمها ذلك العالم في كتابه. فابن حزم مثلاً : كتابه عميق وعبارته موجزة ؛ يحتاج إلى معرفة للألفاظ وبيان المعنى المقصود الذي أراده ابن حزم ، أو ابن الجوزي مثلا .

والله أعلم وعليه التكلان وهو حسبي ونعم الوكيل .
إلى هنا انتهى بيان ما أردناه ، إن أصبت فمن الله ، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان .

المصدر: kwatr
kwatr

الفقير لفتح ربه

  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 869 مشاهدة
نشرت فى 26 مارس 2011 بواسطة kwatr

ساحة النقاش

الفقير لفتح ربه راشد بدوي

kwatr
قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدّبّرُوَاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكّرَ أُوْلُو الألْبَابِ) [سورة: ص - الأية: 29] »

تسجيل الدخول

أدخل كلمة البحث

عدد زيارات الموقع

145,241

وما يعلم تأويله إلى الله

إن علم التفسير
من أشرف العلوم
فيكفيه شرفا
 أن موضوعه كلام الله